هناك من لا يرى للإسلاميين من دور في الحكم إلا أن يشتغلوا مثل 'كاسحة ألغام'، يجابهون الفساد والاستبداد الذي تجذر في المؤسسات وسرى فيها سريان النار في الهشيم،فإن هلكوا في بعض تلك الأودية فقد أراحوا واستراحوا، وإن انتصروا فمعارك أخرى تنتظرهم على الأبواب ، أما أن يتركوا بصمتهم في الإعلام أو التعليم أو الاقتصاد أو الثقافة والاجتماع فهذا ما لا تقره 'ديمقراطية الأقلية'. مازال قسم من الحداثيين وقسم من الإسلاميين يتلعثمون في القبول بالديمقراطية، رغم أنها تقدم بديلا عن ثقافة التكفير والتفجير والاقتتال، وبديلا عن ثقافة الاستقواء بالخارج والاستعمار الفكري. هذا التلعثم سببه خوف بعض الإسلاميين من كون الديمقراطية تجعل حكم الأغلبية فوق 'الحاكمية' لله ولرسوله، وسببه أيضا خوف الحداثيين من أن تكشف الديمقراطية عوراتهم باعتبارهم أقلية متنفذة، وتهدد امتيازاتهم ومصالحهم ومواقعهم التي حصّلوها وحصّنوها بالعنف والسند الخارجي والتماهي مع أنظمة الاستبداد قبل أن يسقطها الربيع الديمقراطي. الغرب أيضا متردد في دعم الديمقراطية ما لم يتأكد من أنها تحمل معها القيم المسيحية اليهودية التي أفرزت مؤسساتها العالمية، في غياب أي دور يذكر للجامعة الإسلامية بعد الحربين العالميتين، أو تحافظ على مصالحه في منطقة حيوية تستحوذ على مخزون هائل من الطاقة الضرورية لحركة الاقتصاد العالمي والتحكم في السياسة الدولية. لكن مع مجيء الثورات العربية التي هزت المنطقة وأسقطت الأقنعة، ومع بروز الفاعل السلفي كلاعب يصعب تجاوزه، وخطأ المراهنة على أنظمة فاشلة وأقلية حداثية مجتثة الجذور، بدأ الغرب يلتفت إلى الإسلاميين المعتدلين باعتبارهم بديلا مقبولا في المنطقة، وعلى حد تعبير المثل المغربي " اللهمّ العمش ولا العمى ". الديمقراطية كما يفهمها الناس هي اختيار الشعب لمن يحكمه وبما يحكمه، هي تصريف عقلاني للخلاف وتداول سلمي على السلطة وتنافس شريف بين برامج ومرجعيات متنوعة وأحيانا متناقضة، الكلمة الأخيرة فيها للشعب، وإن شئت فقل للأغلبية الحاضرة لا الأغلبية الغائبة، مع حفظ حق الأقلية في المعارضة السلمية وحق الأغلبية الصامتة في تغيير موقعها. الديمقراطية تعني مجموعة آليات وقيم من أجل التعايش السلمي بين الشعوب والقبائل والثقافات المتنوعة على قاعدة "إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" لا "لتعاركوا". الديمقراطية تعني محاسبة المسؤولين عبر مؤسسات منتخبة وإعلام نزيه و صحافة حرة تجهر بكلمة الحق ولا تخاف في الله لومة لائم، وعبر نقابات مسؤولة لا تمتهن ثقافة المزايدة بل تقدم أداء الواجبات على المطالبة بالحقوق، وعبر احتجاجات سلمية لا تنتقم من مؤسسات الدولة التي بنيت بأموال الشعب، ولا تنتقم من رجال الأمن لأنهم جهاز قمع. الديمقراطية هي دولة القانون الذي يتساوى أمامه الناس : " الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق"، والديمقراطية هي أن يستفيد الجميع من عائد الثروة، كل بحسب بلائه وجهده وعطائه، وللعاجز والضعيف حق في مال القوي الغني. الديمقراطية تعني أن يكون الإعلام والتعليم والثقافة والفنون في خدمة مشروع الأغلبية وبرنامجها الذي صوّت عليه الناخبون، لا أن تكون هذه الأدوات لهدم وتحطيم ما يبنيه القادة السياسيون، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. الديمقراطية تعني حرية الرأي وحرية إنشاء الأحزاب والجمعيات، وتعني ( لا إكراه في الدين) و(فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر)، دون تشويش على عقائد العامة لأن مسألة الدين بالغة الخطورة، ولا يمكن السماح بالتلاعب بها، فلا يمكن باسم الحرية والحق في الاختلاف السماح للشواذ المجرمين المخالفين للفطرة بالخروج للعلن، ولا يمكن باسم الحرية وحق الاختلاف السماح ل'وكّالين رمضان' باستفزاز مشاعر الأغلبية بالأكل وتبادل القبل والتدخين نهارا جهارا في الشهر الفضيل: شهر رمضان. كما لا يعقل باسم الحرية أن تعرض المرأة عضلاتها في الفضاء العام ولسان حالها يقول : هل من مبارز؟ فإذا تقدم سفيه للمبارزة جرّمناه باسم التحرش الجنسي. الحرية لا تعني أن يتكلم كل من هبّ وذبّ، فإذا نطق عالم بكلمة الحق أو الخطأ عزلناه، كما فعل بالعلامة بنشقرون لما انتقد استقدام 'إلتون جون' لحفل موازين وهو يشهر شذوذه واتهامه للسيد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكما يراد اليوم للشيخ النهاري بسبب قوة خطابه والجماهير الملتفة حوله، ثم بعد ذلك نضحك من علمائنا إذا انشغلوا بمسائل الوضوء ومستجدات الجنس. الديمقراطية لا تعني التمويل الأجنبي بالملايير لجمعيات بعينها تخدم أجندة محددة، وإغلاق دور القرآن والتضييق على الثقافة الدينية المعتدلة واتهامها بتفريخ الإرهاب، وهي أولى من يستطيع منازلة الفكر المدمّر الخوارجي. الديمقراطية لا تعني فرض "موازين" على الشعب بأموال الشعب من أجل إلهاء أبناء الشعب عن الجد والاجتهاد والتهيء للامتحانات لبناء مستقبل الشعب. قالوا إن ل'موازين' جمهورا عريضا، وهل هذه حجة ؟ كلما فتحت بابا للشهوات إلا ازدحم الناس أمامه، ولو جعلت للخمر أو لدور الدعارة أو المخدرات سوقا بالمجان لتقاتل الناس حوله، فهل نشرعن هذه الآفات لأن لها سوقا رائجة وجمهورا عريضا؟ إن الناس بحاجة لمن يعينهم على تقوى الله وطاعته، لا من يفتح عليهم أبواب الشرور . تلك كانت بعض صور استبداد الأقلية المتنفدة في مجتمعات يراد لها أن تساق بالعصا الأجنبية، ولكن هيهات.. * عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية