باريس سان جيرمان بطلا لكأس السوبر الأوربي    أب أبكم وابنه يلقيان حتفهما غرقاً في حوض مائي بنواحي قلعة السراغنة    تمتد على مساحة 500 هكتار ... جهود متواصلة للسيطرة على حرائق الغابات شمال المملكة ولا خسائر بشرية    المحلي ينهي الاستعدادت للقاء زامبيا    باريس سان جرمان يحرز كأس السوبر الأوروبية على حساب توتنهام            هذا ما قضت به ابتدائية برشيد في حق المتهم في قضية الطفلة غيثة    خلاف بين حبيبين وراء واقعة رشق سيارة بالحجارة بتارودانت    منحة سنوية بقيمة 5000 درهم لأساتذة المناطق النائية    سلوك اللاعبين في مباراة كينيا يُكلف الجامعة غرامة من "الكاف    موريتانيا "تفاجئ" بوركينافاسو بالشان    حرب تجارية تشتعل بين الصين والاتحاد الأوروبي    المداخيل الجمركية بالمغرب تتجاوز 54,79 مليار درهم وتواصل صعودها    الزاوية القادرية البودشيشية: منير القادري يواجه شائعات التنازل عن المشيخة ويؤكد الثبات على القيادة    المغرب يحقق أول زراعة كلية بين متبرع ومتلقٍ بفصائل دم مختلفة    وفاة مبدع «نجمة أغسطس» و«اللجنة».. صنع االله إبراهيم    "آخر اختيار" يتوج بجائزة أفضل فيلم روائي بالهند    نادي سينما الريف يطلق أوراشًا لكتابة السيناريو للشباب    الطماطم المغربية تغزو السوق الدنماركية وتسجل نموا قياسيا في الصادرات    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر    واشنطن: الاعتقال بسبب الرأي مستمرفي المغرب.. والزفزافي معتقل تعسفيا.. و67% من القوة العاملة في القطاع غير المهيكل    "مناجم"... رقم المعاملات يبلغ 4،42 مليارات درهم عند متم يونيو 2025    المادة 17 من قانون المسطرة المدنية بين النظام العام والأمن القضائي    المغرب: إشعاع ثقافي متصاعد وتحديات تمثيل صورته في السينما الأجنبية    على بعد مسافة…من حلم    الناشط أسيدون يلازم العناية المركزة    المغرب يسجل 49.2° بالعيون وفوارق حرارة قياسية تصل إلى +17° خلال "الصمايم"    رواج ينعش استعمال "كتابة النساء" في الصين        الدكتور بوحاجب: غياب مراقبة الجودة أحيانا يفتح المجال أمام التلاعب بصحة الناس..!!    ذكرى استرجاع وادي الذهب.. المشاريع الملكية تحوّل الصحراء المغربية إلى قطب اقتصادي وتنموي متكامل    نائب يميني متطرف يستفز المغرب برفع العلم الإسباني على صخرة محتلة قبالة الحسيمة    أول تعليق للقوات المسلحة الملكية بخصوص واقعة فيديو "تعنيف مهاجر" قرب سبتة    وزراء خارجية 24 دولة يطالبون بتحرك عاجل لمواجهة "المجاعة" في غزة            تفشي بكتيريا مرتبطة بالجبن في فرنسا يودي بحياة شخصين ويصيب 21 آخرين    هل ‬دخلنا ‬المرحلة ‬ما ‬قبل ‬الأخيرة ‬لتطبيق ‬مقترح ‬الحكم ‬الذاتي ‬؟ ‬    إطلاق الصاروخ الأوروبي أريان 6 إلى الفضاء    راشفورد ينتقد يونايتد: "يفتقر إلى الخطط"    دول أوروبية تتوعد النظام الإيراني بإعادة تفعيل آلية العقوبات    فرنسا.. توقيف مراقب جوي بعد قوله "فلسطين حرة" لطاقم طائرة إسرائيلية    تراجع الدولار مع ترقب خفض أسعار الفائدة الأمريكية في شتنبر    الذكرى ال 46 لاسترجاع إقليم وادي الذهب.. ملحمة بطولية في مسيرة استكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    تسكت تتألق في أمسية "رابافريكا"    بوتين يشيد بالقوات الكورية الشمالية    اعتقال شخص بعد إطلاق نار داخل مطار سيدني        دورة سينسيناتي لكرة المضرب: ألكاراس يتأهل لثمن النهاية    غزة: صندوق الثروة السيادية النرويجي يسحب استثماراته من 11 شركة إسرائيلية    عوامل تزيد التعب لدى المتعافين من السرطان    دراسة: استعمال الشاشات لوقت طويل قد يزيد خطر الإصابة بأمراض القلب لدى الأطفال والمراهقين    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الجبار الرفاعي ملهما للتفكير الديني الجديد في المغرب
نشر في هسبريس يوم 02 - 06 - 2013


تقديم لابد منه
قرأت اسم عبد الجبار الرفاعي أول مرة في مجلة وجدتها عند صاحب كشك صغير بمدينة أكادير جنوب المغرب بعنوان: "قضايا إسلامية" منذ مايقرب من عشرين سنة؛ تحولت بعد ذلك إلى "قضايا إسلاميةمعاصرة".أثارتني مواضيعها واستفزني الحس النقدي البارز الذي يسكن مقالاتها. كما أغرتني المقدمات النقدية التي يكتبها مديرها الدكتور عبد الجبار الرفاعي، أو يقدم بها لملفاتها الغنية والخطيرة والمتعلقة بتجديد التفكير الديني. وأصبحت مداوما على اقتنائها والاطلاع على أغلب دراساتها.
وفي سنة 2003م قدر لي أن أذهب إلى الحج، وقدر أن ألتقي بالدكتور عبد الجبار الرفاعي، في رحاب الحرم المكي، وعلى هامش ندوة الحج، التي تنظمها سنويا وزارة الحج السعودية، فاكتشفت أنه مفكر عراقي عاش بين العراق وايران ولبنان. ورافقته قرابة شهر، فاكتشفت فيه عالما متضلعا ومفكر ناقدا ومثقفا عضويا استثنائيا. وجدت الرجل صاحب شبكة علاقات متنوعة وغنية تربطه بكل ألوان الطيف الفكري في العالم العربي والإسلامي. والعجيب في هذا الرجل أنه انفتح علي من دون حواجز، واصطحبني معه إلى جل الملتقيات الفكرية التي يحضرها في الحج،وهي كثيرة بالمناسبة. ورافقته في زيارة استثنائية للعلامة محمد حسين فضل الله،رحمه الله، وقضينا معه لحظات فكرية ممتعة ومتنوعة، رفقة صديقي الدكتور فريد شكري، الأستاذ بجامعة الحسن الثاني بالمحمدية، والدكتور سعيد شبار، الأستاذ بجامعة "مولاي سليمان ببني ملال، المغرب.
وخلال مدة شهر، اكتشفت عبد الجبار الإنسان والعالم؛رجل هادئ الطباع وغني من حيث الاطلاع الإسلامي، صاحب قدرة فكرية ومنهجية على تركيب أفكار نقدية واجتهادية، وبروح نقدية عميقة، وسعة صدر رحبة ومثيرة. باحث ومفكر مطلع على التراث ومستوعب بشكل متعمق لثقافة العصر، ومدارسه الفلسفية والفكرية والنقدية.رجل متخلق وعميق التدين؛ رأيته يرتعش ويبكي أمام الكعبة، كما رأيته بحسه النقدي الصارم، وشجاعته الفكرية عند النزال المعرفي والمقاربة التحليلية للفكر الديني، فاكتشفت فلسفته الفكرية والتي عبر لي عنها، وكتبها أكثر من مرة، وهي أن الدين أبدي في الحياة البشرية، وأن نزعة التدين كما يعيشها تمثل بالنسبة له ظمأ أنطولوجيا لا يروى، وهو الذي كان يقول لي في مكة، ونحن في الفندق، في العزيزية بمكة، في منتصف الليل، هيا بنا إلى الحرم لنرتوي بالنظر إلى الكعبة والصلاة ! فظمؤه الديني يروى بالتواصل مع المطلق، والذي يتجسد عنده في الإيمان والأخلاق والنزعة الإنسانية.
ومن خلال هذه "الصحبة" لهذا العالم المتخلق، ازددت يقينا بقيمة النقد من داخل الفضاء الديني، وبقدرة الفكر النقدي على بناء معمار ديني مملوء بالإنسانية والأخلاقية والإيمان، قادر على إرواء ظمأ الإنسان المعاصرالحائر.
وعند عودتي إلى المغرب تمتنت اتصالاتي بعبد الجبارعبر الإنترنيت،وأخبرت زملائي الباحثين بعلاقاتي به، وعرفت بفكره، وبمجلته وسط أصدقائي في أكادير أولا، ثم في المغرب ثانيا، وعند بعض أصدقائي في بلاد أخرى. وكنا ننتظر، بشوق كبير، صدور عدد جديد من المجلة التي كان لها الأثر الكبير على الشباب الديني في أكادير وفي المغرب، وكنا عندها حديثي عهد بمغادرة التنظيم، والبحث عن آفاق جديدة ورحبة، لا تضيق بالسؤال وبالنقد.
دور مجلة قضايا إسلامية معاصرة في تعزيز مسار التجديد الديني في المغرب
عرفت من خلال ملازمتي وصحبتي للدكتور عبد الجبار الرفاعي في مكة خبايا هذه المجلة – الظاهرة الفكرية ! فقد تأسست أولا سنة 1994 تحت اسم " قضايا إسلامية"،ثم أصبحت "قضايا إسلامية معاصرة"، تحمل رسالة طموحة وعنيدة وأحلاما عريضة بتجديد الفكر الديني وتحديثه بروح اجتهادية متوثبة وحس نقدي شجاع. فأخرجت بذلك المجلة نقاشات المثقفين الدينيين، ذوي النزوع النقدي، من الحلقات المغلقة والجلسات المحدودة في الحوزة العلمية في قم، لتلتحم بالنقاشات النقدية في الفضاء السني، في مجال التداول العام. وكأني بالمجلة تعيد الدور الذي قام به المفكر القلق أبو حيان التوحيدي، فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، لما أخرج مناقشات "إخوان الصفا"، إلى العلن وضمنها كتابه "المقابسات" ! ودعمت المجلة خطها الفكري بسلاسل كتب تجاوزت اليوم المائة، وبمركز يسمى: "مركز دراسات فلسفة الدين" في بغداد، في إطار فلسفة فكرية تقوم على النقد والطموح الجامح للتجديد والاجتهاد وإعادة بناء النظام الفكري والديني للأمة.
ومما زادنا ارتباطا بهذه المجلة الظاهرة الفكرية، أنها تقوم، في جميع مراحلها الفكرية والتحريرية والفنية، على عمل تطوعي شريف وغير مسبوق؛ إذ لا تتوفر لها ميزانية، كما تحرر مواضيعها في أكثر من بلد، ويقود فريق تحريرها عائلة الدكتور عبد الجبار الرفاعي، بتدبير مقتدر من المناضلة (أم محمد)، الأم والزوجة، ويتولى الابن الإخراج والتنظيم، ويشرف الدكتور الرفاعي على العلاقات العامة، وعلى التواصل مع الكتاب، وعلى اقتراح المحاور، وعلى الإشراف العلمي على التحرير. فبهذا المجهود العائلي الاستثنائي، مازالت هذه المجلة مستمرة، لم تفرط لحظة في جودة المادة الفكرية التي تقدمها لقرائها على طول العالم العربي والإسلامي.
ومن خلال هذه المجلة – الظاهرة الفكرية، انفتحت أمام الشباب المغربي، في أكادير وغيره، آفاق جديدة للتفكير الديني؛ فاقتنعنا بأن التاريخ لم يعد يصنعه الأبطال ولا الأيديولوجيات، في هذا الزمن الإفتراضي الذي سطت فيه على الإنسان تكنولوجيا المعلوميات. كما لم يعد ممكنا التفكير المغلق داخل إطار المفاهيم والآراء الموروثة، بل لابد من تدشين حالة فكرية جديدة، تقوم على السؤال الذي ينسل منه سؤال وأسئلة، والخروج من دائرة الجزمية في المجال اللاهوتي، وصياغة رؤى تقوم على النقد والنقاش، خارج أي منطق تبشيري أو دعائي،ظاهر أو متستر، لمفكر أو لمركز أو لدولة أو لطائفة.
وظلت المجلة وفية لموضوعها الرئيس ، أي "المعرفة الدينية"؛ من منطلق أصالة الدين في حياة الإنسان، الدين مجسدا في السلوك والشعائر والطقوس والممارسات، من خلال تمثلات متنوعة تغشى الاجتماع البشري كله. فالدين ليس هامشيا في حياة الإنسان، كما تدعي بعض المقاربات المتحيزة والعدوانية ضد الدين وضد المتدينين، بل هو الحاسم في مراحل ومنعطفات هامة في التاريخ. فعمليات التغيير الاجتماعي والسياسي ترتبط، بشكل جدلي معقد ومتين، مع تحولات المقدس وتمثلاته وتوظيفه. حتى إن هابرماس اعتبر كل ماعدا الدين "ثرثرة ما بعد الحداثة". وسعت المجلة من خلال دراستها والمقدمات التوجيهية لمديرها عبد الجبار الرفاعي إلى التأكيد على أن أبدية الدين لا تعني سكونه وجموده وثباته، بل هو متحرك ومتغير؛ فهو موجود باستمرار، لكن تجلياته متنوعة، كما أنه يتعرض لتوظيف الناس وتلاعباتهم؛ إذ يوظف في المعارك السياسية والصراعات الاجتماعية، كما يخضع لأنماط من التفسير والتأويل تستجيب لمتطلبات الفضاء البشري المتغير.
ورغم الطابع المعاصر والسجالي للقضايا الفكرية التي تطرقها المجلة، وكذا التداعيات السياسية لتلك القضايا، ظلت المجلة ذات منحى تخصصي، مما يعوق تداولها وانتشارها وسط عامة المثقفين والمهتمين. كما ظلت وفية لسقف الحرية المرتفع والواسع، وظلت أقدر من غيرها على استيعاب الأفكار والأفكار المضادة، سواء صدرت عن الحداثيين أو عن المحافظين. كما أخرجت، بأسلوبها الاستيعابي، القارئ من تقاطبات "الطائفية الثقافية والفكرية"، التي ترسخها بعض المنابر والمجلات والمراكز مما يغذي الاستقطاب الطائفي، ويزكي الصراع المذهبي المدمر على صعيد الأمة، من خلال الترويج لمذهبيات سياسية ميتة أو قاتلة، ومغلقة ومعادية للإنسان، ولحرياته وحقوقه.
وفتحت المجلة آفاق البحث الديني في المغرب، من خلال نشر أبحاث ودراسات معمقة في الفكر الديني لنخبة من الكتاب والباحثين والمفكرين المتخصصين، من خلال استثمار العلوم الاجتماعية والإنسانية في تحليل الظواهر الدينية. كما حملت تلك الأبحاث والدراسات والمقدمات نفسا شجاعا في المراجعات النقدية والحوارات والنقاش لمختلف المقولات والمفاهيم والرؤى المتداولة في المعرفة الدينية.
وتميزت المجلة بموضوعية التعامل مع الباحثين؛ إذ لم تتحيز لفئة دون أخرى، ولم تروج لمقولات مفكر دون غيره، وعادة ما تنشر الرأي والرأي النقيض، في القضية الواحدة، في إطار الاستيعاب النقدي للمعرفة الدينية وللتراث. وكان مساهمة، بذلك، في مساعدة القارئ على بناء عقلية نقدية وتركيبية، تنحاز لمطلب المعرفة على مطلب الأيديولوجيا. فالمجلة تعمق الفهم النقدي التركيبي للموروث الديني، وتدعو إلى التحرر من المواقف التبسيطية الساذجة في التعاطي مع التراث، باعتباره كما من النصوص يلزم حفظها واجترارها خارج عمليات التحليل والتدبر والنقد والتركيب. كما رسخت المجلة أهمية العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة في دراسة المعرفة الدينية، خاصة فلسفة العلم (الإبستمولوجيا)، وعلم النفس (السيكولوجيا)، وعلم الاجتماع (السوسيولوجيا)، وعلم الإناسة (الأنثروبولوجيا)، والقانون، والعلوم السياسية، واللسانيات، والتأويليات (الهيرمينوطيقا)؛ استثمار أدواتها التحليلية والتفسيرية والإجرائية في قراءة النص الديني، ودراسة أنماط التجارب الدينية، والخبرات السلوكية المؤسسة على الإيمان الديني.
أطروحة عبد الجبار الرفاعي الفكرية
إن المتأمل في المنجز الفكري الواسع للدكتور عبد الجبار الرفاعي، يمكن أن يلخصه في فكرتين أساسيتين ومنطلق منهجي، مما كان له الأثر الواسع على البحث الديني الحديث، ليس في المغرب وحسب، بل في العالم الإسلامي برمته؛ والفكرتان هما: إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، وتحديث التفكير الديني، والمنطلق المنهجي هو: المنطلق الذاتي للتحديث.
ويتجلى مطلب إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، عند عبد الجبار الرفاعي، في سعيه إلى تحرير الدين مما يسميه ب "الفهم المتوحش"؛ فهم يحول الدين إلى منبع للعدوان والتعصب والكراهية. ويكون التحرير والإنقاذ بكشف النزعة الإنسانية العميقة في الدين والمتمثلة في الجوانب التنزيهية السامية، والتي تصطفي الإنسان، وترفع مكانته ،وتلح على تكريمه، حيا وميتا، وأن حياته هي مناط الاستخلاف والتكليف، وموطن المسؤولية والأمانة التي يحملها.
ويقتضي إبراز النزعة الإنسانية في الدين، بنظر عبد الجبار الرفاعي، تخليصه من التوظيفات البغيضة التي زجت به في حروب دموية "مقدسة"، واستعماله للتحريض على الموت، وتعبئة الأتباع وإلقائهم في معارك تنتهك كافة المحرمات. كما تقتضي هذه الوظيفة الإنقاذية تجاوز الأطروحات التحديثية المقلدة، خصوصا في العالم العربي، والتي تربط النزعة الإنسانية بسياقات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية غربية، تشكلت في القرن الثامن عشر في أوربا بعد القطيعة مع اللاهوت الديني الوسيطي؛ أي أن النزعة الإنسانية، وفق هذه المقاربة المحدودة، لا يمكن أن تتمحور حول "الاله"، وإنما حول "الإنسان"، وهو ما لم يحصل في الماضي ويحصل اليوم ! لكن القراءة النقدية للتاريخ، والقراءة التحليلية للنصوص الدينية،والتقويم النقدي للموروث الديني الإسلامي، هذا العمل الذي أنجزه عبد الجبار الرفاعي وينجزه، هو الذي يمكننا، بنظره ، من النفاذ إلى البؤر المضيئة في النصوص، والتراث المتنوع الذي يحمله؛ من منطلقات أساسية، وأهداف عامة، ومقاصد كلية، بعيدا عن الإسقاطات الأيديولوجية الإقصائية والمعتقدات القمعية. عندها نستطيع، بنظر الرفاعي، التخلص من نزعات الهيمنة بالدين، وإخضاع الناس، ومراقبة الضمائر، وتفتيش العقائد.
إن إحياء النزعة الإنسانية في الدين، من منظور الرفاعي، يقوض الطاغوت، ويفضح المشروعيات الزائفة القائمة على تأويل متوحش للدين. والنزعة الإنسانية لا تنتعش إلا في أجواء الحرية والديمقراطية، وسيادة قيم التعدد والاختلاف المؤسسة للمجتمع المتمدن.
ولا يخفي عبد الجبار الرفاعي أن مجهود إحياء النزعة الإنسانية في الدين سيتعرض لمقاومة اللاهوت الكلاسيكي القائم على التفسيرات المتعسفة والقمعية للنصوص، وعلى الصورة النمطية "للإله" المستلب لحالات ذهنية ومصالح اجتماعية للاهوتيين أو السياسيين.فالنزعة الإنسانية في الدين تستلهم الصفات الجمالية للاله وأسمائه الحسنى: الرحمن، الرحيم، القدوس، السلام، المؤمن، البارئ، المصور، الوهاب، الرزاق، البصير، العدل، اللطيف، الحليم، الشكور، الكريم، المجيب، الواسع، الحكيم... وهذا الاستحضارالإنساني والجمالي للإله، يعاكس المقاربات السلفية التي تتكتم عن المعاني الإنسانية في الدين، لتنحت دينا خاصا بها، وتشكله في إطار وعيها وخلفياتها وتحيزاتها وافتراضاتها الذهنية؛ دين غريب عن الدين المؤسس؛ أو قل بتعبيرعلي شريعتي: "دين ضد الدين"، أو بتعبير الصادق النيهوم: "إسلام ضد الإسلام" ! دين مشبع بالإكراه والقيود والإصر والأغلال؛ أي مجموعة من المقولات والشعارات المغلقة التي تستنزف الطاقة الحيوية والإبداعية والإنسانية لرسالة الدين، وتحوله إلى ركام من الأعباء ينوء الناس بحملها؛ دين مملوء بقيم بدوية رديئة.
إن إنقاذ النزعة الإنسانية للدين، من منظور الأطروحة الفكرية لعبد الجبار الرفاعي، تعني استيعاب الحياة الروحية الخصبة في الدين، وإحياء التجارب الإيمانية المتنوعة، للعيش في عالم ممتلئ بالمعنى، يتخلق فيه الإنسان بأخلاق الله، وفي مقدمتها حب الآخرين، وتمني الخير لهم. فالحب هو منبع إلهام الحياة الروحية، ومصدر الانجذاب إلى الله تعالى. والحب رحمة، وهو الابتعاد عن مظاهر الكراهية والإكراه.
أما فكرة تحديث التفكير الديني، في المشروع الفكري لعبد الجبار الرفاعي، فيمكن تلمس معالمه في المقدمات التي يضعها الرفاعي بين يدي الملفات المتخصصة للمحلة؛ وكذا في الدراسات التي ينشرها في أكثر من منبر؛ فقد تعرضت مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" بالنقد والدراسة والتحليل للمؤسسات الدينية، باعتبارها نمطا من التمثلات الاجتماعية للدين، وبحكم تأطيرها داخل سوسيولوجيا الجماعة ومطامعها وأغراضها وانتظاراتها ونماذجها المعرفية. فالمؤسسة، سواء كانت دينية أو سياسية، هي تعبير عن المصالح، الظاهرة والخفية، في المجتمع. لذلك تتم دراسة الظاهرة الدينية كظاهرة اجتماعية وليست ظاهرة عابرة للمجتمع والتاريخ، كما تريد أن تقنعنا به التيارات الدوغمائية والمثالية. ولكن، رغم ذلك، فالمؤسسة الدينية، وهي منطلق التحديث الديني بنظر الرفاعي، تتمتع بسلطة معنوية ورمزية رهيبة؛ إذ تخضع، بشكل طوعي، أتباعها، وتوفر لذاتها من خلالهم إمكانيات ضخمة مادية ومعنوية. لذا فإن التحديث الديني لابد أن يمس المؤسسة الدينية لدورها الخطير في المجتمعات التقليدية. وتحديث هذه المؤسسة، بنظر الرفاعي، له ارتباط جدلي وثيق بتحديث المجتمع الذي يحضنها وتنمو فيه وتتحرك وتؤثر. وعليه، لابد من إقناع المؤسسة الدينية بضرورة التحديث، من منطلق أن المعرفة الدينية جزء من المعرفة البشرية المتداخلة والمتشابكة، من منظور فلسفة العلم، مما يقتضي استجابة المعرفة الدينية في بناها التحتية العميقة للتحولات التي تعرفها المعرفة البشرية، وإلا ستبقى خارج التاريخ وخارج التطور وخارج الأجندة الإنسانية المعاصرة.
ويحدد الرفاعي منطلقا منهجيا أساسيا لإنجاز هذه المهمات التجديدية في المعرفة الدينية، وهو ما يسميه ب "المنطق الذاتي للتحديث"؛ أي المراهنة على التحديث من داخل الفضاء الديني، وتجاوز المنطق الخارجي في التحديث الذي رفع لواءه رفاعة رافع الطهطاوي، والذي وصل إلى الباب المسدود، وعمق التقاطب الجذري بين الإسلاميين والعلمانيين؛ كتجل سياسي اليوم لفشل مشروع التحديث الديني من الخارج.
إن تحديث التفكير الديني من خارج المؤسسة الدينية، ومن خارج الفضاء الديني، بنظر عبد الجبار الرفاعي، عملية محدودة وفاشلة، في غياب الاستيعاب الداخلي للمنطق الديني، واستئناف وتركيب المعارف الإسلامية. ولهذا السبب يكون تجديد الفقهاء وعلماء الدين، على الرغم من محدوديته من حيث السعة العقلية والفكرية، أكثر أثرا ممن يحملون لواء التحديث من خارج الفضاء الديني. ولنا عبرة في حركة الإصلاح الديني في أوروبا التي قادها مارتن لوثر. فتحديث المسجد لا ينبثق إلا من داخل المسجد، عندها يتوفر التحديث على المشروعية، كما يتوفر له حامل اجتماعي، الشيء الذي تفتقده الدعوات التحديثية من خارج الفضاء الديني، فتبقى معزولة بدون أثر، لأنها تقدم نماذج تحديثية هجينة ومغتربة بل وممسوخة، غير قادرة على التأثير على الحركات الاجتماعية والسياسية، عكس عمليات التحديث الذاتي بمنطق داخلي، مدعمة بمشروعية ذات عمق سوسيولوجي وأنثروبولوجي، وليس عمقا ميتافيزيقيا أو فقهيا وحسب. ويعمق من هذه المفارقة ركوب النماذج التحديثية من خارج الفضاء الديني على مقاربات ضحلة للدين والمقدس بعامة، تفتقد إلى التعمق في الدين ودراسة التراث الديني، والمعرفة الدقيقة بمسالكه ودروبه، فتقتصر تلك المقاربات التحديثية من خارج، على الشعارات، وسرعان ما تتحول إلى مدونات في السباب والتهجم على الدين وعلى المتدينين بعناوين هجائية صاخبة وعصابية، ومقولات جارحة للضمير الديني للناس؛ هجاء لمقدساته ورموزه بعبارات قاسية وصادمة، مما يولد ردود فعل عنيفة من الناس، الذين تنتابهم حالة نفسية دفاعية وطبيعية بسبب خشيتهم على مقدساتهم ورموزهم الدينية، وهي عندهم ممتلكات رمزية وروحية ثمينة، مما يزيد يكرس حالة من التدين ذي البعد الواحد، والذي تنادي به الجماعات السلفية فتهدر، بذلك، مضامين الدين الروحانية والمعنوية والإنسانية.
إن عبد الجبار الرفاعي،المفكر العراقي الرحالة، لم يكن مدير مجلة وحسب، كما أن المجلة لم تكن منبرا إعلاميا وحسب، بل أبدع مجلة هي في حد ذاتها ظاهرة ثقافية معاصرة، حاملة لروح التجديد الديني بمنطق ذاتي، وكان بمثابة منسق لخطوط فكرية تبدو متباعدة، لكنه استطاع تقريبها وخلق التكامل بينها بحكم خبرته الفكرية الواسعة، من أجل تجديد ديني ذاتي ينزع نزوعا إنسانيا خارج المذهب وخارج الطائفة. لذا لن يستغرب قارئ المجلة وجود عبد الكريم سروش ومصطفى ملكيان ومجتهد شبستري إلى جانب محمد أركون ومحمد سبيلا وعبد المجيد الشرفي، إلى جانب طه عبد الرحمن وأبي القاسم حاج محمد وطه جابر العلواني، وكوكبة من المفكرين والباحثين الشباب المسكونين بهم الإبداع والنقد والتجديد، مما كان له الأثر على الحاسة النقدية والتحليلية للشباب الديني في المغرب. فشكرا عبد الجبار الرفاعي وشكرا مجلة "قضايا إسلامية معاصرة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.