للذي لا يعرف السياسة وتكهُّناتها، ولا يدري بأي وجه تمارس، وللذي يمارس التجارة وعينه على كرسي الإدارة، وللذي لا يقف على أرض صلبة، تحركه التيارات ويهتز مثل ورقة في مهب الريح، للحالمين بعد جذب بتذوق كعكة العيد، للفقراء أينما أمموا وجوههم لطلب الغوث، ولا مغيث، للمعاقين ذهنيا الذين يتنفسون هواء الوطن ولا يعرفون ما هو الوطن، للأيامى، وجيوش الغوث الذين يكنسون شوارع المملكة، للنائمين في سخونة أفران الخبز، وللمجانين الذين رفع عنهم القلم، إذ لا حاجة له ولو في خط برقية تعزية، لسائق العربة في طرقات قاتلة، وللحارس الذي يرقب أحجيات الليل آمنا في وطن آمن، للمهاجرين جنوب الصحراء الذين تقاسموا معنا شظف العيش... لكل هؤلاء أقول صبرا فإننا في محنة! ننا في زمن غير الزمن، وفي طريق أممت لتبعدنا عنا، إننا في انتكاسة اليأس والبؤس، في الدواوير الحالكة ومدن الصفيح الساخن، لا تهب علينا النسائم إلا خطئا، نظن إننا أحياء إذ تحيى مُهجٌ...، قلقين من غدنا المتَوثب، ننتظر "مقدم الحومة" وهو يحمل إشعارا بالإفراغ أو أمرا بالهدم، ننتظر شماتة أن تسقط الشجيرات التي تخبئ الغابة، لنقول إنَّ دورنا آت، نرقب مشهد جارنا الذي ألفناهُ ترمى بضاعته في الخلاء، يتعرى من ردائه ليسكن العراء، وأطفاله هذا اليوم لا يدرون أي مدرسة في الوطن ستكون سكنا لأحلامهم الصبية، ننتظر أن يصدر حكم منصف في ابن القرية الذي سرق أعواد الغابة ليتدفأ من الصقيع، وفي جارته التي تركت عنزاتها سائبات في الغابة، ننتظر المشهد أن يتضح أكثر، والخطاف يسرق الخشبات ويحزمهن في جرابه ليفر في سرب الصقور، أليس هذا مشهدا سرياليا! ننتظر المحكمة المنصفة لتبث في الحكم الجائر للحكومة الموقرة وهي تشهر استئنافها ضد أبناء المقهورين، لكم يا أحبتي كل القهر فإن على الأرض ما يستحق الحياة! دوختنا الدولة بنفيرها، وجاء حراس المعبد بغزواتهم، جاء الطابور الخامس بتاريخه العفن، بوضاءته وملائكته، ليشيعوا الوجوه الكالحة والتاريخ المجيد لأمة مجيدة، جاؤوا من كل حدب ليدفنوا ما تبقى لنا من عزة، وليعلوا أعلام الدنجوان الأوحد، اهتفوا باسم الرب ليعلو مجده الآفاق، وتشيعوا للمرشد فإن له سُنَّة في المريدين لا يخطئها التقدير، اكتبوا على صفحات التاريخ أن زمن البطولات انتهى. وأن الذين ماتوا من أجل القضية مغفلون، واعلوا عرش من أراق الدم الغادر لخلاف على الهوية، اطربوا له ليمنحكم بطاقة اعتراف، فقد علا أصواتكم الصدأ، وكأَنَّ بنا صَممُ، راقبوا المشهد التعبان جيدا واصمتوا، إذ توزع البركات والدقيق المدعم مع كل آذان، ويخرج حراس المعبد بعد كل صلاة ليكفروا بالسياسة وبرب القبيلة، من أسلم لا يسلم القوم من لسانه ويده، ألاَ بطشا وما هي إلاّ غزوة، ألاَ سحقا لنا في المعترك إذ يفتي السادن بنفينا جميعا كي لا نشوش على انتصاره الساحق، أو نعرقل إصلاحه الغادر، فالسياسة تغني عن الخبز، والخبز لا مكان له في جوف المؤمن "فإنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس وأيام قلائل" ألا سحقا لنا إن غنينا في العراء لنصنع الفرح، وتبا إن تظاهرنا بعد شبع، والثبور لمن عارض إصلاح الأمة، وإن كان في بطنه مخمصة أو في قلبه سجن للأهواء، وإن طلع علينا صبي بأبواقه النظيفة، وعادل بسيف بطشه، وكشاف يحبس أنفاس طلاب العلم، ويلقي بهم بعد جهل إلى مقصلة الجلاد، وإن جاءت النساء جميعا إلى محفل ليتوجن "كونتيسا" المعبد أمًّا للأيامى واليتامى تعدُّهن إعدادا لليوم الأكبر، وإن ألقى كبيرهم الذي علمهم السحر وحيه في الخلائق، ألا اتبعوا جنوني وسترون كم أنفث من الحرائق، اتبعوا من لا يخطئ وسترون الوطن يَنهار، كما ينهار السَّكن في السيل الجارف، سيروا على بركة الله فإن لم يكن لكم في الدنيا دار ولا متاع، مال ولا بنون، فالآخرة لي وأنا أَجزي بها المخلصين من أتباعي، ألا بئس التجارة، وبئس التاجر!