كان من تداعيات هبوب رياح الربيع العربي، تصدر حزب العدالة والتنمية المغربي لنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في شبه انفراج على الحزب الذي مر حقيقة بفترات عصيبة في تاريخه، ودفعته مرات عديدة للانحناء سواء من خلال ما تعرض له من محاولات تعنيف ودعاوي للمصادرة والحل جراء تحميله المسؤولية المعنوية للأحداث الأليمة التي عرفتها مدينة الدارالبيضاء في السادس عشر من مايو 2003، أو عبر محاولاته لتقزيم نفسه، إما استجابة لأوامر عليا صادرة من وزارة الداخلية أو انطلاقا من تصرفات ذاتية أملتها طبيعة تقدير الحزب للمرحلة ولكي يحظى بنوع من التسلق التدريجي ومن تطبيع علاقته بالسلطة من دون إثارة أية زوابع كالتي حدثت في بعض الدول المجاورة كتونس أو الجارة الجزائر مع اكتساح جبهة الإنقاذ الجزائرية مع ما قوبلت به من رفض من طرف دوائر صنع القرار هناك، وهو ما خلف العديد من الأعمال الإرهابية والأليمة التي عرفتها الجزائر آنذاك. هذا الانفراج، كان له وقعه النفسي الكبير على جزء من أنصار حزب العدالة والتنمية، بحيث عادت البسمة إلى شفاههم بعد سنوات من المعاناة والمجاهدة، بحيث كانوا يتابعون النتائج الانتخابية بأعينهم، وقلوبهم كلها حسرة على الأوضاع، لأن الخريطة السياسية كانت تعدل من ورائهم وكان يعطاهم نصيبهم من المقاعد الانتخابية التي تجعل من تواجدهم يخدم أجندة السلطة أكثر مما يخدم رهانات وطموحات الحزب، حيث كانت السلطة تظهر وكأنها أكثر استيعابا للمعادلة الحزبية المغربية بما في ذلك شكل تدبير تواجد الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية والتي كانت تحرص دوائر صنع القرار على احتوائهم وإظهارهم بالحيز والعدد والشكل الذي تريده. غير أن الأمور سرعان ما ستعرف منحى مغايرا مع هبوب رياح الربيع العربي، اضطرت معه الدولة العميقة وبشكل استباقي إلى إحداث العديد من التغيرات بدء بالخطاب التاريخي للتاسع من مارس مرورا بتعديل الدستور وانتهاء بإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها أفرزت كما هو معلوم فوز "الإسلاميين"، والذين مكنتهم مقتضيات الدستور الجديدة من إحراز رئاسة الحكومة والتي رجعت إلى السيد بنكيران باعتباره رئيسا لحزب العدالة والتنمية، الحزب المتصدر للانتخابات. مباشرة بعد تشكيل الحكومة، وبالنظر لحجم الطموحات المنتظرة من حكومة الإسلاميين والآمال المعلقة عليها، وبحكم التحالف الرباعي المشكل للحكومة وكذا بالنظر للإكراهات المرتبطة بالظرفية الاقتصادية الدولية، فقد انعكس كل ذلك سلبا على مجمل الابتسامات العريضة التي كانت توزع هنا وهناك من طرف أنصار حزب المصباح، إذ المؤكد أن هناك فرقا بين طموحات "الثورة" والأماني والمتمنيات، وخطاب المعارضة وإكراهات منطق التسيير والتدبير ومجابهة اللوبيات والعفاريت والتماسيح بلغة بنكيران. وإذا ما تمت إضافة ما أقدم عليه السيد شباط زعيم حزب الاستقلال من انفراط لأغلبية السيد رئيس الحكومة في ظرفية إقليمية جد دقيقة تعرف الانقلاب على الربيع العربي وأجوائه وعدم إعطاء هذا الأخير للمنتظر والمؤمل منه في كل من تونس وليبيا ومصر، نفهم التوتر والمحنة التي أدخلها عليهم شباط وعاشها كل من بنكيران وإخوانه جراء هذه "الضربة القاسية" التي حاول الحزب جاهدا امتصاصها وتأملها وقراءة الرسائل المنبعثة منها، هل يتعلق الأمر بسلوك من "محض إرادة" شباط وزملائه أم أن للأمر أيادي خفية مرتبطة بأجندة معينة للدولة العميقة والتي ربما قد تكون قد عادت لتطل من جديد ولتأخذ المبادرة وزمام الأمر منهم. على وقع غيوم الشك ومجمل هاته التساؤلات، تم تدبير النقاش والتفاوض مع السيد مزوار زعيم الأحرار لترميم أغلبية بنكيران، علما بأن الحرج كان ملازما للحزب وللسيد رئيس الحكومة وهو يقدم على هذه الخطوة لأنه كان قد قال في حق مزوار كلاما لايستقيم ومنطق إعادة مد اليد والاستنجاد بزعيم الأحرار لترميم الأغلبية، هذا الأخير وعلى رأي زعيم المصباح "رمز صغير" من رموز الفساد جراء ضلوعه في العلاوات التي أخذها "من دون موجب حق" حين كان وزيرا للمالية على عهد عباس الفاسي، وقيل في حقه أنه "مافيدوش" وأن قدره بيد السلطة وليس بيده. على أن طول المفاوضات وعسرها، كانت تؤشر إلى كون بنكيران وإن خرج آمنا وسالما وفي يديه رئاسة الحكومة، فإنه لا محالة سوف يخرج منهكا وسيكون قد تلقى العديد من الضربات واللكمات، وهو الأمر الذي تأكد عمليا بإخراجه إلى الوجود صيغة مشوهة عن تشكيلته الحكومية والتي جاءت مليئة بالمتناقضات كان الحزب متعودا على مجابهتها ومواجهتها أيام المعارضة، كالعدد الكبير للوزراء وكثرة وجود التقنوقراط والتفريط في شخصية هادئة وقوية ورصينة كشخصية مثل سعد الدين العثماني وفي وزارة جد هامة كوزارة الخارجية. وبعيدا عن لغة "الكر والفر"، وبالعودة إلى طبيعة النقاشات التي واكبت تشكيل الحكومة في نسختها الأولى، والتي لها علاقة بمطارحة القضايا ذات الحيوية والملحاحية كالبرامج والأهداف والاستراتيجيات، انصب النقاش أيضا إلى قضايا رمزية لها علاقة بالأناقة والزي والسبحة وربطة العنق وشكل تصفيف الشعر واللحية للسيد رئيس الحكومة، وهي القضايا التي كانت مفيذة في ما يخص إعطاء نظرة ومؤشرات عن الأجواء الإيجابية والحماسة التي كانت محيطة بتشكيل الحكومة في تلكم الظرفية. جزء من هذا النقاش في النسخة الحكومية الثانية توارى إلى الخلف وبدأ النقاش يتجه إلى "الصح الصحيح" إلى الأمور المرتبطة بمدى قدرة الحزب على الحفاظ "على الأقل" على ماتبقى من ماء الوجه والمصداقية في ضل الإكراهات التي تواجهه والتي تميل إلى إضعافه وإظهاره على كونه لا يختلف وقد يكون شبيها في النفاق السياسي بباقي الفرقاء السياسيين، لضرب كل الموروث السياسي والتاريخي الذي يحمله من وراءه. كما بدأت تتوارى إلى الخلف الصور الرمزية لبنكيران وهو في ابتسامات وقهقهات عريضة هنا وهناك، فلقد أضيفت ربما إلى اللكمات الموجهة إليه من داخل التحالف الحكومي إبان تشكيل حكومته، لكمات أخرى لها علاقة بمؤسسات الحزب وأجهزته الموازية، وبجزء كبير من الأنصار والمتعاطفين معه وبجزء من الرأي العام، وهو ما جعل السيد بنكيران يمر بفترات عصيبة وتظهر عليه بعض من علامات العبوسة والنرفزة، وهو ما تأكد وبشكل جلي حين كان في ضيافة صحافيين وهو يظهر في القناة الأولى لكي يفسر ملابسات تشكيلة حكومته في نسختها الثانية، وهو الأمر الذي انتبه إليه في الأخير ودفعه إلى التماس العذر من الصحافيين ومخاطبتهم بالقول في شبه اعتراف منه على صعوبة المرحلة ودقة الظرفية التي يعيشها "لا تؤاخذونني من فضلكم فالظروف كما تعلمون ليست على ما يرام وهي ليست بالسهلة". على أنه ومن منطلق إنساني صرف هذه المرة، لا يمكننا إلا أن نتمنى صادقين مزيدا من الحفاظ على الابتسامات العريضة للسيد رئيس الحكومة، لأنها ستساعده لكي يكون أكثر خفة ورشاقة وأكثر استعدادا لمجابهة المشاكل وتعقيدات الواقع، كما أننا لا نريد من المنصب الحكومي أن يكون سببا في إضعاف بنيته أوفي التقليل من صحته، لأن العبوسية والأرق فضلا عن مخلفاتهما السلبية على أكثر من صعيد، فإنها قد لا تنسجم معه لأن الابتسامات قد تكون وسيلته للمزيد من إغاظة خصومه وخوض نوع أخر من المعارك الرمزية والتي قد تفيده في إعطاء الانطباع إلى أن حكومته في حلة جيدة وتحسن الخطى والمسير. وقد تكون العبوسية في هذه الظرفية أكثر انسجاما مع أشخاص مثل شباط ولشكر لأنهما في موقف يجسدان فيه دور المعارضة وفي استعداد دائم لقرع الطبول وقلب الطاولة على الحكومة، أما وأن يكون الإجماع حول العبوسية عند كل الفرقاء السياسيين، فتلك قضية أخرى محتاجة للمعالجة والتأمل، وكل التخوف أن يعطى الانطباع إلى أن الأوضاع ليست على ما يرام، فدقة المرحلة محتاجة للإبقاء على شعلة الأمل، وعلى الأمل في الإصلاح والتغيير.