بقلم: عبدالقادر العفسي في فضاء المدينة، حيث تتصارع السلطة والمعنى، وترسم حدود الهوية على خرائط الإسمنت والمشاريع، تبرز العرائش لا كجغرافيا صامتة، بل كجسد حي وناطق ، إن ما يجري على أرضها ليس مجرد تفاعلات عابرة أو ردود فعل ظرفية، بل هو تجل عميق لآليات المقاومة التي ينتجها النسيج الاجتماعي عندما تستشعر بنيته الرمزية خطر التفكيك أو التشييء. المدينة هنا ليست مجرد 'مساحة' قابلة للتهيئة، بل هي 'مكان' مشحون بالذاكرة، ومثقل بالرواسب الثقافية التي تشكل رأس ماله الرمزي، وهو ما يجعلها تتجاوز مجرد كونها كيانا ماديا إلى أن تصبح خطابا للمقاومة، يتشكل في تفاعلاته اليومية، ويعيد تعريف العلاقة بين الفرد والمجتمع والسلطة، هذا الجسد المديني، الذي يتنفس عبر حراك ساكنته، يرفض أن يختزل في بعده الوظيفي أو الاقتصادي، بل يصر على كونه فضاء حيويا تتجلى فيه الإرادة الجماعية، وتعاد فيه صياغة مفهوم 'العيش المشترك' بعيدا عن أي محاولة لتنميطه أو ترويضه، إن هذا الحراك، في جوهره، هو عملية تفكيكية مستمرة، تعري الخطابات السائدة التي تسعى إلى فرض رؤية أحادية للمدينة، وتظهر التناقضات الكامنة في بنية السلطة التي تدعي تمثيل المصلحة العامة بينما تخدم مصالح ضيقة. إنه ليس مجرد احتجاج على مشروع بعينه، بل هو إعادة قراءة للمدينة كفضاء للصراع، حيث تتشكل الهويات وتعاد تعريف العلاقات الاجتماعية والسياسية، في دينامية لا تتوقف عن إنتاج المعنى والمقاومة،إن الحراك القائم ليس صرخة عدمية أو نزعة 'راديكالية' كما تسعى بعض الخطابات الهامشية لتصويره، في محاولة لتدجينه ضمن أبجديات السلطة المعتادة التي لا تفهم إلا منطق التطرف أو الخضوع، على العكس، إنه فعل واع ومسؤول، ينبثق من حقل القوة الداخلي للمجتمع، حيث 'حب المدينة' ليس عاطفة ساذجة، بل هو ارتباط وجودي بالهوية، وغيرة على التاريخ كأرشيف حي، وحرص على البيئة كشرط لاستمرارية الحياة. هذا الحراك هو ممارسة سياسية بامتياز، لكنها سياسة تنبع من الأسفل، من الشعيرات الدموية للمجتمع، لا من الأوردة الكبرى للمؤسسات الرسمية، إنه صوت جماعي يرفض أن تتحول المدينة إلى سلعة في سوق المضاربات، أو أن تختزل كرامتها في أرقام النمو الاقتصادي الوهمية ، إن هذه المحاولة لتدجين الحراك، عبر وصمه ب'الراديكالية' أو ربطه ب'أجندات مشبوهة'، هي استراتيجية خطابية تهدف إلى نزع الشرعية عنه، وتحويله من تعبير عن إرادة جماعية إلى مجرد انحراف فردي أو مؤامرة خارجية. لكن الحراك، في جوهره، يفضح هذه الاستراتيجيات، ويكشف عن العنف الرمزي الذي تمارسه السلطة و أدواتها لتثبيت هيمنتها على الفضاء العام،إنه يمثل لحظة تفكيك للخطاب الرسمي، حيث يتم الكشف عن آلياته الخفية في إنتاج المعنى والسيطرة، ويعاد بناء فهم جديد للواقع الاجتماعي والسياسي، فهم ينبع من تجربة المعيش اليومية للساكنة، لا من النماذج الجاهزة التي تفرضها المؤسسات ، إن هذا الحراك، بتجلياته المتعددة، يعيد تعريف مفهوم 'السياسة' ذاته، ليصبح فعلًا يوميا، ممارسة مستمرة، لا مجرد حدث عابر أو عملية انتخابية دورية، إنه يفتح فضاءً جديدا للمقاومة، حيث تتشابك الأبعاد الرمزية والمادية، وتعاد صياغة العلاقة بين الفرد والجماعة والدولة، في سعي دائم نحو تحقيق العدالة والكرامة . إننا نشهد هنا رفضا قاطعا للخطاب السلطوي المتناقض، الذي يتحدث بلغة التنمية بينما يمارس فعل الهدم، والذي يستخدم أقلاما مأجورة وأدوات وظيفية مدعومة من المال العام لإنتاج حقيقة زائفة تهدف إلى تخوين الإرادة الشعبية وزرع الشكوك، هذه الأقلام لا تكتب، بل تمارس عنفًا رمزيا، تسعى من خلاله إلى ضرب وحدة الصف وتشتيت الجهود، خدمةً لشبكات مصالح ضيقة لا ترى في المدينة إلا فرصة للربح السريع، إنها محاولة يائسة لتطويع الواقع ليتناسب مع سرديتها، لكن الواقع، كما أثبتته الوقفة الاحتجاجية الحاشدة، يمتلك منطقه الخاص وقوته الذاتية التي تتجاوز كل محاولات التزييف، لقد كانت تلك الوقفة لحظة كاشفة، برهانًا ساطعا على أن الوعي الجماعي ليس مجرد فكرة مجردة، بل هو قوة مادية قادرة على الفعل والتغيير، هذا الرفض للخطاب المتناقض ليس مجرد رد فعل عاطفي، بل هو عملية تفكيك معرفية، تعرّي الأيديولوجيات الكامنة وراء اللغة الرسمية، وتكشف عن آليات إنتاج 'الحقيقة' التي تخدم مصالح معينة. إن الأقلام المأجورة والأدوات الوظيفية ، في هذا السياق، ليست مجرد أدوات، بل هي جزء من بنية القوة التي تسعى إلى السيطرة على الوعي، وتحويل المواطنين إلى مجرد متلقين سلبيين، لكن الحراك، بوعيه النقدي، يعيد إنتاج المعرفة من الأسفل، من تجربة المعيش، ويظهر أن 'الحقيقة' ليست معطاة، بل هي نتاج صراع وتفاعل، إن نجاح الوقفة الاحتجاجية ليس مجرد انتصار تكتيكي، بل هو تأكيد على أن الجسد الاجتماعي يمتلك القدرة على تجاوز الخطابات المهيمنة، وعلى بناء سرديته الخاصة، سردية تنبع من الواقع المعاش، وتعيد تعريف مفهوم 'النجاح' ذاته، ليصبح مرتبطًا بالقدرة على الفعل الجماعي، لا بالامتثال للمعايير المفروضة من الأعلى، إنها لحظة تحول، حيث يتحول 'الجمهور' من مجرد كتلة صامتة إلى فاعل تاريخي، يعيد تشكيل الفضاء العام، ويعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع،هذا الحراك، بوعيه ومسؤوليته، لن يتوقف، إنه ليس مجرد رد فعل على حدث معين، بل هو حالة نضالية مستمرة ضد كل أشكال العبث والتهميش التي تسعى إلى إفراغ المدينة من معناها . ثم أن قضية المناضلين و ما تعرضوا له من حوادث متفرقة للإقصاء او العنف الممنهج ليست مجرد قضية فردية، بل هي رمز للجسد الاجتماعي كله، وتأكيد على أن ما يوحد الجميع هو إرادة صادقة للدفاع عن المدينة ضد آليات الفساد التي تنخر في عظامها، ثم إن الشكر الموجه لهيئة الدفاع 'احمد الطيبي' و 'ابراهيم الحداد' و 'مصطفى الوهابي' 'عزيز العليكي' و 'احمد الصروخ' ليس مجرد امتنان، بل هو اعتراف بأن المعركة القانونية هي امتداد للمعركة السياسية والرمزية التي يخوضها الجميع،لأن استمرارية هذا الحراك ليست مجرد مسألة زمنية، بل هي تجل لمفهوم 'الإرادة الجماعية' التي تتجاوز الأفراد وتتجسد في الفعل المشترك، إنها إرادة لا تقبل التهميش أو العبث، لأنها تدرك أن مصير المدينة مرتبط بمصير ساكنتها، وأن أي مساس بكرامة المدينة هو مساس بكرامة الأفراد. إن قضية المناضلين، في هذا السياق، تتحول من مجرد قضية فردية إلى 'قضية وجودية' للمجتمع بأسره، حيث يتم الكشف عن الروابط الخفية بين الفساد على المستوى الهيكلي والمعاناة على المستوى الفردي، إن الدفاع عن المدينة هنا ليس مجرد دفاع عن 'ممتلكات' أو 'حدود'، بل هو دفاع عن 'معنى'، عن 'هوية' عن 'ذاكرة' عن 'إمكانية' العيش بكرامة، إن دور هيئة الدفاع، في هذا السياق، يتجاوز مجرد التمثيل القانوني، ليصبح جزءا من الفعل المقاوم، حيث يتم استخدام أدوات القانون لتفكيك آليات السلطة، وكشف تناقضاتها، وإعادة بناء العدالة من خلال ممارسة الحق، إنها معركة على مستويات متعددة، تتشابك فيها الأبعاد القانونية والسياسية والرمزية، في سعي دائم نحو تحقيق العدالة والكرامة ، ليكن واضحا: هذا الحراك ليس ملكا لفئة أو حكرا على تيار، بل هو تجسيد لروح جماعية حية، تتنفس وتنبض في شرايين المدينة، إنه تعبير عن إرادة الحياة التي ترفض التنازل عن كرامتها وحقها في تنمية عادلة ومتساوية. ومن هنا، فإننا نحذر كل من يحاول الالتفاف على هذه الإرادة، أو تحويل ملفات المدينة إلى صفقات تخدم مصالح خاصة على حساب المصلحة العامة، العرائش لن تكون أبدا مسرحا لنشر الفتن أو حقل تجارب للمؤامرات المرتبطة بالحسابات الضيقة ،إن هذا التأكيد على أن الحراك ليس ملكا لفئة أو تيار هو تفكيك لمفهوم 'التمثيل' السياسي، حيث يعاد تعريف الفاعل السياسي ليتجاوز الأحزاب والنخب التقليدية، ليصبح 'الجسد الاجتماعي' بأسره هو الفاعل الحقيقي، إن الروح الجماعية الحية هنا ليست مجرد استعارة، بل هي تعبير عن 'القوة الكامنة' في المجتمع، والتي تتجلى في لحظات المقاومة، وتعيد صياغة مفهوم 'السيادة'، لتصبح سيادة شعبية. إن رفض التنازل عن كرامة المدينة وحقها في التنمية العادلة والمتساوية هو رفض لمفهوم 'المدينة السلعة'، وإعادة تأكيد على أن المدينة هي 'فضاء للعيش' وليست مجرد 'مورد اقتصادي'، إن التحذير من محاولات الالتفاف على الإرادة الشعبية هو كشف لآليات 'الفساد الهيكلي'، الذي لا يقتصر على الممارسات الفردية، بل يتغلغل في بنية النظام، ويعيد إنتاج التفاوتات والظلم. إن العرائش، في هذا السياق، تتحول إلى 'نموذج'، إلى 'حالة دراسية'، تظهر كيف يمكن للمقاومة الشعبية أن تعري آليات السلطة وأدواتها ، وتعيد بناء المعنى، وتعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، في سعي دائم نحو تحقيق 'المدينة الفاضلة'، التي لا تبنى على الأوهام، بل على الإرادة الحرة والوعي النقدي، إنها معركة مستمرة، لا تنتهي بانتصار واحد، بل تتجدد في كل لحظة، وتعيد إنتاج ذاتها، في دينامية لا تتوقف عن التفكيك وإعادة البناء، بالتالي إن الاستعداد الدائم للنزول إلى الشارع ليس دعوة للفوضى، بل هو تأكيد على أن الفضاء العام سيظل ساحة للممارسة الديمقراطية الحقيقية، إنه دفاع سلمي وحضاري عن حق المدينة في أن تحفظ هويتها، وتصون ذاكرتها، وتخدم ساكنتها . لن يسمح لأي جهة، مهما كانت، بأن تقف حجر عثرة في طريق المستقبل، أو أن تهدم المكتسبات النضالية التي تحققت بفضل تضحيات أبنائها، المدينة باقية، وحراكها مستمر، ليس كذكرى، بل كفعل دائم للدفاع عن مستقبلها وهويتها،هذا الاستعداد للنزول إلى الشارع هو تجسيد لمفهوم 'الفضاء العام' كساحة للصراع، حيث تتشكل 'السياسة' لا في قاعات البرلمان، بل في الشوارع والساحات، إنه رفض لمفهوم 'الديمقراطية الشكلية'، وتأكيد على 'الديمقراطية التشاركية'،حيث يعاد المواطن إلى مركز الفعل السياسي، إن الدفاع عن هوية المدينة وذاكرتها ليس مجرد دفاع عن 'الماضي'، بل هو دفاع عن 'المستقبل'، عن 'إمكانية' بناء مدينة تتناسب مع تطلعات ساكنتها، لا مع رؤى مفروضة من الأعلى، إن رفض السماح لأي جهة بأن تقف حجر عثرة هو تأكيد على 'السيادة الشعبية'، وعلى أن 'المكتسبات النضالية' ليست هبات من السلطة، بل هي حقوق انتزعت بفضل التضحيات. إن بقاء المدينة واستمرارية حراكها هو تأكيد على أن 'التاريخ' ليس مجرد سلسلة من الأحداث، بل هو 'عملية مستمرة'، يعاد فيها بناء المعنى، وتعاد فيها صياغة العلاقة بين القوة والمقاومة، إنها قصة مدينة، ليست مجرد قصة، بل هي 'خطاب' ،'نص' يعاد قراءته وتفكيكه باستمرار، في سعي دائم نحو تحقيق'التحرر' ، الذي لا يقتصر على البعد السياسي، بل يشمل الأبعاد الاجتماعية والثقافية والوجودية.