في تجمّع أقيم في صلالة في جنوب سلطنة عمان، يردّد رجال بلباسهم التقليدي قصائد قديمة باللغة الجبّالية الشحرية التي لا يفهمها إلا 2 في المائة من سكان البلاد ويتمسّكون بتوارثها وحمايتها من الاندثار. فمن أعالي جبال ظفار، المحافظة التي تضمّ صلالة، انبثقت هذه اللغة. وفي هذا الصدد، قال علي بن سهيل المعشني، الباحث في التراث الشعبي، إن عدد الذين يتكلمون اليوم الجبّالية الشحرية "لا يتجاوز 120 ألفا". وأضاف المعشني، في تصريح لوكالة فرانس برس: "إنها لغة مهدّدة"، مشيرا إلى مخاوف من انقراضها بحكم أنها لم تدوّن جيّدا ولم تدرج في المناهج الدراسية. وتعود أصول الجبّالية الشحرية إلى اللغات السامية، وتفرّعت عنها السامية العربية الجنوبية ثم لغات قديمة عاشت في ظفار؛ من بينها الشحرية، وأخرى باتت شبه منقرضة اليوم مثل البطحرية التي "يتحدثها ثلاثة أو أربعة أشخاص فقط"، وفق الباحث سالف الذكر. ويختلف أهلها على تسميتها بين من يصرّ على "الجبّالية" فقط وبين من لا يمانع باسم "الشحرية". وقال المعشني إنه اختار موقف الوسط بعبارة "الجبّالية الشحرية"، مبرزا أنها "لغة متكاملة الأركان" تضم قواعد صرف ونحو كاملة، واستخدمت عبر التاريخ في الأشعار والأمثال والأساطير؛ لكنها بقيت "لغة خام لم تُهذّب". "حمتها العزلة" وضعت الجغرافيا الجبلية المميزة لظفار هذه اللغة في بيئة شبه مغلقة، ينشأ فيها الأطفال على لسان الأجداد، ويكبرون على أنغام الفنون الشعبية والقصائد المتوارثة التي تحفظ في طيّاتها كلمات عتيقة اندثرت من الحياة اليومية. وأفاد المعشني بأن الجبالية الشحرية "لغة تاريخية قديمة جدا موغلة في عمق التاريخ (...)، حمتها العزلة في ظفار"؛ لكن العزلة اليوم لم تعد كافية لحماية هذا الموروث اللغوي أمام الزخم الهائل للتكنولوجيا. فعلى الرغم من تمسّك القبائل بعاداتها وتقاليدها ولغتها، فإن معظم أفرادها يملكون هواتف ذكية ويتفاعلون عبر مواقع التواصل الاجتماعي. كما انتقل كثير من أبناء الجبال إلى المدن أو خارج ظفار؛ ما أفقد بعضهم القدرة على تحدث اللغة بطلاقة. ومع ذلك، أكّد جميع من حاورتهم فرانس برس إصرارهم على الحفاظ على هذه اللغة ومخاطبة أطفالهم بها دائما. وأوضح سعيد شماس، وهو ناشط على منصات التواصل الاجتماعي من ظفار، لفرانس برس أن تعلّم اللغة يبدأ من نشأة الطفل في البيت؛ فهو "يجد أن من في بيئته يتكلمون الجبّالية، من الأب والجد والأم، فيفهم مباشرة أنها اللهجة أو اللغة التي سيتكلمها". وقال طفل في الخامسة وآخر في الثامنة إنهما "يفضّلان التحدث بالجبّالية على العربية"، وإن العربية تبقى بالنسبة لهما لغة المدرسة. بذور البقاء يتمسّك أهل ظفّار بتوريث لغتهم عبر الفنون الشعبية للحفاظ عليها، فيما يتجه اليوم باحثون إلى صونها بمبادرات توثيقية. في خيمة في مدينة صلالة في محافظة ظفار، قال الشاعر والفنان الظفاري خالد أحمد الكثيري (41 عاما)، بعد أن أنهى إنشاد قصيدة بالجبالية الشحرية خلال فعالية ثقافية، إن "القصيدة الجبّالية وسيلة نحافظ بها على هذه اللغة، ونعلّم من خلالها الأجيال الجديدة". وانضم إليه شماس، البالغ من العمر 35 عاما، قائلا: "نحافظ على الموروث وعلى الكلمات القديمة أيضا من خلال فنون النانا والدبرارت (الاسمان باللغة الجبالية لهذه القصائد) التي تستخدم كلمات لا تُستخدم في الحوارات اليومية". وتتكثف الجهود في محافظة ظفار لحماية اللغة ومحاولة تدوينها وتوثيقها. وأكد المعشني وجود "جهود حثيثة من المهتمين والباحثين والجهات الحكومية" لذلك "ضمن خطة عُمان 2040" التي تنص على "التركيز على مثل هذه اللغات والموروثات الشعبية". ويقود هذا الباحث المتخصص في التراث الشعبي فريقا لإنجاز أول معجم شامل لهذه اللغة، يضم نحو 125 ألف مفردة مترجمة إلى اللغتين العربية والإنجليزية. ومن المتوقع أن تكون للمعجم نسخة إلكترونية تضم خاصية النطق الصوتي لحفظ مخارج الحروف والأصوات المميزة في الجبّالية الشحرية.