ممثل خاص للاتحاد الأوروبي: نضطلع مع المغرب بدور مهم في منطقة الساحل    الجيش المغربي يقصف "مشهبوين" داخل المنطقة العازلة بالصحراء المغربية    إيرادات السفر تفوق 34.4 مليار درهم بنهاية أبريل    إهانة.. إسرائيل منعت وزراء خارجية عرب من زيارة السلطة الفلسطينية في رام الله    عطلة استثنائية للإدارات بمناسبة عيد الأضحى    تنظيم مؤتمر دولي حول موضوع : ''الهجرات وإعادة تشكيل إدماج مهاجري الجنوب في ظل التحديات الجديدة.. نموذج مهاجري حنوب الصحراء بالمغرب    أولمبيك الدشيرة يحقق الصعود إلى القسم الأول    117 نزيلا يجتازون امتحانات البكالوريا بالسجن المحلي عين السبع 1                            نيتفليكس تكشف عن موعد النهاية الكبرى للمسلسل العالمي    استنطاق ناري للناصري.. وبعيوي في لائحة المتهمين المنتظرين أمام المحكمة    بلدية برشلونة تقطع علاقاتها مع إسرائيل وتعلق اتفاق الصداقة مع تل أبيب    ماكرون: الاعتراف بدولة فلسطين "واجب أخلاقي"    الكاف يحدد مواعيد وملاعب كأس إفريقيا للسيدات المغرب 2025    صادرات "الحامض" المغربي تعود للانتعاش وتحقق 2.7 مليون دولار كعائدات    توقيف عدد من المشتبه بهم بسبب الغش في الامتحانات    للجمعة ال78.. وقفات بمدن مغربية تندد بالمجازر الإسرائيلية وتستنكر سياسة التجويع    منافسة شرسة في تصفيات كأس محمد السادس للكراطي.. أبطال العالم يتنافسون على تذاكر النهائي    عقوبات ثقيلة في حق ثلاثة لاعبين بعد اعتدائهم على مصورين صحافيين    مصرع شاب من الحسيمة غرقاً أثناء الصيد بالغطس نواحي جماعة الرواضي    ترامب يلمّح إلى تجدد التوترات التجارية مع الصين    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية كرواتيا بمناسبة العيد الوطني لبلاده    "الفلاحي كاش" تعزز خدمات تحويل الأموال بشراكة استراتيجية مع "ريا" العالمية    منتخبون من البام يهدون جمالا للعامل السابق لسيدي إفني بعد انتهاء مهامه على رأس الإقليم (صور)    سفراء البيئة والتنمية يبصمون على نجاح لافت للنسخة الثالثة من "مهرجان وزان الوطني للحايك"    نهائي المستبعدين.. إما أن يفكّ باريس لعنته أو يرسّخ إنتر اسمه بين عظماء القارة من جديد    موجة الحرارة في المغرب تتجاوز المعدلات الموسمية بأكثر من 15 درجة    فيديوهات تقترب من الحقيقة .. تقنية "Veo-3" تثير قلق الخبراء بالمغرب    الذهب يتكبد خسائر أسبوعية بنسبة 1.6 بالمئة مع صعود الدولار    333 مليون درهم لإعادة تأهيل المناطق المتضررة من فيضانات ورزازات    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    بطولة إيطاليا.. ماسيميليانو أليغري مدربا جديدا لميلان    "أنت مرآتي".. شاك تيسيث إنو : إقامة فنية بين الحسيمة وبروكسل تعكس تعددية الهويات    طنجة.. انطلاق الدورة الأولى لمهرجان الضفاف الثلاث    المغرب يشارك بلندن في الاحتفال بيوم إفريقيا    على هامش افتتاح معرض "العمران إكسبو".. أزيد 51 ألف شخص استفادوا من دعم السكن من أصل 136 ألف طلب (فيديو)    أجواء حارة في توقعات طقس الجمعة    شنغهاي: معرض الصين الدولي ي حدد اتجاهات جديدة في السياحة العالمية    السميرس: الحوامض فَقَدَ 40 ألف هكتار.. والوسطاء يُضرّون بالمنتِج والمستهلك    تنظيم الدولة الإسلامية يعلن مسؤوليته عن "أول هجوم" يستهدف القوات الحكومية السورية الجديدة منذ سقوط الأسد    الملك يعزي أسرة الفنانة نعيمة بوحمالة    الولايات المتحدة تلغي عقدا ب590 مليون دولار مع موديرنا لتطوير لقاح ضد إنفلونزا الطيور    ما لم يُذبح بعد    كابوس إسهال المسافرين .. الأسباب وسبل الوقاية    سؤال الأنوار وعوائق التنوير في العالم العربي الإسلامي    جائزة الملك فيصل تدشن في إسبانيا كتاب رياض الشعراء في قصور الحمراء    ضمنها تعزيز المناعة.. هذه فوائد شرب الماء من الأواني الفخارية    من تهافت الفلاسفة إلى "تهافت اللحامة"    بن كيران وسكر "ستيڤيا"    حمضي يعطي إرشادات ذهبية تقي من موجات الحرارة    موريتانيا تكشف حقيقة سقوط طائرة الحجاج    الخوف كوسيلة للهيمنة: كيف شوّه بعض رجال الدين صورة الله؟ بقلم // محمد بوفتاس    السعودية: 107 آلاف طائف في الساعة يستوعبها صحن المطاف في الحرم المكي    









محمود درويش.. مغني الشهداء

لقد كان لقاء درويش بالموت في فترة مبكرة من حياته. تجسد أول مرة في مواكب الشهداء الذين يسقطون تباعا واقفين مثل النخيل وأشجار البرتقال الحزين. يشيعهم الشباب الفلسطيني الذي يؤمن كل واحد منهم في قرارة نفسه أنه مشروع شهيد يسير على الأرض التي سيرويها ذات لحظة استثنائية من عمره بدمائه التي تسيل لكي تصنع من ملحمة الموت ملحمة الحياة. إنه العرس الفلسطيني حيث لا يلتقي الحبيب حبيبه إلا شهيدا أو شريدا: "محاولة رقم 7، ديوان محمود درويش، ج 1 ص:509"
هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي
هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب إلى الحبيب
يظهر التأمل الدقيق في شعر درويش أن الموت الذي اعتنى بتصويره الشاعر منذ قصائد الأولى ليس الموت العادي ولكنه الموت الذي ينجم عن فعل مواجهة أو مقاومة. ولذلك كان الموت الذي يحتفي به درويش جماليا هو موت الشهداء؛ أي فعل التضحية الذي يجعل من الموت تجربة إنسانية فريدة تستحق التمجيد والاحتفاء.
تكشف القصائد الأولى التي كتبها درويش عن تصور رومانسي للموت، حيث لا يعني الموت في نصوصه المبكرة العدم والنهاية ولكنه يعني التجدد والانبعاث؛ أي البداية: "محاولة رقم 7، ديوان محمود درويش، "ج 1 ص:502"
ثلاثة أشياء لا تنتهي:
أنت، والحبّ، والموت.
الموت مثل الحب ولادة ثانية. ولذلك كان الموت عند درويش لا يعني النهاية بل هو البداية. ومن هنا زخرت مراثيه للشهداء وأغنياته لهم بالدعوة إلى استمرار الحياة، لأن الحياة لا تتوقف بالغياب الجسدي ولكن الموت مناسبة لدفع عجلة الحياة إلى الأمام "حبيبتي تنهض من نومها، ديوان محمود درويش، ج 1 ص:364":
"نعيش معك
نسير معك
نجوع معك
و حين تموت
نحاول ألا نموت معك
ففوق ضريحك ينبت قمح جديد
و ينزل ماء جديد
و أنت ترانا
نسير
نسير
نسير."
تكشف مراثي درويش للشهداء عن جماليات جديدة في التعامل مع فعل الموت. لقد أضافت قيما جمالية جديدة إلى شعر الرثاء في التراث العربي؛ فدرويش لا يحصر مراثيه في تقديم التعازي وتمجيد الأعمال التي أنجزها الشهيد في حياته ولكنه يعمل على توليد أسباب الحياة من رحم الموت مما يجعل المراثي تتحول في كثير من الأحيان على قوة دفع تدعو إلى الحياة ممثلة في فعل السير بعد دفن الشهيد من اجل إكمال الطريق والوصول إلى الأفق الذي أشار إليه ورسمه بدمه: الانحياز لخط المقاومة حتى تحرير الأرض واسترجاع الكرامة.
يظهر ذلك بشكل واضح في قصيدة درويش "أحمد الزعتر" التي يمكن اعتبارها رثاء جماعيا لكل الذين استشهدوا في "تل الزعتر"، حيث ينصهر في هذه القصيدة الفردي والجماعي في ملحمة الدم الفلسطيني لتنطلق الدعوة عالية إلى المقاومة باعتبارها التجسيد الحقيقي لفعل الحياة المنبثق من رحم الموت: "أعراس، ديوان محمود درويش ج 1 ص:653"
" فاذهب عميقا في دمي
اذهب براعم
و اذهب عميقا في دمي
اذهب خواتم
و اذهب عميقا في دمي
اذهب سلالم
يا أحمد العربيّ... قاوم!"
إن قوة الحياة تنبعث وتتولد من فعل الموت. ذلك ما يريد درويش أن يستخلصه قراؤه من مراثيه للشهداء، حيث يتحول الموت إلى قوة حركية تفعل في الأحياء وتدفعهم الحياة/ الفعل التي تتخذ في كثير من قصائد درويش الرثائية شكل السير أو المشي: "حصار لمدائح البحر ديوان محمود درويش، ج 2 ص:141"
"صباح الخير يا ماجدْ
صباح الخيرْ
قُمْ اقرأ سورة العائدْ
وحثَّ السيرْ
إلى بلدٍ فقدناهُ
بحادث سيرْ.."
تنطوي مراثي درويش للشهداء على احتفاء واضح بالحياة المتولدة من رحم الموت ويرجع ذلك إلى أن الفلسطيني لا يملك غير دمه في مواجهة الترسانة العسكرية المتطورة لغاصبي أرضه ووطنه فلا ميلاد ولا انبعاث إلا من هذا الدم الذي يجري رقراقا من أجل تحقيق الولادة الثانية لشعب ذخيرته الوحيدة قتلاه وجرحاه:" مديح الظل العالي، ديوان محمود درويش، ج 2 ص: 25"
قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة
فاضرب بها اضرب عدوك لا مفر
لا يملك الفلسطيني غير دمه يحتمي من الواقع العربي الذي يسيطر عليه التآكل والانهيار. من الدم صنع الفلسطيني أسطورته الفذة. ومن بريق هذا الدم المستباح تشكلت معجزة فلسطينية استطاعت أن تجعل من الغياب حضورا بهيا ومن الموت حياة متجددة تقاوم النسيان. ولذلك أطلق درويش على الدم صفة "الأخضر" رمز الخصب والنماء: "أعراس، ديوان محمود درويش، ج 1 ص:653"
"جَدِّدْ أيها الأخضر صوتي . إنَّ في حنجرتي خارطةَ
الحلمِ وأسماءَ المسيح الحيّ
جَدِّدْ أيها الأخضرُ موتي
إنَّ في جُثَّتيَ الُأخرى فصولاً وبلادْ
أيها الأخضرُ في هذا السواد السائدِ, الأخضرُ في بحث
المناديل عن النيل وعن مهر العروس
الأخضر الأخضر في كل البساتين التي أحرقها السلطانُ والأخضرُ في كلِّ رمادْ
لن أُسمّيكَ انتقال الرمز من حُلم إلى يومٍ
أسمّيك الدمَ الطائر في هذا الزمانْ
وأسمّيك انبعاث السنبلهْ. "
إن الموت في مراثي درويش للشهداء لا يعني النهاية والغياب؛ فالشهداء يستأنفون حياتهم بعد الموت بطريقة طبيعية ويقومون بنفس الأعمال التي تعودوا على القيام بها في حياتهم السابقة: "مديح الظل العالي، ديوان محمود درويش ج 2 ص: 45"
"بيروت ...... ليلا ً
يخرج الشهداء من أشجارهم ، يتفقدون صغارهم
يتجولون على السواحل ، يرصدون الحلم والرؤيا
يغطون السماء بفائض الألوان ، يفترشون موقعهم
يسمّون الجزيرة ، يغسلون الماء ، ثم يطرزون حصارنا
قططا ً .... ونخلا."
ويبلغ من تمجيد درويش للفعل البطولي الذي يقوم به الشهداء أن يحرص على توفير شروط الراحة لأرواحهم بعد الموت فيقوم حارسا لنومهم ولأحلامهم: "ورد أقل، ديوان محمود درويش، ج 2 ص: 343"
"عِنْدمَا يَذْهَبُ الشُّهَدَاءُ إِلَى النَّوْمِ أَصْحُو حصار
وَأَحْرُسُهُمُ مِنْ هُوَاةَ الرِّثَاءْ
أَقُولُ لَهُم
تُصْبحُونَ عَلَى وَطَنٍ
مِنْ سَحَابٍ ومَنْ شَجَرٍ."
مما يؤشر على أن فعل الموت- الاستشهاد بالنسبة إلى محمود درويش طريق سالكة إلى الخلود والحياة المتجددة باستمرار حيث يتوحد في شعر درويش فعل الموت - الشهادة بشهوة الحياة – الخلود: "الجدارية ص:37"
"يا مَوْتَنا ! خُذْنَا إليكَ على طريقتنا ، فقد نتعلَّمُ الإشراق"
لم يمتْ أحد تماما ، تلك أرواح
تغيٌ..ر شكْلها ومقامها /
يكشف هذا القول الشعري عن فهم رومانسي لفكرة الموت التي ترتبط في قصائد درويش بدلالات وإيحاءات عميقة تحيل إلى عوالم رمزية وتخييلية لا تنفصل عن الأبعاد المجازية البانية للأنظمة البلاغية والجمالية التي ما يفتأ درويش يؤسس لها في منجزه الشعري بصبر وأناة. فالموت كما تكشف قصائد محمود صنو التجدد وطريق الانبعاث والخلود. وقد عبر درويش عن هذه الرؤيا بكثافة شعرية شفافة في قصيدته "آه... عبد الله" الواردة في ديوانه "العصافير تموت في الجليل" الديوان الذي كرسه للاحتفاء بمواكب الشهداء الذين يولدون من رحم الموت: "العصافير تموت في الجليل، ديوان محمود درويش، ج1 ص: 260"
"عادة، لا يخرج الموتى إلى النزهة
لكن صديقي
كان مفتونا بها.
كلّ مساء
يتدلّى جسمه، كالغصن، من كل الشقوق
وأنا أفتح شباكي
لكي يدخل عبد الله
كي يجمعني بالأنبياء!.. "
إن موت الشهيد، كما يكشف هذا المقطع الشعري، ليس غيابا مطلقا ولكنه انتقال من حال إلى حال؛ فالشهيد يخرج من قبره ويتنزه ويلتقي الشاعر ليجمعه بالأنبياء لأنه بموته يغادر منزلة البشر العاديين ليرتقي إلى مقام النبوة التي تستطيع اجتراح الخوارق والمعجزات فتنفذ من المرئي إلى اللامرئي حيث الكشوفات الروحية الخصبة فالشهيد يدخل من الشباك كالعطر والنسيم لأنه تحرر من كل القيود المادية التي تشد الروحي إلى الجسدي.
تتجاور في مراثي درويش للشهداء فجيعة الغياب وبهجة الحياة، حيث يغدو الرثاء احتفاء بالموت وتمجيدا للشهيد؛ فالفلسطيني لا يملك غير دمه، معجزته التي تجعل من ملحمة الموت ملحمة للحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.