بعد 18 سنة عن الغزو الأمريكي للعراق، لازال هذا الأخير بلدا لم يجد عافيته بعد رغم ما قدمه الأمريكيون والقوى السياسية العراقية الموالية لهم في تلك الفترة من وعود لنقل العراق من نظام حكم دكتاتوري إلى نظام حكم ديمقراطي يفيض حرية وسعادة على الشعب العراقي. لكن في المحصلة، وبعد كل هذه المدة يتدحرج العراق الى ادنى الترتيب في مؤشر الرشوة والفساد باحتلاله الرتبة 162 عالميا من أصل 180 دولة سنة 2019 ، ومؤشر التنمية البشرية الذي وضع العراق في المرتبة 123 عالميا حسب تقرير الأممالمتحدة الصادر سنة 2020 في مقابل المرتبة 76 سنة 1990، وذلك بعد التدهور الخطير الذي شهده مستوى عيش المواطنين و نظامي الصحة والتعليم الذين سبق أن اعتبرتهم كل من اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية من أحسن الأنظمة في المنطقة سنة 1991 ،رغم ظروف الحرب العراقية الايرانية. وكانت اليونسكو قد أعلنت العراق خاليا من الأمية في السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي.هذا في الوقت تعرف فيه الظاهرة استفحالا ،في الوقت الحاضر، حسب ما صرح به حفظي الحلبوسي مسؤول برنامج محو الأمية في وزارة التعليم العراقية سنة 2018 لموقع سكاي نيوز عربية ، والذي حددها في نسبة 25% رغم التشكيك في هذه النسبة من طرف بعض مسؤولي وزارة التعليم انفسهم الذين اعتبروها لا تعكس الحقيقة المرة للظاهرة . او في ما يخص علوم المعرفة التي تقلصت الى الصفر بعد هجرة الأطر المهنية و العلمية وغياب معيار الكفائة في إسناد المسؤوليات. بالاضافة الى تدهور المؤسسات الانتاجية و البنيات التحتية من طرقات وجسور و قنوات الصرف الصحي ،هذا دون أن نتحدث عن الانقسامات الاجتماعية الحادة بين الوازع الطائفي والديني والقومي و العشائري. يحدث كل هذا في ظل "نموذج نظام الحكم الديموقراطي " الذي تتنافس في ظله الأحزاب على السلطة واقتسام المصالح و النفوذ . يحدث كل هذا رغم الإمكانيات المالية الهائلة للعراق بفضل عائداته من البترول الذي يشكل ثاني احتياطي عالمي . إن العراق اقل مايمكن القول عنه حاليا انه بلد منكوب ،والدولة الموعودة بلغت حد الإفلاس ؛ ساهم في ذلك دون ادنى شك مؤسساته الحزبية والدستورية التي استحدثها الغزو الامريكي . وهو ما يوفر الشروط الموضوعية لتفتيت وحدته ، إن لم تنتبه لذلك نخبه السياسية ،وذلك بعد أن زرع بول بريمر بذور التقسيم والتجزئة من خلال دستور 2005 الذي مكن أمريكا من التحكم بمفاصل الدولة العراقية ووفر الشروط للإبقاء على التواجد العسكري الأمريكي الذي أصبح حاجة ملحة لبعض القوى السياسية العراقية ، او عبر التأثير في بعض ما اسماه بمكونات الشعب العراقي التي كرسها دستوريا سواء من السنة المتضررين من غلبة الشيعة او من الاكراد ذوي النزعة الانفصالية الذين منحهم حق ممارسة "الدكتاتورية الدستورية " على قرارات الحكومة الاتحادية .وهو ما جعل العراق في وضع الدولة الهجينة، لا هي مركزية ولا اتحادية، وحول نظام الحكم فيها من نظام حكم رئاسي إلى نظام حكم برلماني اساسه المحاصصة بين المكونات الطائفية والعرقية . ان الاوضاع الامنية والمعيشية المأساوية للشعب العراقي التي لم تتحسن منذ عقدين من الزمن رغم الوعود التي تطلقها النخب السياسية العراقيةالجديدة في كل استحقاق انتخابي . وعدم تمكن الحكومات المنبثقة عنه من أعمال برنامج وطني للإنقاذ بفعل تصادم مصالح المكونات الطائفية والعرقية ،بالإضافة الى عدم قدرة الأحزاب السياسية على تمثل قيم أنظمة الحكم البرلمانية التي تتطلب من القوى السياسية وضع المصالح الوطنية فوق الاعتبارات الحزبية الضيقة والمصالح الشخصية للأفراد والجماعات . أمام هذه التركيبة المعقدة لنظام الحكم في العراق الذي يزاوج بين المعيقات القانونية المنصوص عليها في دستور 2005 الذي تمت صياغته بواسطة لجنة اعتمد في تأسيسها المحاصصة الطائفية والعرقية بعيدا عن الكفاءات العلمية . وتم التصويت عليه بحماية القوات الأمريكية والبريطانية.وبين المعيقات الحزبية والنخبوية التي لم تتخلص بعد من عقدة النظام السابق باعتمادها لحد الساعة قانون اجتثاث البعث، و احساس بعضها بالدنيوية إزاء الوصي الأمريكي الذي مكنها من الحكم والسلطة. لا يمكن استشراف مستقبل ايجابي للمجتمع العراقي الذي بدأ يفقد الثقة في مؤسسات الدولة و نخبها السياسية، وهو ما عبر عنه بشكل واضح من خلال الحراكات الشعبية رغم ما تخللها من اختراقات. بالإضافة الى ما عبر عنه الشعب العراقي من لا مبالاة تجاه الانتخابات الأخيرة التي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 41%حسب التصريحات الرسمية، و 25 الى 30 % وفق تصريحات المتتبعين من ممثلي بعض الأحزاب المشاركة في الاستحقاقات .وهو ما يعد انتكاسة في مسار التجربة الديمقراطية القائمة على المحاصصة ، و تحدي واضح لخطاب التجييش الطائفي والعشائري والقومي الذي فقد قدرته على التعبئة .كما تشكل نسبة المشاركة المنخفضة في استحقاقات أكتوبر تحدي للمرجعيات الدينية و على رأسها المرجع الشيعي الاعلى السيستاني الذي سبق أن اعتبرت الأحزاب العراقية دعوته للمواطنين والمواطنات العراقيين إلى المشاركة المكثفة في الانتخابات دافعا مهما للرفع من نسبة التصويت. ان المشاركة المنخفضة في الاستحقاقات الحالية ،وعدم تلبية الشعب العراقي المنشغل بحاجاته اليومية لدعوة الأحزاب والمرجعيات الدينية للمشاركة المكثفة نتيجة فقدان ثقة المجتمع العراقي بالعملية السياسية ، واستمرار الأحزاب في المناكفات السياسية لمرحلة ما بعد فرز الأصوات ،و تورط مفوضية الانتخابات في التزوير، و إعلان تحالف الإطار التنسيقي الشيعي رفضه للنتائج التي أعلنتها المفوضية مهددة بالمخاطر التي قد تنجم عن التلاعب بإرادة العراقيين. كل هذا يحيلنا على الالتباس الذي يتهدد مستقبل العراق بعد ان تحول الى ساحة للتدخلات الاجنبية التي تصادر حق الشعب العراقي في تقرير مصيره ،و يدفعنا افى اعتبار القوى السياسية العراقية مسؤولة عن هذا الوضع عندما قبلت بدستور المحاصصة الطائفية الذي هندسه الحاكم المدني الامريكي بول بريمر سنة 2005 ،ولا حقا بتجاربها الفاشلة في الحكم التي لم تلبي طموحات غالبية المجتمع العراقي في العيش بحرية وكرامة . وهو ما جعل العراق بفضل قانون المحاصصة الذي كرسه دستور 2005، الذي قبلت به جميع مكونات الشعب العراقي من الشيعة والسنة والكرد ، معرضا لتدخلات مختلف الأطراف الإقليمية والدولية والانتخابات في هذه الحالة ليست إلا تعبير عن فتنة راقدة . ويدفع بالعراق إلى إعادة التجربة اللبنانية بمواصفات عراقية محلية . أن النخبة السياسية والفكرية والثقافية العراقية حاليا على عاتقها مهام تاريخية لإنقاذ العراق من التفتيت والتجزئة عبر الدعوة الى مشروع سياسي تحرري وطني مقاوم عابر للطوائف والأعراق ، قوامه المصالحة الشاملة من أجل إعادة الثقة للشعب العراقي في امكانية بناء وطن مستقل في قراراته، يتسع لجميع مواطنيه و مواطناته ،ويصون كرامتهم دون تمييز على اساس الجنس او العرق او الطائفة .وذلك بعيدا عن مخلفات الغزو الأمريكي و تدخلات دول الجوار الإقليمي، مع العمل على تجريم الطائفية والتعصب العرقي ،واحترام الخصوصيات الثقافية واللغوية التي تعكس التعدد في إطار الوحدة. وذلك من خلال دستور يقر بمدنية الدولة و نظام حكم رئاسي ديمقراطي ضامن للحقوق والحريات.