على ضوء كلمة ابن كيران خلال احتفالات فاتح ماي (2) الخطأ الثاني: العصبية الحزبية، الأسباب، المظاهر، هل من علاج؟ لا ينكر متابع موضوعي أن حزب العدالة والتنمية – وعلى خلاف كل الأحزاب – مستهدف من طرف جهات مختلفة بعضها معروف، وبعضها الآخر غير معروف، وُتحاك ضده المؤامرات بالليل والنهار، بالسر والعلن (الأسباب الحقيقية وراء هذا الاستهداف والاستعداء ربما سأخصص لها مقالا خاصا)... لذلك اعتمد عبد الإله ابن كيران أساليب استراتيجية وتكتيكية خاصة يطبقها حسب الظروف والحاجة لمواجهة هذا الاستهداف.. الجانب الاستراتيجي يتمثل في أسلوب الدفاع على المدى البعيد لحفظ الوجود الحزبي المريح، وتأمين البقاء السالم في المشهد السياسي وإطالة أمدهما.. بعيدا عن أي توتر خطير مع الدولة ورموزها، وحفاظا على الأعضاء من أي تهديد أمني أو متابعات تتلوها محاكمات أو اعتقالات.. أما الجانب التكتيكي فيتمثل في الهجوم المباغث والخاطف على بعض الخصوم بإثارة قضايا راهنية تشغل الرأي العام، باعتماد لغة تستفزهم وتستنفرهم، فتُعرِّضه هو والحزب لهجومات عنيفة من طرف هؤلاء الخصوم والأعداء، الهدف من ذلك هو إبقاء الحزب في حالة توتر مستمر في أعلى دراجات توتره، وفي تعبئة داخلية واسعة، بحثا عن التماسك الحزبي قصد استرجاعه وتحصينه، وسعيا وراء التضامن الشعبي باعتماد خطاب المظلومية الذي يلامس العاطفة ويدغدغ المشاعر المرهفة، وبالعبارات الشاذة والمفردات والألفاظ العنيفة في مواجهة هذه الهجومات.. فيتسبب كل ذلك في إسهال حاد من الكتابات والتدوينات والخرجات المؤيدة والمعارضة.. التعبئة الحزبية الداخلية تحت تأثير لغة ابن كيران العاطفية العميقة والبليغة تسببت في حالة من التوتر الداخلي، كمحاولة دفاعية ذاتية وجماعية ضد هذه الهجومات والاستهدافات الخارجية، كما تسبب خطابه في حالة من العصبية الحزبية الجماعية مثل عصبية القبيلة.. – إلا القليل منهم – تمحورت حول زعيم الحزب قصد الدفاع عنه بعد شعور عموم أعضاءه بالاضطهاد الإعلامي، فاتجه أغلبهم إلى تبرير كل ما يتلفظ به – بصرف النظر عن صوابه أو خطأه-، كمظهر من مظاهر الحماية للحزب، فتحول الأمر بسبب ذلك إلى ظاهرة عامة وثقافة (بنكيرانية) تسم الحزب وأعضاءه، وسلوك جماعي ينتقل من الدفاع المبرر عن الحزب إلى الهجوم ليس على كل من يكيد له أو يستعديه أو يستهدفه بسوء نية، بل وكذلك الهجوم غير المبرر على من ينتقدون الحزب وزعيمه بصدق وإخلاص وحسن نية، وغيرة على هذا الحزب.. الشعور الجماعي بالاضطهاد، وهيمنة خطاب المظلومية جعل معظم أعضاء الحزب يعتبرون أن كل نقد خارجي استهدافا.. وكل نقد داخلي إضعافا، وهذه حالة نفسية جماعية كادت أو اقتربت أن تصبح عامة إذا لم يتداركها أعضاء آخرون داخل الحزب الذين ما يزالون يتمتعون بقدر معتبر من الاستقلالية والجرأة والشجاعة.. في حين، وما يغيب عن أولئك الذين هم على منهج وخطا ابن كيران، أو يغيبونه عن عمد، أن النقد – ومن أي جهة كان – وبصرف النطر عن السياق والظروف والأوضاع، هو توجيه وتنبيه للحزب، وتقويم وتصويب لأدائه واهتماماته.. وبالتالي النقد لا ولن يكون استهدافا أو إضعافا له.. بل على العكس من ذلك تماما، إن النقد تقوية ودعامة وتحصين له.. فمتى يدرك أعضاء الحزب وقادته هذا الأمر؟ بذلك، أصبح العضو داخل الحزب عبارة عن «كاسيت» يردد كلام ابن كيران، كله أو بعضه، وقل ما تجد إضافات وتعديلات تخرج عن روح ومضمون كلامه. كما أصبح العضو آلة للتصويت وليس عقلا للتفكير والإبداع.. وحتى المجال المتاح له للتفكير لا يتجاوز ما له علاقة بالتصويت والعملية الانتخابية، في إطار الترجيح والاختيار بين المرشحين.. هذا الاختيار القائم فقط على المؤهلات التنظيمية والشخصية الكارزمية، والقدرات الخطابية، وليس على الأطروحات السياسية والانتاجات الفكرية والمساهمات الثقافية.. باختصار، حزب العدالة والتنمية أصبح مصنعا انتخابيا لإنتاج الأصوات وتوزيعها خلال الجموع العامة والمؤتمرات، وليس ورشا للتفكير ومدرسة سياسية وفكرية لإنتاج الأفكار والرفع من مستوى النضج السياسي.. لذلك، وفي حمأة هذا الصراع لا نجد أي مقاربة سياسية أو أطروحة فكرية للإجابة على مختلف التحديات التي تواجه المغرب، وكذا انتظارات الشارع المغربي.. ولا حلولا مبنية على رؤية واضحة، ولا مشروعا سياسيا قادرا على الخروج بالمغرب من أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وكي نكون منصفين وصادقين وموضوعيين، هذا الطموح الكبير يتعذر القيام به حاليا، سواء تعلق الأمر بحزب العدالة والتنمية بمفرده.. أو في إطار تنسيق تنظيمات سياسية ومدنية مشتركة.. ولكن، ليست هذه هي المشكلة الحقيقية.. المشكلة الحقيقية هي افتقاد الحزب للإرادة الجادة من أجل القيام بذلك، سواء في إطار نقاش داخلي، أو في إطار نقاش عمومي يساهم فيه كل أطياف النخبة السياسية والثقافية. بل إن الوضع داخل الحزب يُشعرك بأن هناك إرادة لمنع أي محاولة تفكير في ذلك الاتجاه.. وكل من حاول التفكير خارج صندوق الزعيم، أو حاول تجاوز السقف الذي حدده، أو حاول المغامرة بقراءات وكتابات نقدية إلا وكان مصيره التنمر من طرف أعضاء الحزب، والتهجم عليه، واتهامه بالاشتغال لفائدة أجندة غامضة، أو بدافع الحقد أو الحسابات الشخصية.. وبدون مبالغة، هذا هو مآل ومصير كل «مشاغب» داخل الحزب أثار قضايا خارج ما يهتم به الزعيم، الذي يعمل على إثارته كأولوية (في نظره وحده) أمام الرأي العام.. فالمبادرة لا تكون إلا منه، والمواجهة لا تكون إلا به.. أزمة الحزب الحقيقية ليست أزمة داخلية، وليست أزمة علائقية، وليست أزمة تنظيمية.. كما يتم الترويج له، بل هي أزمة تغييب التفكير الجريء المتقدم، وافتقاد النقاش الحر والمسؤول في القضايا الكبرى (كلها) التي تهم الوطن.. حيث لم يشهد الحزب خلال سنوات عمله الطويلة أي ورش فكري وسياسي كبير يتناول القضايا الكبرى، إلا قليلا ونادرا جدا .. لا تتجاوز عدد مراته أصابع اليد الواحدة!! هناك تعطيل متعمد وممنهج لعملية التفكير الفردي والجماعي في قضايا الإصلاحات السياسية والدستورية بما يقتضيه ذلك من شجاعة فكرية ومسؤولية سياسية واستقلال تنظيمي، وتحرر من قبضة الزعيم .. هناك رُهاب شديد داخل الحزب فيما يتعلق بالحديث عن إشكالية فصل السلط وأزمة تركيزها، والنضال من أجل تحقيق فصل حقيقي لهذه السلط، وإعادة توزيع الصلاحيات والاختصاصات الدستورية في إطار الانسجام الحقيقي والجدي مع الاختيار الديمقراطي.. هناك تخوف داخلي غير مبرر من إثارة تجاوزات وتعسف السلطة، وانتهاكات الأمن لحقوق الإنسان، وسوء إنفاذ القانون من طرف النيابة العامة، وعدم استقلالية القضاء.. أو الجواب عن سؤال الحكامة الأمنية المفتقدة، وعن إصلاح حقيقي لمرفق العدالة المختل.. ولا أحد داخل الحزب يجرؤ على نتاول قضية الصحراء المغربية وسبتة ومليلية المحتلتين خارج الموقف الرسمي للدولة، أو بشكل مختلف عن مقاربة القصر لحل القضية، على اعتبار، وكما يصرح بذلك ابن كيران في عدة مناسبات، أن هذه القضية تخص النظام الملكي دون غيره، يحتكرها لوحده، ولا شأن للحكومات ولا للأحزاب السياسية ولا لجمعيات المجتمع المدني بها إلا في حدود ما تدبره الدولة، ووفق رؤيتها ومنهجها وأهدافها، وعلى الجميع الانخراط في مقاربتها وحلولها، ذلك أن النظام الملكي ثابت ومستمر، ودونه متغير وغير مستقر (كما يقول ابن كيران).. فيما يشبه الحجر على عقول أعضاء الحزب وعقول كل المغاربة.. لماذا لا يوجد هذا التخوف عند بعض الملكيات الديمقراطية مثل بريطانيا وإسبانيا اللتين لهما المشكلة نفسها، المتعلقة بحركات انفصالية في كل بلد؟ الكل هناك في تلك الملكيتين لهم الحق في نقاش الموضوع بكل حرية، أفرادا وأحزابا وصحافة، معارضين ومؤيدين، كل حسب مقاربته ورؤيته الخاصة التي قد تتعارض مع الملكية أو الحكومة، دون وصاية أو تحجير أو احتكار من الملكيتين.. هل يوجد شخص يؤمن بالديمقراطية والشورى وحرية الرأي والتعبير، واحترام الآراء وتعدد الأفكار يقول بهذا الكلام؟ ويمنع على نفسه وعلى أعضاء حزبه الخوض في هذه القضايا التي تهم الوطن؟ كيف سنتقدم فكريا وسياسيا إذا مارسنا على عقولنا هذا الحجر وهذه الوصاية؟ ثلاث قضايا رئيسية، وتكاد تكون الفريدة في اهتمامات ابن كيران، ويجر خلفه حزبا بأكمله: 1/ القضية الفلسطينية بما تحمله من بعد ديني وتاريخي وإنساني.. ولا أحد يعترض على ذلك، إلا في الشق الذي يتفادى فيه إدانة الدولة على توقيعها على اتفاقية أبراهام، بدعوى عدم إضعافها!! والدفاع عن خضوع العثماني لهذا التوقيع من أجل تخفيف الضغط الحزبي والشعبي عليه، وفي محاولة منه لتبرير ذلك.. 2/ مسألة المرجعية الإسلامية وعلاقتها بالتعديلات التي تهم مدونة الأسرة، ولا ننكر عليه ذلك إلا في اتجاه المبالغة والإفراط في التهويل على حساب قضايا أخرى لا تقل أهمية عن مدونة الأسرة.. 3/ دفاعه المستميت عن مرحلة ترأسه للحكومة، وعن القرارات التي اتخذها، وصراعه مع أخنوش حول الدعم الاجتماعي، رغم أن تلك القرارات فيها كلام كثير بين معارضين ومناصرين.. إلا أنها تبقى عبارة عن اجتهادات قد تقع في خانة الصواب أو في خانة الخطأ.. باستثناء هذه الملفات، فإننا لا نكاد نجد له أي معركة حقيقية تهم قضايا حقوق الإنسان وحرية التعبير التي تُنتهك باستمرار، ولا تلك الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي تدوسها السلطة، ولا الشجاعة في أخذ مبادرة الدعوة إلى إصلاحات سياسية ودستورية تعيد الحياة للأحزاب السياسية، وتعيد للمشهد السياسي وهجه الذي فقد معناه في عيون وعقول المغاربة.. للأسف الشديد، يعيش الحزب الآن تحت سطوة الظواهر الصوتية وغايب المدارس الفكرية.. حيث الغلبة للعواطف والخطابات الشعبوية، ومحاصرة الفكر العقلاني والناقد.. من أجل مطاردة وهم «الإصلاح في ظل الاستقرار».. وأخيرا.. كان وسيظل الأستاذ عبد الإله ابن كيران صوتا مرتفعا جدا في الخطابة السياسية الهامشية، وسقفا متدنيا جدا في المطالب السياسية الحقيقية.. وربما سيستمر الوضع على ما هو عليه إلى حين ظهور جيل جديد من القادة والأعضاء.. ربما يأتي بالعلاج!!