من الوهلة الأولى، يبدو أن هذا السؤال يحمل جوابا ضمنيا يصرح بنهاية مشروع " الثقافة الوطنية "، أو بقرب نهايته طالما أن مجرد التساؤل " عما تبقى" من هذا المشروع قد يوحي فعلا، بأننا أمام تحولات جديدة، إن لم تعلن نهاية هذا المشروع، فإنها تبشر – على الأقل-بوجود قطائع عنيفة تعلن نهاية السرديات القديمة في مقابل بروز سرديات جديدة تمس المضمون الثقافي للوطنية المغربية. إن التساؤل عن " الثقافة الوطنية" بقدر ما يحيلنا على الأسس المشكلة للوطنية المغربية (الانتماء، الشعور الوطني، الشخصية المغربية، الهوية المتعددة…الخ)، بقدر ما يحيل أيضا على منظومة القيم المشكلة للمشروع الثقافي الوطني باعتبار أن سؤال " الثقافة الوطنية" لم ينفصل عن المشروع الديمقراطي في علاقته بتشكل الدولة الوطنية. وهو الأمر الذي يتعامل معه البعض بكثير من التبسيطية والاستسهال والاطلاقية عند الحديث اليوم عن " تمغربيت" بشكل فلكلوري دون تدقيق في أصول ومكونات هذا المفهوم الذي تحول إلىشعارسياسي فج ، بدون مضمون ،وبدون جوهر ثقافي. وبقدر ما ندرك أن جزءا كبيرا من المحمولات الثقافية لمشروع الثقافية الوطنية الديمقراطية قد استنفد مهامه لعوامل موضوعية، ربما لأن الزمن التاريخي قد تجاوزها بالنظر للتطورات التي حملها منذ نهاية القرن الماضي، أو لأن الفاعلين أنفسهم ( المعنيين بهذا السؤال) وجدوا أنفسهم خارج المعادلات الجديدة للحداثة التكنولوجية العابرة للقارات، فإن مشروع الثقافية الوطنية الديمقراطية كما تبلور لدى نخب الحركة الوطنية وما بعدها يسائل اليوم النخب المعنية بهذا السؤال بغية التذكير بمنطلقاته ورهاناته الكبرى، ومن أجل إعادة صياغته وتكييفه وفق الحاجات الموضوعية للتحديث المجتمعي. وكيفما كان الحال، فإن مجرد طرح السؤال لا يعني التسليم بأن هذا المشروع قد انتهى، أو استنفذ مشروعية قيامه طالما أن الأسس التاريخية للدولة الوطنية التي أفرزت أسئلة هذا المشروع مازالت قائمة، على الرغم من التطور الهائل في أنماط الحياة العامة، وفي أدوات التواصل الاجتماعي. وطالما أن الحاجة إليه قد تتجدد كلما استحضرنا حجم الدمار الذي تحدثه وسائط الاتصال الالكتروني على مستوى القيم، والتواصل، والعلاقات العامة، وأنماط التلقي وترويج المعلومات…. بل إن الحاجة إليه أضحت أكثر ملحاحيةبالنظر لما لحق المشروع الثقافي الوطني من صدمات عنيفة، لعل أخطرها فشل مشاريع إصلاح التعليم في بناء المدرسة المغربية المرجوة،وانهيار مؤسسات الثقافة الوطنية. لا حاجة للتذكير في هذا الصدد بأن مشروع الثقافة الوطنية نضج في بيئة سياسية حاضنة له.و ارتبط عموما بفكرة "الإصلاح" بأبعادها السياسيةوالمجتمعية،والاقتصادية،والثقافية. وكانت لهذه الفكرة أدرعها الخاصة التي تحملها كمشروع للدولة وللمجتمع. وعلى الرغم من كون فكرة الإصلاح كانت تبدو عند بعض النخب فكرة منبوذة ، إلا أن المسارات التي قطعتها مكنت بلادنا من ربح رهانات عديدة على الرغم من الاخفاقات المرتبطة أساسا بتصدع الحركة الديمقراطية، وباستنفاذ جزء كبير من الشعارات التي أطرت هذا المشروع . وهل من حاجة للتذكير بأن مشروع الثقافة الوطنية الذي سمح بمطارحة العديد من القضايا الشائكة على امتداد عقود من الزمن عبرالكتابة، والحوار، والترافع قد ساهم في تحقيق تراكمات مهمة في تعزيز أسس الدولة الوطنية.لنذكر مثلا بأسئلة الديمقراطية،والأصالة والتحديث،والوحدة الوطنية، والمسألة القومية، والعمل الثقافي في علاقته بالسياسي، والبعد الوطني والبعد الديمقراطي في الثقافة و التنمية، ، وقضايا الإصلاح السياسي والدستوري، وأدوار النخبة في الإصلاح، والوحدة المغاربية،و أدوار البرجوازية الوطنية، وتحرر المرأة، و المدرسة العمومية…الخ وكلها قضايا لم تكن معزولة عن السياق التاريخي الذي أفرزها، وعن النخب الثقافية التي كانت تعتبر أن بناء المشروع الثقافي الديمقراطي جزء من بناء مشروع الدولة الوطنية.ولما كانت فكرة الإصلاح فكرة سياسية بامتياز، فإن حملة المشروع من النخب السياسية الحاضنة له كانت في قلب المعارك التي افترضها الإصلاح. غير أن التحولات المستجدة التي شهدتها بلادنا غيرت بشكل عميق من آليات إنتاج وتوزيع الأفكار والمعلومات، ومن أدوات تنظيم المجتمع، والأسرة، ومن أدوار ووظائف الاعلام بمختلف قنواته . وحيث إن الشروط المنتجة لمجتمع المعرفة ولقيم السوق أصبحت عاملاجديدا في تكوين المجتمع، وفي إنتاج الأفكار وتداولها ، فإن هذا الوضع خلق هوة كبيرة بين المتعلمين وغير المتعلمين، بين الفقراء وبين الأغنياء، بين " الجماهير" وبين " النخبة "، بين الاقتصاد و بين السياسة، بين التنمية وبين الديمقراطية، بين "الثقافة المكتوبة" وبينالثقافة الالكترونية الجديدة التي تنتج قيمها ، وسوقها ، وجمهورها ، وقوانينها الخاصة. كما أن المقولات الثقافية التي كانت تنتعش في حقل الثقافة الوطنية ستتراجع قسرا لفائدة الليبرالية الثقافية القائمة على مفاهيم السوق، ،والفردانية،والربح ،والفرجة، والمصلحة..الخ. حتى أن المدرسة " الجديدة" باتت تبحث لنفسها عن شعارات " التميز" و " الريادة" و" التفوق" على الرغم من جيوش المتمدرسين الذين ترمي بهم خارج أسوارها كل سنة. ولأننا نعيش في قلب هذه التحولات العميقة التي نقلتنا بسرعة إلى الزمن الافتراضي، وإلى زمن الثورة الإعلامية والمعلوماتية العابرة للقارات، فإننا لاندرك ربما أن جزءا كبيرا من الشعارات التي رافقت مشروع " الثقافة الوطنية الديمقراطية" سينهار بفعل منطق التطور التاريخي، أو سيتفاعل قسرا مع رياح هذه التطورات التي أصبحت تكرس الثقافة الاستعراضية بنخبها الخاصة، عبر مختلف الوسائط والقنوات الجديدة حتى أصبحت بعض "المؤسسات" الثقافية فارغة من أي محتوى، ومجردة من أي مشروع ثقافي. والحق أن منظومة التفاهة التي استقرت في الفضاء العام، بما هي نتاج لمجمل التحولات الجارية أنتجت ، بالنتيجة، نخبها في السياسة، وفي الإعلام، وفي الثقافة، وفي التواصل. ولأن مسار الفكرة الإصلاحية يستوجب استحضار كوابح الديمقراطية، والتنمية والتقدم ، فإن ذلك يقتضي إعادة الاعتبار لمشروع الثقافة الوطنية في ضوء التحولات الجارية التي يعيشها المجتمع المغربي، وفي ضوء المتطلبات الجديدة لمجتمع المعرفة.