يشكّل مشروع القانون المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي محطة جديدة في مسار الإصلاحات المتعاقبة التي تشهدها الجامعة المغربية منذ عقود، غير أنّه هذه المرة يأتي في سياق استراتيجي مغاير، حيث يتقاطع مع رهانات كبرى يتبناها المغرب، منها التحول نحو اقتصاد المعرفة، وتعزيز مكانة البحث العلمي في التنمية، وتحقيق العدالة المجالية في الولوج إلى التعليم. المشروع، ينتظر التداول والمصادقة عليه داخل مجلس الحكومة المقبل مع الدخول السياسي في بداية شهر شتنبر، يقدم نفسه كإطار وطني موحَّد يروم تجاوز الطابع التجزيئي الذي طبع الإصلاحات السابقة.
أهداف المشروع ومبادئه وينطلق مشروع النص القانوني، الذي حصل موقع "لكم" على نظير منه، من مجموعة مبادئ كبرى، أبرزها تكافؤ الفرص وضمان الإنصاف في الولوج، الارتقاء بجودة التكوين والبحث بما يستجيب لاحتياجات سوق الشغل، وإعادة الاعتبار للجامعة باعتبارها فضاءً للإبداع والمعرفة لا مجرد مصدر للشهادات. كما يراهن المشروع على انفتاح الجامعة على محيطها الاقتصادي والاجتماعي عبر شراكات مع القطاعين العام والخاص، في إطار حكامة جديدة ترتكز على الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة. التنظيم العام وآليات التطوير ويقترح المشروع إعادة هيكلة الخريطة الجامعية بما يضمن التوازن الجهوي وتكامل التخصصات، وإحداث مجالس للحكامة، منها مجلس الأمناء الى جانب مجلس الجامعة، تسمح بتلاقي أدوار الدولة مع استقلالية الجامعات. كما يُدرج الرقمنة والذكاء الاصطناعي ضمن مكونات المنظومة التكوينية والبحثية، بما يواكب التحولات العالمية في مجال التعليم العالي، وفق رؤية المشروع. وتُعد آليات التقييم وضبط مؤشرات النجاعة والجودة من الأدوات الجديدة التي يسعى النص لإرسائها لتجاوز أعطاب الماضي. التمويل ومصادر الدعم من أبرز المستجدات اعتماد مقاربة تمويل متعددة المصادر، إلى جانب الميزانية العامة، هناك شراكات مع القطاع الخاص، وموارد ذاتية من خلال الابتكار والخدمات الجامعية، وتمويلات دولية عبر التعاون الأكاديمي. ويعكس هذا التوجه إرادة في تقليص تبعية الجامعات للتمويل العمومي الحصري، وإن كان يطرح في الآن نفسه أسئلة حول المخاطر المحتملة لتغوّل المنطق السوقي على حساب الوظيفة المجتمعية والمعرفية للجامعة. وينص المشروع على إرساء نظام وطني للتقييم الدوري يشمل وكالات متخصصة وتقارير مرفوعة إلى الحكومة والبرلمان. الهدف المعلن هو جعل السياسات التعليمية قابلة للمراجعة والتطوير المستمر، وهو ما يعكس إدراكا متزايدا لضرورة الانتقال من إصلاحات موسمية إلى دينامية مؤسساتية دائمة. بين الطموح والواقع ويرى مراقبون أن المشروع يمثل إعلان نوايا استراتيجية أكثر من كونه مجرد نص تنظيمي، حيث يسعى إلى إعادة الاعتبار للجامعة المغربية كرافعة للتنمية. غير أنّ نجاحه سيظل مرهونا بمدى قدرة الفاعلين على تفعيل مقتضياته بعيداً عن معيقات البيروقراطية وضعف التنسيق ومحدودية التمويل. فالتحدي المطروح اليوم هو ترجمة الإصلاح على الورق إلى إصلاح ملموس داخل قاعات الدرس ومختبرات البحث، بما يجعل الجامعة رافعة حقيقية للانتقال التنموي والمعرفي الذي يتطلع إليه المغرب. وبقدر ما يفتح مشروع قانون التعليم العالي والبحث العلمي أفقا جديدا أمام الجامعة المغربية ييصير النقاش العمومي، غير أنه في الآن ذاته يضعها أمام امتحان صعب واسئلة ملتهبة: كيف توفّق بين الانفتاح على سوق الشغل والالتزام بوظيفتها النقدية والعلمية؟ كيف تستثمر الرقمنة دون أن تفقد بعدها الإنساني؟ وكيف تجذب التمويل المتنوع دون أن تخضع بالكامل لمنطق السوق؟