ماذا بعد كل هذه الضجة والإثارة التي اجتاحت المشهد الإعلامي فجأةً كريحٍ السَّمُوم، مُلهبة كحرارة هذا الصيف القائظ، ردًا على سلسلة مقالاتٍ في صحيفة "لوموند" الفرنسية؟ ضجةٌ بدا أنها هيئت بشكلٍ مباغث واستثنائي؛ أُشركت فيها العديد من المواقع الإلكترونية والجهات والأشخاص، بالإضافة إلى بعض الشخصيات الأجنبية المتواضعة، في المهمة. في ظل صمت متواصل للجهات الرسمية (الديوان الملكي ووزارة الاتصال). تم ذلك دون أدنى مراعاة لمستوى هذه الردود؛ غير العملية والسلبية وغير الفعالة إطلاقًا.. ولا تزال ذكرى كتاب الراحل جيل بيرو: "صديقنا الملك" حاضرة في أذهاننا، مع أن من شأن مثل هذه الردود المقتبسة من أساليب الوزير الراحل إدريس البصري، توسيع نطاق المشاكل المحدقة، في غمرة تجاهل الاحتمالات السيئة المرتبطة بالحملة إياها. يحدث هذا دون الاهتمام بالتنافر الذي يصاحب حملة الهجومات المستنفرة؛ وهو تنافر ينشأ في المقام الأول من أولئك الذين يقودون الأوركسترا، وهم أكثر من واحد وأكثر من طرف في القمرة الخلفية، يفتقر أغلبهم إلى المهارة والقدرة على التمييز بين النوتات المختلفة، وربما يعتقدون خطأً أن الحركات المتناقضة لأصابعهم الطويلة، وهم يمسكون هراوات الأوركسترا، مع إيماءاتهم الرمزية، لا تظهر في الواقع عارية أمام لعموم. في هذا المشهد الأركسترالي الصاخب والمشحون والمشوش، قد يصل الأمر إلى حد الإزعاج أو زعزعة الاستقرار. تلك نتيجة قريبة المنال، خاصةً عندما يجرؤ شخص يفتقر إلى المصداقية على الحديث عن المصداقية، وعن الصحافة الحرة والنزيهة، ويفتح شدقيه للكلام عن التضليل الإعلامي المزعوم… لقد اعتدنا على قيام وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة بنشر معلومات كاذبة؛ تهدف إلى التلاعب بالرأي العام؛ وتبرير قراراتها وأفعالها غير الشعبية، وعلى تشويه الحقائق باستمرار؛ وتعزيز سرديات أحادية الجانب. كيف يمكن لنظام استبدادي لا يتردد في قمع المعارضة وتشويه سمعة المعارضين؛ واضطهاد وشن هجمات تشويه ضد المنابر والصحفيين المعارضين بهدف تقويض مصداقيتهم، بألا يلجأ سوى إلى استخدام استراتيجية تهدف إلى إخفاء الحقائق ومحاربة الشفافية والدقة والمساءلة؛ وإضعاف الخطاب النقدي، بل وحتى منع فرض المساءلة على المسؤولين وإدانة الفساد والفاسدين؟ (كما في القانون الأخير الذي أقره وهبي، وزير العدل)… من أين لمثل هذه الحكومة حقًا كسب ثقة الشعب والجماهير؟ لن يُضيف أحدٌ جديداً بالقول إن الثقة في المؤسسات الحكومية معدومة، أو إن دعم المغاربة للإعلام الرسمي والمروجين له والمصفقين.. ضعيف، بل وضعيف جداً؛ وفي أحسن الأحوال، هو في تراجع مُريع… ربما من غير المجدي الاستشهاد باللغة السائدة على الإنترنت والزعم بأن إنتاجات وسائل الإعلام الرسمية قد وُصفت بأنها Fake news، "أخبار كاذبة"، خالية من أدنى درجة من الحقيقة واليقين. وهذا ليس مفاجئًا، ففي سياق الاستبداد والفاشية، يسود الشك وعدم اليقين. *** معظم ردود الفعل على مقالات "لوموند" اتسمت بالتوتر وبالعدوانية، وأحيانًا جاءت في شكل دعاية سياسية غير فعّالة؛ ومن الواضح أن بعض المحتوى مدعومٌ بشكلٍ مفضوح. ناهيك عن لغة الشتائم واللعنات الحمقاء، المُستقاة من مواسير الصرف الصحي، والتي نجح الكثيرون في دمجها في ردودهم وتعليقاتهم السخيفة. هذه اللغة لا علاقة لها إطلاقًا بالنقاش والإقناع… أو بالحقيقة والحجة والبرهان. هل المعلومات الواردة في تحقيق "لوموند" مجرد أكاذيب مُختلقة مُقنّعة، جرى تقديمها في صورة حقائق ومعلومات موضوعية ودقيقة؟ أم أن الأمر مجرد تجميع لبيانات شائعة ومنتشرة، وإعادة صياغة صحفية لما يعرفه الجمهور المغربي، أو النخبة على الأقل، قبل أي مراقب أو محلل أجنبي، عن الوقائع والظروف التي يعيشها ويعاني منها سكان هذا البلد الآمن؟ أم أنها مجرد حملة تضليلية، تخفي أهدافًا خفية، وتسعى للنيل من بلدنا ومن مؤسساته ورموزه؟ إذا تأكد ذلك، فمن هم هؤلاء المقيتون يا ترى، ومن هي الجهة الأعلى التي تحرك خيوطهم؟ هل تقع هذه الجهات حقًا خارج الدائرة العشرين في باريس؛ وبعيدا عن شارع مورتييه، حيث يقع مقر المخابرات الفرنسية؟ وتوجد أبعد من قصر الإليزيه ومبنى الكي دورسيه؟ هل هي إحدى الجهات الإقليمية المكلفة بتنفيذ مخطط هائل ومهول، يتوخى إعادة رسم الخرائط والبلدان، وتأسيس الأنظمة والكيانات والتحالفات؟ أم أن كيان هذا المغرب المبارك قد وصل إلى هذا المستوى من الضيق النفسي ومن الهشاشة والضعف الهيكلي؟ كيف يُمكن لمقالٍ منشورٍ في صحيفةٍ أجنبيةٍ أن يُهزّ جبال الأطلس وقمم الريف، ويُغيّر مجرى أنهار سبو وأم الربيع ودرعة؟! أو يُثير الاضطراباتِ والهوسِ والفوضى التي انطلقت بالفعل؟ أم أن من يقبضون زمام الأمور في البلادِ يُريدونَ أن يُحصرونا في المعلوماتِ التي تُعبّرُ عن قيمهم، مُجبرينَنا على تصديقِ آرائهم فقط وأسلوبِهم الإعلاميّ، البائد سياسيًّا وغيرَ سياسيّ؟ وبالتالي يُصرفونَنا عن الانتباهَ عن المشاكلِ الحقيقية… في الواقع، نعلم أن مسألة "الثقة" الشعبية لم تعد أولويةً لدى صانعي القرار هنا، فهم ليسوا بأمسّ الحاجة إليها… وليست جوهريةً ضمن مشاريعهم ومصالحهم الآنية! يحدث هذا في ظل غياب استراتيجيةٍ تهدف إلى استعادة الثقة… أو إلى طرح الأسئلة اللازمة والضرورية حول الإجراءات الواجب اتخاذها للحدّ من المعلومات "المضللة" أو "المتحيزة" المزعومة الواردة في تقارير المنظمات الدولية وفي خلاصات هيأة الأممالمتحدة، وفي تحليلات الصحافة والإعلام الأجنبي، تعليقًا على الأحداث والقضايا الراهنة المتصلة بواقعنا؟ هل هي ساعة الدعوة إلى الاستيقاظ والتنبيه قد أزفت…!!، وقد جاءت على شكل ست دقات أجراس متتالية، ناطقة بلغة المقيم العام الماريشال ليوطي، الذي ينسب إليه تحديث الدولة ونظام المخزن في الإيالة الشريفة؟ لكن يبقى السؤال الأهم: هل من الممكن في هذا العصر مواجهة التضليل بالتضليل؟