بعد أكثر من ربع قرن من تولي الملك محمد السادس مقاليد الحكم، وأربعة عشر عاماً على انطلاق حراك 20 فبراير، وثماني سنوات على اندلاع حراك الريف، يطل علينا اليوم جيل جديد من الشباب المغاربة، وُلد بين عامي 1990 و2010، في حركة احتجاجية تتسم بمطالب اجتماعية صرف: العدالة الاجتماعية، جودة التعليم، وتحسين خدمات الصحة. غير أن اللافت في هذه الدينامية الشبابية الناشئة، هو تغييبها التام للقضايا السياسية والحقوقية والأمنية، والتي شكّلت جوهر الحركات الاحتجاجية السابقة. ففي الوقت الذي صدحت فيه حناجر شباب حركة 20 فبراير منذ اللحظة الأولى بشعار مركزي قوي: "الشعب يريد إسقاط الفساد والاستبداد"، ورفعوا صوراً وشعارات استهدفت مراكز القوة داخل الدولة، نلاحظ اليوم أن احتجاجات جيل Z لا تتعدى سقفاً مطلبياً محدوداً، لا يمس البنية العميقة للسلطة، بل يكتفي بمطالب معيشية مباشرة. الأمر يدعو للتأمل. فجيل "ولي العهد" – كما يحلو للبعض وصفه – لا يبدو معنيًّا بتقرير الخمسينية، ولا بتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ولا يهتم بالإصلاحات الدستورية أو السياسية. إنه جيل مفكّك العلاقة مع الأحزاب السياسية، بمختلف مشاربها الفكرية والإيديولوجية، ويضع في مقدّمة أولوياته قضايا الصحة والتعليم والشغل، بعيداً عن أي خطاب ديمقراطي أو حقوقي شامل. قد تبدو هذه الحركات الاحتجاجية هجينة في ظاهرها، ولكنها تعبّر في العمق عن تحوّل نوعي في وعي شبيبة المجتمع. إنها تعكس رؤية براغماتية للحياة، تتجاوز الشعارات الكبرى، وتنشغل بتحقيق ضروريات يومية يراها الجيل ضرورية لضمان الكرامة والعيش الكريم. وبالمقارنة مع حراك 20 فبراير، الذي هزّ كيان الدولة ودفع بالمؤسسة الملكية إلى التفاعل السريع – عبر خطاب 9 مارس، ودستور يوليوز، وانتخابات مبكرة، والعفو عن معتقلين – فإن حراك جيل Z يفتقر إلى السياق السياسي والوطني والدولي الواضح الذي أضفى على حراك 2011 شرعية لا جدال فيها. أما حراك الريف سنة 2017، فقد جاء نتيجة تراكمات اجتماعية عميقة، وأفرز دينامية احتجاجية ذات بعد جهوي ووطني في آن، بخطاب صريح وجريء حول قضايا الحكرة والفساد. في المقابل، فإن الحراك الحالي لجيل Z، يبدو وكأنه انفجار اجتماعي بلا خلفية سياسية، ما يدفع إلى التساؤل المشروع: هل نحن أمام تحرك عفوي فعلاً، أم أن هناك من يسعى لتوظيف هذا الجيل لتحقيق أجندات معينة؟ لا سيما وأن المطالب المحدودة والمركزة على الخدمات العمومية قد توحي برغبة في تحييد هذا الجيل عن الانشغال بالأسئلة العميقة المرتبطة بالحكم، والديمقراطية، والحقوق، والمحاسبة. الأكثر إثارة للقلق، هو ما شهدناه من منع تعسفي لبعض الشباب من التعبير عن رأيهم أمام الكاميرات، وسَوقهم إلى مخافر الشرطة للاستماع إليهم في محاضر رسمية، في مشهد يعكس مفارقة صارخة بين بساطة المطالب وشدة الرد الأمني! ويبدو أن هناك من يسعى إلى بعث رسالة مفادها أن جيل "مولاي الحسن" هو جيل لا يريد أكثر من تعليم جيد، وخدمات صحية لائقة، وفرص شغل، ولا يعنيه الحديث عن الديمقراطية أو الانتقال السياسي أو كشف الحقيقة والمصالحة التاريخية. بل إن البعض قد يكون يراهن على هذه الدينامية المختزلة، كمقدمة لإسقاط حكومة تتهم بخدمة مصالح الرأسمال الجشع، والتمهيد لانتخابات سابقة لأوانها تحت شعار: "نحو إصلاح التعليم والصحة والتشغيل". غير أن اختزال الاحتياجات الإنسانية في هذا "الثالوث" وحده، هو تبسيط مخلّ بالواقع. فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. ولا خير يُرجى من جيل لا يرى في الحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان أولويات أساسية، حتى وإن كانت مطالبه الاجتماعية مشروعة وملحّة. فالحرية هي الأصل، والانتقال الديمقراطي الحقيقي هو البوابة لضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومكافحة الفساد بشكل بنيوي. من هذا المنطلق، وفي ضوء ما عايناه خلال الأيام الماضية، من سلوك السلطات، وطبيعة الخطاب الشبابي السائد، والتحليل الإعلامي المصاحب، يصعب الاقتناع بأن ما نشهده اليوم يمثل دينامية احتجاجية طبيعية وعفوية، كتلك التي عرفها المغرب خلال 2011 أو 2017. بل الأرجح أننا أمام لحظة رمادية، تتطلب كثيراً من اليقظة، والتحليل النقدي العميق، قبل الانخراط العاطفي في تأييد أو معارضة ما قد يكون مجرد واجهة لتحولات أكبر تُطبخ في الخفاء.