منذ سبعين عاماً ظل الشعب المغربي بأجياله المتلاحقة يناضل بمختلف الوسائل من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وهو تاريخ مثقل بالانتفاضات والحركات المطلبية التي جوبهت بقمع دموي خلّف آلاف الضحايا ممن نُعتوا ب"الأوباش" و"شهداء كوميرا"، وقُتلوا في الساحات العمومية أو تحت التعذيب في الزنازن المظلمة. وبعد سنوات "الرصاص"، دُشّنت مرحلة جديدة بشعارات براقة: "المصالحة الوطنية"، "الانتقال الديمقراطي"، "العهد الجديد". اعتقد الكثيرون أن المغرب مقبل على تحول حقيقي في ظل النظام القائم. غير أن الواقع سرعان ما كشف أن ما تغيّر هو الخطاب السياسي لا الممارسة. وبدلاً من وعود "الدولة الاجتماعية" و"ربط المسؤولية بالمحاسبة"، ظل القمع قائماً بأساليب أكثر تطوراً لمواجهة الأصوات المعارضة والحركات الاجتماعية.
اليوم ينهض جيل جديد استجاب لنداء "GenZ212″، رافعاً مطالب أولية ونازلاً إلى الشارع يطالب السلطات بالاستجابة لها. يأتي هذا الحراك في سياق سلسلة احتجاجات شهدها المغرب هذه السنة، تعبيراً عن سخط شعبي متصاعد تجاه تدهور الأوضاع الاجتماعية، وتراجع الخدمات العمومية الأساسية، وغلاء المعيشة، وتقلّص فرص الشغل، وغيرها من الأزمات التي تمس الحياة اليومية للمواطنين. إرث الحركات السابقة إن مطالب الأمس هي نفسها مطالب اليوم. وتجارب الحراكات السابقة – من حركة 20 فبراير، إلى حراك الريف، وحركات رجال التعليم والصحة – غنية بدروسها، بنقاط قوتها وضعفها. ومن حق جيل "GenZ" أن يستفيد منها لرسم مسار جديد يمكن أن يحقق ما عجزت عنه تلك الحركات. تطرح هذه التجارب أسئلة جوهرية: لماذا فشلت الحركات السابقة في فرض مطالبها رغم سلميتها وقوة تعبئتها وطول نفسها الذي دام أشهراً؟ هل يمكن تحقيق تعليم عمومي جيد ومستشفيات مجهزة وعدالة اجتماعية دون الحد من الاستغلال الفاحش للثروات، ودون فرض ضرائب على الثروات الكبرى، ودون تقليص التبعية للرأسمال الأجنبي والمؤسسات المالية الدولية؟ وهل يمكن القضاء على الفساد والاستبداد في ظل نظام قائم على الفساد والاستبداد، وشراكات تجمع الطبقة الحاكمة مع الرأسمال الأجنبي، يضاف إليها اليوم التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ حدود النظام وأدواته الواضح أن النظام حين واجه المطالب الشعبية في الماضي بالقمع لم يفعل ذلك حبّاً في القمع، بل لأن الاستجابة لها تعني المساس بمصالح الطبقة التي يمثلها ويحميها. ومن هنا، فإن تحقيق مطالب التعليم الجيد، والرعاية الصحية، والعدالة الاجتماعية لن يتم من دون تغيير جذري يفضي إلى سلطة نابعة من الإرادة الشعبية وخاضعة لمراقبتها. أما الأدوات التي سيلجأ إليها النظام في مواجهة الحراك الحالي فلن تخرج عن المألوف: التطويق القمعي لمنع توسع الاحتجاجات في الأحياء الشعبية والقرى. الحصار السياسي عبر اختراق الحركة وإبقائها في حدود مطالب اجتماعية جزئية دون المساس ببنية الحكم. المناورة عبر الوعود الفارغة والتجاوب المغشوش، وربما تشكيل لجنة وطنية أو حكومة "وحدة وطنية" تمتص الغضب مؤقتاً على شاكلة "هيئة الإنصاف والمصالحة"، لتعود الأمور بعدها كما كانت. نحو أفق جديد إن الحراك الذي فجّره نداء "GenZ212" هو حركة سلمية ترفع مطالب مشروعة يلتف حولها الشعب المغربي، وتفرض دعماً مطلقاً سواء لتعزيز تلك المطالب أو للتنديد بالقمع الذي يتعرض له الشباب. لكن في الوقت نفسه، ومن دون المسّ باستقلالية هذه الحركة أو الركوب عليها، فإن على القوى الديمقراطية أن تتحمل مسؤوليتها في بناء جبهة وطنية ديمقراطية تضع مسألة السلطة ونمط الحكم والنموذج التنموي الوطني في صلب النقاش. وهي مهمة تستلزم أيضاً إسقاط التطبيع مع الكيان الصهيوني والتحرر من الإملاءات الخارجية. بعبارة أخرى: المطلوب إعطاء مضمون واضح للشعارات المرفوعة، وتحديد آليات تحقيقها، والسلطة والأدوات التي ستنفذها. عندها فقط يمكن للحراك الجديد أن يفتح أفقاً سياسياً واجتماعياً بديلاً، ويحوّل المطالب المشروعة من صيحات في الشارع إلى برنامج تغيير حقيقي.