برعلا زكريا تضع مشاهدة شريط وثائقي علمي دقيق يعرض آخر ما رصدته التلسكوبات المتطورة العقل البشري أمام أزمة مفاهيمية حادة وتجربة شعورية تخلط الرعب بالذهول، إذ تكشف الصور والبيانات عن كون يعج بملايير المجرات التي تضم كل واحدة منها ملايير النجوم والكواكب والثقوب السوداء، مما يحول كوكب الأرض في ثانية واحدة إلى مجرد ذرة غبار تسبح في فضاء لا يبالي بوجودنا، وتفرض هذه الحقائق المذهلة حالة من التواضع الإجباري أمام مشهد يتجاوز حدود الخيال البشري، مصداقا لقوله عز وجل ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: 57]. يتلاشى الغرور البشري تلقائيا عند استيعاب لغة الأرقام الفلكية التي تتحدث عن مسافات تقاس بالسنوات الضوئية وعن كون يتمدد بسرعة تفوق سرعة الضوء مدفوعا بطاقة غامضة، فتتحول الحروب الأرضية والصراعات على السلطة والركض خلف الأمجاد الشخصية إلى عبث صبياني أمام عظمة هذا الملكوت المتوسع، ويستشعر المشاهد بصدق قوله عز وجل ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]، حيث يصبح الإنسان مجرد ومضة بيولوجية عابرة في عمر زمن كوني سحيق، مما يحرر النفس من ثقل الهموم اليومية الصغيرة التي تبدو تافهة للغاية مقارنة بحركة المجرات ودورات حياة النجوم التي تنفجر لتصنع العناصر التي تتكون منها أجسادنا. يبرز وسط هذا الفناء المادي الهائل عزاء فلسفي وحيد يتمثل في مفارقة الوعي التي أشار إليها بليز باسكال، فرغم أن الكون يستطيع سحق الإنسان بحدث فلكي بسيط، إلا أن الإنسان يمتلك ميزة التفوق لأنه يعي موته ويعي عظمة الكون، بينما يظل الملكوت بكل جبروته مادة صماء لا تعي وجودها، وهذا الوعي هو ما يمنح الكائن البشري كرامته الفريدة ويجعل من العقل الأداة الوحيدة القادرة على استيعاب هذه الشساعة ومحاولة فهم قوانينها الصارمة بدلا من الاستسلام للخوف والعدمية. تفرض هذه الحقائق الكونية إعادة ترتيب للأولويات الحياتية، فيصبح البحث عن الدفء الإنساني والعلاقات الصادقة والعيش في الآن هو الاستجابة المنطقية الوحيدة لمواجهة برودة الفضاء وصمته المطبق، إذ يدرك المرء أننا جميعا ركاب على متن سفينة فضائية زرقاء صغيرة ونادرة، مبحرين في محيط مظلم لا شاطئ له، مما يحول الخوف من الضآلة إلى امتنان عميق لفرصة الوجود والمشاهدة، ويدفع العقل للبقاء في حالة تساؤل دائم ودهشة لا تنقطع أمام أسرار لا تزال تتكشف يوما بعد يوم.