العرائش أنفو ظلت العرائش لآلاف السنين اكثر من مدينة ساحلية هادئة تقف على تخوم المحيط، فقد كانت بوابة مفتوحة على البحر ومرفأ للاحلام التي عبرت ضفتي المتوسط والاطلسي معا، في مياهها رست سفن الفينيقيين محملة بالحروف والالوان والعطور، ثم جاء الرومان ليؤسسوا على ضفاف نهرها مدينة لكسوس التي تعد من اقدم المستوطنات الرومانية في غرب افريقيا، شاهدة على تجارة نشطة بين الجنوب وامبراطوريات الشمال. لم تكن العرائش بمنأى عن اطماع القوى البحرية، فقد خضعت لنفوذ القرطاجيين ثم البرتغال فالاسبان الذين جعلوا منها قلعة متقدمة تحمي طرقهم في عمق الأطلسي، ومع قيام الدولة المغربية الحديثة استعادت المدينة هويتها العربية الاسلامية، لكنها احتفظت في ازقتها العتيقة وشرفتها الاطلسية بوشوشات تاريخ طويل ما زال صداه يتردد مع الموج. الشرفة الاطلسية بالنسبة لأهل العرائش الطيبين لم تكن يوما مجرد اطلالة على البحر، بل كانت دائما نافذة حية مفتوحة على الافق، متنفسا جماعيا للاسر والصيادين والعابرين، مسرحا للتأمل واحيانا للاحتجاج. في تلك الشرفة يلتقي العرائشيون بأحلامهم الصغيرة واحاديثهم اليومية، وتحمل رياح البحر ما تبقى من اسرارهم الى المدى البعيد، فهي فضاء يختزن معاني الانفتاح والحماية في آن واحد ويجسد عمق العلاقة التي لا تنفصل بين العرائش وبحرها الذي ظل دائما مصدر رزق والهام ورمز هوية جماعية تتوارثها الاجيال. خصوصية العرائش لا تختزل في اسوارها القديمة او اطلالها الرومانية وحدها، بل تتجسد في ذاكرة جماعية حية صنعها ابناء المدينة صيادين وتجارا وحماة للشاطئ، ومع ذلك، وبرغم هذا المجد البحري ظلت المدينة على الهامش تراقب خرائط التنمية تتبدل من حولها وهي تنتظر ان تستعيد نصيبها الذي تأخر. ساهم موقعها الجغرافي بين طنجة شمالا والقنيطرة جنوبا في جعلها نقطة عبور اكثر منها قطبا قائما بذاته ظلت بنيتها التحتية محدودة، ولم تنجح ثرواتها الفلاحية في التحول الى قاعدة صناعية تحويلية، كما بقي التثمين السياحي والثقافي لموقع لكسوس ومعالم المدينة العتيقة دون المستوى المأمول مقارنة بمدن ساحلية مجاورة عرفت كيف توظف تراثها. ويظل هذا التراجع مرتبطا ايضا بغياب رؤية واضحة وضعف التخطيط المحلي الذي لم يستثمر امكانات المدينة وموقعها الاستراتيجي. ان التهميش الذي طال العرائش يكشف عن اختلالات التوازن المجالي في المغرب المعاصر، ويبرز حاجة ملحة لرؤية جديدة تقوم على ثلاث ركائز اساسية: اولا: تثمين التراث الاثري والثقافي من خلال اعادة تأهيل موقع لكسوس والمدينة العتيقة والشرفة الاطلسية وربطها بمسارات السياحة الثقافية والبيئية. ثانيا: تحديث البنية التحتية وربط المدينة بممرات النقل الحيوية مثل السكة الحديدية لجعلها جزءا من المحاور الاقتصادية الكبرى. ثالثا: خلق بيئة مؤسساتية مرنة وتشجيع الاستثمار عبر حكامة محلية تشاركية قادرة على تعبئة الموارد وتحفيز المبادرات الخاصة والعامة. عندها فقط يمكن للعرائش ان تعيد وصل حاضرها بذاكرتها البحرية الغنية وتسترجع مكانتها مدينة نابضة على خارطة الاطلسي ومقصدا للتنمية والانصاف.