برعلا زكريا هل من حقنا أن نمرض؟ يبدو سؤالا بسيطا، لكن إجابته تكشف عن قسوة واقع لا يرحم، ففي هذا السباق المحموم مع الزمن، لا تملك ربة البيت ترف الراحة، فتجدها تقوم بمهامها ولو زحفا خوفا من انهيار البيت أو من نظرة العتاب والتهديد. ولا يختلف حالها عن العامل المياوم الذي يواجه خيارا مستحيلا بين الراحة التي تعني الجوع الفوري له ولأسرته، أو العودة لعمل شاق بجسد منهك. وحتى الموظف الذي يظن أنه في مأمن، يصطدم بواقع تعقيد إجراءات الرخصة الطبية، وعقلية المشغل المتغطرسة، وسيف الاقتطاع من الأجرة الذي يحول المرض إلى عقوبة مالية. والمرأة المطلقة التي تلعب جميع الأدوار، كعائل وحيد وأم وحاضنة، لا يحق لها بتاتا المرض أو مجرد التفكير في الراحة. إنها معضلة تكاد تلامس كل بيت، وتكشف أن الحق في الشفاء بكرامة لا يزال في مجتمعنا حلما مؤجلا. هذه التضحية القاسية، سواء كانت نفسية أو مادية، هي الوجه الصارخ لأزمة أعمق يعيشها المواطن المغربي. ففي سياق ضاغط مثقل بالمسؤوليات الجمة وحمل الفواتير والالتزامات، يصبح المرض تحديا وجوديا يهدد مصدر الرزق الهزيل. وتتجلى هذه القسوة بأوضح صورها لدى فئة العمال المياومين والمشتغلين لحسابهم الخاص، الذين يعيشون بنظام اليوم بيومه. بالنسبة لهؤلاء، لا توجد ضمانات قانونية تحميهم، والراحة تعني ببساطة توقف المورد المادي الهزيل فورا، وبداية تراكم الفواتير التي لا ترحم. هذا الضغط الاقتصادي الرهيب يدفعهم دفعا لإهمال التوصيات الطبية، والعودة إلى العمل بجسد منهك قبل الشفاء التام. وتتقاطع معاناتهم مع معاناة المرأة المطلقة التي تجد نفسها وحيدة في مواجهة المرض وتأمين لقمة عيش الأبناء، فمرضها يعني انقطاع الدخل والرعاية معا، مما يضعها في مأزق لا يرحم، ويجبرها على العمل وهي في أشد حالات العجز. وليست هذه الفئة وحدها من لا تعرف للراحة طعما. فالبطلة المجهولة في كل بيت، ربة البيت، تواجه ضغطا من نوع آخر. إن دافعها الأسري ومسؤوليتها الرعائية غير المأجورة تجعل غيابها عن مهامها أمرا غير وارد. تجدها تربط رأسها بخرقة، أو تلجأ لتناول جرعات مضاعفة من الأدوية ووصفات الأعشاب التقليدية، كل ذلك في محاولة يائسة لمواصلة أداء أدوارها الحيوية من طبيخ وتوضيب وغسيل. وما يزيد الطين بلة هو العقلية الذكورية السائدة التي لا تعترف بحق المرأة في المرض والراحة. ففي منظور البعض، المرأة المريضة هي فشل وظيفي، ويقابل مرض الزوجة بتهجم الوجه والجفاء والصراخ في وجهها، بل قد يصل الأمر حد التلويح بتهديد التعدد أو الطلاق إذا لم تقم بدورها كاملا. هذا التهديد الاجتماعي والنفسي الهائل يجعلها تضحي بصحتها لإثبات استمرار قدرتها على الخدمة. وحتى عند الانتقال إلى فئة الأجراء والموظفين الذين يفترض أنهم يتمتعون ببعض الحماية القانونية، فإن الحق في الراحة المرضية يصطدم بعراقيل لا تنتهي. فالحصول على الرخصة الطبية ليس نهاية المطاف، بل قد يكون بداية لمعاناة إدارية ونفسية. ففي كثير من المهن، تكون أيام الشهادة الطبية غير مؤدى عنها، خصوصا الأيام الثلاثة الأولى التي تعتبر خسارة مالية كاملة، أو يتم الاكتفاء بنصف الأجرة، مما يضع الموظف، خاصة ذي الدخل المحدود، أمام خيار صعب بين تحمل الخسارة المادية أو تزوير الشفاء والعودة إلى مكتبه. ويضاف إلى هذا الضغط المادي، عقلية بعض المشغلين والمدراء المتغطرسة، الذين يتفننون في تعذيب الموظفين واستغلال حاجتهم حتى في حالة المرض. فالمطالبة بتسليم الشهادة الطبية فورا من قبل المريض أو من ينوب عنه، والتشكيك في مصداقيتها، أو استخدام إجراءات الفحص المضاد كأداة للترهيب، كلها ممارسات تحول الحق القانوني في الراحة إلى منة، وتجعل الموظف المريض يشعر بالذنب والخوف. في النهاية، يجد الموظف نفسه، كالعامل المياوم وربة البيت والمطلقة، مجبرا على التنازل عن حقه في الشفاء، حاملا مرضه معه إلى بيئة العمل.