لم يكن الموقف البريطاني المعبر عنه بوضوح تام يوم الأحد الماضي، بشأن النزاع المفتعل حول الصحراء، والقاضي بدعم مقترح الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية، موقفا مفاجئا للعديد من المتتبعين والعارفين بمسار هذا الملف الذي تقاذفته الأهواء وأنضجته التحولات الإقليمية والدولية حتى صار اليوم على ما هو عليه في الساحة الأممية من وضعه على السكة الصحيحة للحل السياسي النهائي المعترف للمغرب بسيادته على أقاليمه الجنوبية وحقوقه الشرعية في وحدته الترابية. كما لم يكن موقفا صادما ولا جاء صدفة وطفرة واحدة ومن غير مقدمات ولا علامات ولا إرهاصات، بل كانت كل الوقائع والأحداث ترشح بريطانيا كما رشحت الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسبانيا وفرنسا وعددا كبيرا من الدول الإفريقية والأوروبية ودول من أمريكا اللاتينية لاتخاذ الموقف نفسه المندرج في إطار مساعي المجتمع الدولي لوضع حد نهائي لنزاع طال أكثر من اللازم، وانتهت كل مبرراته الإيديولوجية خاصة والمرتبطة بمخلفات الاستعمار والحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي وامتداداته في الشمال الغربي الإفريقي… بريطانيا كانت أقرب من غيرها من الدول الأوروبية إلى دعم السيادة المغربية والوحدة الترابية للمملكة بالنظر إلى التاريخ العريق للعلاقات بين البلدين والضاربة في القدم، أزيد من ثمانية قرون، وإلى العلاقات المتينة والوثيقة والقديمة بين الأسرتين الملكيتين الحاكمتين في البلدين، وبالنظر أيضا إلى أن التحول في الموقف البريطاني لم يكن تحولا من تأييد الجماعة الانفصالية إلى تأييد الوحدة الترابية للمغرب، وإنما كان تحولا من موقف مبتعد عن النزاع محافظ على التوازنات غير مكترث بالتأثيرات السلبية لاستمرار هذا النزاع بدون حل على العلاقات الدولية وعلى التهدئة والسلام والاستقرار في المنطقة، إلى موقف جدي ومسؤول حاسم وواضح يساعد على الدفع بالجهود المغربية والأممية لفتح مفاوضات الحل السياسي على أساس مبادرة الحكم الذاتي التي رفعت الحرج عن الدول المتورطة في هذا النزاع أو المترددة في حسم مواقفها، وقطعت أعذار المتخلفين عن الدينامية الجديدة والإيجابية للمقترح المغربي، إذ لم يسبق لا لبريطانيا ولا لفرنسا ولا لأمريكا ولا لغيرها من معظم دول العالم أن اعترفت بجمهورية الوهم، أو بحق الميليشيات الانفصالية في تمثيل شعب أو حكم أرض أو تنصيب نفسها دولة لها كل مقومات الدول المعترف بها أمميا، فضلا عن أن بريطانيا، وهي العضو الدائم في مجلس الأمن، لم يسبق لها على الإطلاق أن عاكست المغرب أو صوتت ضده أو رفعت حق "الفيتو" على قرار لصالحه، ومن ثمة، فإن مفهوم التحول في الموقف الذي تروج له العصابة الحاكمة في الجزائر على أنه انتقال من الاعتراف لشعب بوليساريو بدولته وبحق تقرير مصير الصحراء، إلى التنكر لهذا الحق والتخلي عن دعم شعب في تقرير مصيره، وتوجيه البوصلة نحو المغرب، هو تزوير للحقائق الدامغة والواقع القائم، فلا البوليساريو معترف بها كدولة ولا كحركة تحرير، ولا المغرب كان في العلاقات مع بريطانيا مستبعدا كصاحب حق، ولا بريطانيا تحرجت في أي وقت من الاستثمار في مشاريع تنمية الأقاليم الصحراوية المغربية، فإلى غاية الإعلان البريطاني الصريح والواضح والمؤكد عن دعم مخطط الحكم الذاتي ك"أساس أكثر مصداقية وواقعية واستدامة لحل النزاع" كانت المملكة المتحدة تستثمر في الصحراء المغربية وتستقبل في مبادلاتها التجارية مع المغرب منتوجات قادمة من الصحراء المغربية، بل إن محكمتها العليا رفضت ابتدائيا واستئنافيا مطالب جماعات موالية لبوليساريو والجزائر بالطعن في اتفاقيات الشراكة المغربية البريطانية التي تشمل إقليم الصحراء بحجة كونه إقليما متنازعا عليه، ولم تستشر ساكنته في استغلال ثرواته، وقد أكد اجتهاد القضاء البريطاني في حكمه الصادر خلال شهر ماي من عام 2023 على شرعية الإجراءات التي قام بها المغرب لتنمية ثروات الإقليم، واستفادة الساكنة الصحراوية منها، وهي الساكنة التي عبرت في استشارتها عن تمسكها بالمسار التنموي والديموقراطي الذي تنخرط فيه بلدها المغرب، الأمر الذي دعا المحكمة نفسها إلى رفض تمثيلية البوليساريو المزعومة للصحراويين في دعوى حماية ثرواتهم وتجميد الاتفاقيات بشأنها، مؤكدة أن لا حق لهذه المجموعة في التدخل وإقحام نفسها في ما لا يخصها من أمر العلاقات التجارية بين بلدين يتمتعان بكامل السيادة على ترابيهما الوطنيين. وكان هذا الحكم المعلل القاضي ببطلان دعوى الطعن أثره في تشجيع حكومتي البلدين على المضي في علاقاتهما التجارية والاستثمارية في مجالات الطاقة والفلاحة وتوسيعها، على أساس الاحترام التام لسيادتهما وعلاقاتهما التاريخية العريقة والمتجذرة. ثم توسع الأمر وسرى إلى المؤسسة التشريعية البرلمانية البريطانية التي دعا فيها عدد من النواب من مختلف التيارات والحساسيات السياسية حكومة بلدهم إلى الانفتاح على المطلب المغربي بالوضوح بشأن نزاع الصحراء، والتحسيس بأهمية هذا الإقليم بالنسبة للمغرب في قياس علاقاته مع شركائه، ودعوا كذلك إلى مزيد من انخراط دولتهم وحكومتهم في دعم مسار الحل الأممي الحصري المتجه إلى فض النزاع في إطار مبادرة الحكم الذاتي كأساس لحل نهائي وعادل وشامل ودائم… كل هذه المعطيات وغيرها التي رسمت مسار تطوير الموقف الإيجابي البريطاني من الحل السياسي النهائي المتمثل في مبادرة الحكم الذاتي، كانت معلومة للإعلام وتناقلتها الأخبار والتحليلات والتعليقات، وتوقعت منذ سنوات أن تنتقل بها الحكومة البريطانية إلى قرار صريح وواضح، وكان الكل يعتبر الاعتراف البريطاني الرسمي الصريح بمغربية الصحراء بعد الاعتراف العملي والميداني، قضية شكلية فقط ومسألة وقت مناسب يأتيان لتتويج كل هذه الإرهاصات في اتفاقيات قوية تقطع دابر كل تردد أو تماطل أو تباطؤ، وهو الأمر الذي حصل يوم الأحد الماضي، ولهذا اعتبرنا الموقف البريطاني الجديد تطويرا لمواقف إيجابية سابقة من مغربية الصحراء، وتحديثا لها، واستكمالا لحلقات متصلة ومتتابعة من الدعم القوي للموقف المغربي الشرعي أمام الهجمات المتصاعدة للسعار والغبار في المنطقة، والذي تقوده العصابة الحاكمة في الجزائر، حيث لم تبق خط رجعة ولا صديقا ولا حليفا ولا مترددا إلا واختار الانحياز للنجاحات المغربية في ضمان السلام والأمن والاستقرار وتحقيق التنمية والدفاع عن المصالح المشتركة ومستقبل الشعوب الواعد بالعطاء والنماء والازدهار والوحدة والتعاون والتخلص من عقد الكراهيات ونزعات الحروب والتدمير. إن تعبير العصابة الحاكمة في الجزائر قبل ميليشيات بوليساريو التي تدعي تمثيلها لسيادة مزعومة على الصحراء وعلى الصحراويين، عن رفضها وتنديدها ببريطانيا كما نددت قبل ذلك بكل الدول التي اختارت الشرعية والسلام والحل العادل والدائم للنزاع الذي افتعلته العصابة وغذته وتمسك بكل خيوط لعبته بين يديها، ورفضت الجلوس إلى الموائد المستديرة المقررة أمميا للتداول بشأن الحل السياسي والتفاوض على مخرجاته، إن دل على شيء فإنما يدل للدول على أمور ثلاثة تؤكد لها صواب اختيارها تسريع وتيرة دعم مقترح الحكم الذاتي وسحب البساط من العصابة، وهذه الأمور هي: أن من يزعم أنه يتكلم باسم الصحراويين سواء منهم المحتجزون أو الأحرار في وطنهم المغربي وبين أهاليهم، هي دولة العصابة الحاكمة في الجزائر وحدها، والتي لا سيادة لها بحكم الواقع والتاريخ لا على الصحراء ولا على الصحراويين، وأن بوليساريو ليس إلا بوقا مرددا لصوت سيده الحاكم بأمره المقرر في مصيره. والأمر الثاني أن ما تزعمه العصابة من أنها ليست طرفا في النزاع ولا شأن لها به وإنما هي جار وجهة ملاحظة، تقوم بتكذيبه من بلاغ إلى آخر ضد الدول التي ترتبط بشراكات وصداقات مع المغرب على أساس احترام وحدته الترابية، حيث تخرج دولة العصابة وحدها ومن دون العالمين بل ومن دون بوليساريو لتنصيب نفسها خصما وعدوا يقطع العلائق ويشتم الدول ويحرض ضدها، مؤكدة للعالم بذلك على أنها الطرف الرئيسي بل الوحيد في مواجهة المغرب وشركائه وإعلان الحرب على الجميع، فكيف ستقنع العصابة حلفاءها وأصدقاءها الذين يتساقطون تباعا أنها ليست طرفا في نزاع الصحراء وهي الطرف المباشر الذي يتصدر واجهة المعركة ويهدد ويتوعد ويأسى ويأسف ويسحب السفراء ويغلق الأجواء؟ والأمر الثالث أن أي بلاغ أو بيان تنديدي من العصابة الحاكمة في الجزائر ضد أي تقارب مغربي مع هذه الدولة أو تلك، هو تدخل سافر في الشؤون السيادية للدول، ولا يحق، بمقتضى القانون الدولي والعلاقات الدولية، لأي جهة مهما كان شأنها وتوجهها أن تملي تعاليمها على أي دولة متمتعة بالاستقلال والسيادة بشأن علاقاتها وشراكاتها، وهو الأمر الذي نبهت إسبانيا وفرنسا دولة العصابة إليه في أكثر من تصريح أو موقف أو تعليق على بلاغاتها النارية ضد الدول التي اختارت المغرب لشراكاتها الاستراتيجية المتنامية على أساس وضوح الموقف من نزاع الصحراء. وها هي بريطانيا بعد البلاغ العصابي للعصابة المشحون بالمغالطات والأكاذيب والتطاولات ضدها تُذَكّر عراب بوليساريو بهذه الحقيقة المعلومة للجميع إلا لدولة العصابة المجرمة التي تعيش خارج منطق التاريخ ومقتضيات الأوفاق الدولية المرعية، وهو التذكير الذي جاء على صيغة استفهام إنكاري: من أعطى الحق للجزائر لفرض إملاءات والتدخل في سيادتي بلدين تربطهما علاقات وشراكات ومصالح لا شأن للجزائر بها، بل كانت علاقات البلدين في أوجها، ولم تكن الجزائر حينها ووقتها موجودة في خارطة العالم القديم أو الجديد إلى ما بعد الحربين العالميتين؟ لقد تجاوزت عصابة المرادية كل ما كنا نصفها به من سوء تقدير المسؤوليات وعواقب التنطع والتعنت وأخطاء ديبلوماسية وأخلاقية في قراءة تحولات الواقع واستخلاص الدروس والعبر من الباب المسدود عليها إلى الأبد لتقسيم المغرب وتدميره، ووقعت في دائرة الغباء المطبق والمستحكم، فالغبي من يكرر الأفعال نفسها التي تخذله وتزري به، ويتوقع منها كل مرة نتائج مغايرة، ولا يكون أبدا ما يتمناه ويأمله، ولذلك يعبر عن أساه وأسفه كما ورد في بلاغ أغبياء العصابة ضد بريطانيا، ولن يمنع هذا الأسى والأسف من تكرار الحماقة مع دولة أخرى قادمة، ستلقن العصابة الدرس نفسه في آداب المعاملة وقواعد الاحترام للشؤون السيادية للدول، ثم لا عزاء للأغبياء.