توقيف 8 طلبة طب بوجدة بعد يوم واحد من تهديدات ميراوي    مجلس المستشارين يصادق بالإجماع على مشروع قانون يتعلق بنظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    المغرب يجدد رفضه التهجير القسري والعقاب الجماعي للفلسطينيين    ميراوي: تعميم وحدات القدرات اللغوية والمهارات الذاتية على مؤسسات التعليم العالي خلال الموسم الجامعي المقبل    عميد المنتخب المغربي يتوج هدافا للدوري الفرنسي    توقيع عقد للتنزيل الجهوي لخارطة طريق السياحة بجة الشمال    وزارة السياحة توقع عقدين لتسريع تنفيذ خارطة طريق السياحة في جهتي طنجة ودرعة    افتتاح خط جوي مباشر جديد بين مطاري تطوان وأمستردام    الأمثال العامية بتطوان... (598)    رئيس "الليغا" يؤكد انضمام مبابي لريال مدريد بعقد مدته 5 سنوات    كيف يمكن الاستعداد لامتحانات البكالوريا بهدوء وفعالية؟    تاريخها يعود ل400 مليون سنة.. الشيلي تعيد للمغرب 117 قطعة أحفورية مهربة    وزير التجهيز: 3000 كلم طرق سيّارة ستواكب تنظيم المغرب لكأس العالم    الجامعة تعين مساعدا جديدا لطارق السكتيوي    التوقيع على مذكرة إنشاء المركز الدولي للبحث والتكوين في الذكاء الاقتصادي بالداخلة    الاتحاد الأوروبي يمنح الضوء الأخضر النهائي لميثاق الهجرة واللجوء الجديد    تنسيقيات التعليم تؤكد رفضها القاطع ل"عقوبات" الأساتذة وتحذر من شبح احتقان جديد    340 نقطة سوداء على مستوى الطرق الوطنية تتسبب في حوادث السير    قيمة منتجات الصيد الساحلي والتقليدي المسوقة ارتفعت لأزيد من 3,5 مليار درهم    "الطابع" لرشيد الوالي يكشف عن مأساة مهاجر مغربي في رحلة بحث عن الهوية    القضاء يتابع مُقتحم مباراة نهضة بركان والزمالك    هذا الجدل في المغرب… قوة التعيين وقوة الانتخاب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    دار الشعر بمراكش تواصل الانفتاح على التعدد اللساني والتنوع الثقافي المغربي    جماعة طنجة ترصد نصف مليار لتثبيت مئات الكاميرات لمراقبة شوارع المدينة    إدارة السجن المحلي بتطوان تنفي تعرض سجين لأي اعتداء من طرف الموظفين أو السجناء    الخط الأخضر للتبليغ عن الفساد يسقط 299 شخصا    بسبب إياب نهائي الكونفدرالية.. تأجيل مواجهة نهضة بركان والرجاء إلى يوم 23 ماي القادم    "أكديطال" تفتتح مستشفى ابن النفيس    ارتفاع حصيلة قتلى العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 35173 منذ بدء الحرب        "أطلنطا سند" تطلق التأمين المتعدد المخاطر منتوج "برو + المكتب"    قُصاصة حول إصدار    الباحث البحريني نوح خليفة: جهود المغرب تأتي موازية لتطلعات العالم الإنساني وعالم الطبيعة    بعد القضاء.. نواب يحاصرون وزير الصحة بعد ضجة لقاح "أسترازينيكا"    هاشم تقدم مؤلف "مدن وقرى المغرب"    دعوات متزايدة عبر الإنترنت لمقاطعة مشاهير يلتزمون الصمت حيال الحرب على غزة    بيع لوحة رسمها الفنان فرنسيس بايكن مقابل 27.7 مليون دولار    المغرب يفكك خلية إرهابية موالية ل"داعش" ينشط أعضاؤها بتزنيت وسيدي سليمان    10 لاعبين يحرجون ريال مدريد قبل انطلاق الميركاتو    الصين تدعو لعلاقات سليمة ومستقرة مع كوريا    أسعار النفط تواصل الارتفاع وسط توقعات شح الإمدادات    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    هل تكون إسبانيا القاطرة الجديدة للاقتصاد الأوروبي ؟    دراسة: البكتيريا الموجودة في الهواء البحري تقوي المناعة وتعزز القدرة على مقاومة الأمراض    جامعة شعيب الدكالي تنظم الدورة 13 للقاءات المغربية حول كيمياء الحالة الصلبة    تبون يلتقي قادة الأحزاب السياسية.. هل هي خطوة لضمان دعمها في الاستحقاقات الرئاسية؟    بطولة فرنسا: مبابي يتوج بجائزة أفضل لاعب للمرة الخامسة على التوالي    اعتقالات و"اقتحام" وإضراب عام تعيشه تونس قبيل الاستحقاق الانتخابي    إسبانيا ترد على التهديد الجزائري بتحذير آخر    قناة أرضية تعلن نقلها مباراة الإياب بين بركان والزمالك    لماذا يجب تجنب شرب الماء من زجاجة بلاستيكية خصوصا في الصيف؟    الأمثال العامية بتطوان... (597)    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    الأمثال العامية بتطوان... (596)    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فاجعة باريس وإسلام الضعفاء والإيمان بالخرافات
نشر في الشرق المغربية يوم 08 - 02 - 2015

مرعب وبشع جداً، هذا الذي حدث في مدينة الأنوار، هذه الأيام ! رجلان يهاجمان مقر الصحيفة الساخرة (شارلي إيبدو)، خلال اجتماع هيئة التحرير ويقتلان، بدم بارد، 12 شخصا، من بينهم نخبة من أبرز رسامي الكاريكاتور الفرنسيين. صحفيون بأقلام وقراطيس وحواسيب يسقطون صرعى على يد شابين مسلمين متعصبين مدججين بأسلحة نارية متطورة، بدعوى أن ما نُشر بالجريدة يمس بمشاعر المسلمين ويحقر ديانتهم ويسيء إلى رسولهم الكريم.
في المظاهرة التاريخية التي نُظمت للتنديد بالعمليات الإرهابية التي عرفتها فرنسا، رفع متظاهرون شعاراً بليغاً يدعو إلى إسالة الحبر عوض إسالة الدم verser de l'encre, pas du sang . هل من المنطقي أن يكون الرد على مقال أو رسم هو إعدام الصحفي وتصفيته وحرمان بلد بكامله من مبدعين ورموز إعلامية؟ في الأسبوع، نفسه، أقدم شاب مسلم آخر على احتجاز رهائن عزل، بسبب ديانتهم، وانتهت العملية بمقتل عدد منهم، واعتبر الشاب أنه، بهذه الطريقة، يثأر لأرواح الفلسطينيين التي يحصدها البطش الإسرائيلي.
والنتيجة أن أربعة من ضحايا مجزرة متجر المواد الغذائية اليهودية تقرر دفنهم بإسرائيل و أن نتنياهو خاطب يهود فرنسا بقوله : "إسرائيل هي وطنكم" ! وبذلك ستساعد العملية الثانية، ربما، على إعطاء دفعة للخطاب الذي يحفز يهود فرنسا على الهجرة إلى إسرائيل. هذا، بالإضافة إلى أن العملية المذكورة تقدم الصراع في فلسطين على أنه صراع ديني بين المسلمين واليهود، بينما هو، في الأساس، صراع بين الحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني، بمختلف طوائفه وفئاته، والإيديولوجية الصهيونية ذات البعد الاستعماري الاستيطاني والتمييزي القائم على اغتصاب الأرض واقتلاع أصحاب الحق فيها.
ما قام به الأخوان شريف كواشي وسعيد كواشي، اللذان قبلا العمل تحت إمرة زعيم تنظيم القاعدة في اليمن، قبل وفاته، أنور العولقي، واميدي كوليبالي، الذي بايع أبا بكر البغدادي "خليفة داعش"، لا يكاد يُصدق، ولا نكاد نتصور أن القرن الواحد والعشرين يمكن أن يعرف وجود مسلمين يجيزون لأنفسهم حق استعمال القتل لإسكات صوت مخالف لهم في الرأي والاعتقاد ويمارسون التعبير، عن اعتزازهم بديانتهم، بأسلوب مغرق في الدموية والتطرف.
كيف وصلنا إلى هذا المنحدر وأصبح البعض منا يعتبر أنه كمسلم يتعرض للظلم والأذى، وأن ذلك يبرر اللجوء إلى جز الأعناق وسبي النساء واحتجاز الرهائن، الذين ليست لهم علاقة بأي نزاع مسلح، وقتل مائتي مدني في محطة ميترو واغتيال الصحفيين..إلخ؟ كيف يقف، في هولندا، شاب، من ديانتنا، قَتَلَ مخرجا سينمائيا أمام القاضي مصرحاً بأن الضحية لو عاد إلى الحياة لقتلته ثانية؟ كيف يتحول، في زمن الحرية وحقوق الإنسان، نشر فيلم أو رسم أو مقال إلى قضية سياسية تطغى على كل القضايا وتشعل نار الاحتجاجات الضارية والاعتداءات على رموز ومؤسسات دول برمتها، ويصبح مناسبة لإطلاق سيل من الوعد والوعيد والتهديد بسلب الحق في الحياة ممن قاموا بالنشر، ولا نقبل أن نكون من زمرة الذين وصفهم القرآن الكريم ب"الكاظمين الغيظ"، ومن الذين يفضلون الجواب السلمي والحضاري المشروع على المحاولات التي يعتبرون أنها تستهدف إلحاق تشويه أو تبخيس أو مس معنوي بصورة ديانتهم؟
لقد اعتقد الكثيرون أن هجمات الحادي عشر من شتنبر ستكون آخر الأعمال الإرهابية الكبرى التي سينفذها البعض على تراب بلدان الغرب، باسم الإسلام؛ لكن حلقات مسلسل الدم والرعب لم تنته، فبعد 'غزوات" القاعدة، ظهرت"داعش"، وبعد 11 شتنبر الأمريكية حلت 11 شتنبر الفرنسية.
هناك، منا، من سيختار الصمت أمام الفاجعة الباريسية، بينما الموقف لا يحتمل الصمت نهائياً، فكما فرض علينا الالتزام بحقوق الإنسان أن نعلن تضامننا مع أبناء غزة والعراق، وفعل الشيء نفسه الملايين من مواطني أوروبا وأمريكا، حيث فاق حجم المظاهرات المناهضة للحرب الأمريكية الظالمة على العراق،"هناك"، حجمها "هنا"، فإن الالتزام، نفسه، يفرض علينا التضامن مع ضحايا "شارلي إيبدو" ومتجر المواد الغذائية اليهودية.
وهناك من سيعبر عن أسفه على سقوط ضحايا، ولكنه سيصر، أيضاً، وكما هي العادة، على إرفاق ذلك بالإدلاء بواحدة أو أكثر من "التحفظات"، الواردة بعده، وهكذا :
- سيُقال، مثلاً، إن "أحداث باريس" تَمَّ تدبيرها من طرف معاد للإسلام بغاية تشويه سمعته. لقد قيل، سابقاً، إن أحداث 11 شتنبر ليست من تنظيم القاعدة وإن فيديوهات الذبح "الداعشي" مفبركة ومزورة، والنتيجة أن "الكل" ضد الإسلام ويفعل كل شيء للنيل منه. إن التحصن البليد خلف نظرية المؤامرة الجاهزة يمنعنا من تشغيل عقولنا ويجعلنا عاجزين عن فهم ما يجري؛
- سيُقال، مثلاً، إن صحفيي "شارلي إيبدو" مسؤولون عما وقع لأنهم تخطوا الحد المقبول في ممارسة حرية التعبير. والحال أن أكبر حجة نبني عليها رفض الاحتكام إلى المرجعية الكونية لحقوق الإنسان هي "احترام الخصوصية"، فنتشبت، تبعا لذلك، بالحق في اعتماد نموذجنا الخاص في إعمال حرية التعبير، بما يطابق مقدساتنا وثوابتنا، ونعتبر أن "الغرب" ليس من حقه أن يفرض علينا نموذجه الخاص في حرية التعبير، ولكننا نقع في التناقض عندما نحاول أن نفرض على مواطنيه، في ديارهم، الالتزام بنموذجنا الخاص؛
- سيُقال، مثلاً، إن "الغرب" مسؤول عما وقع، لأنه دَبَّرَ الجرائم المرتكبة، هنا وهناك، ضد المسلمين، أو تسامح معها، ومن ثمة أفضى الشعور بالظلم والإحباط، لدى بعض شبابنا، إلى تأصيل نزعة الرد بالعنف والإرهاب لديهم. هذا صحيح، طبعاً، لكن طبيعة الرد، المتوسل إليه، تزيد في تعميق معاناتنا ومآسينا وتربك موقف حلفائنا الذين دأبوا على مساندة معاركنا العادلة، وتظهرنا في موقع العاجزين عن ركوب طرق أخرى في الرد.
إن الخلل الذي تتعين معالجته، هنا، بالنسبة إلى عموم المسلمين، هو فشلهم، حتى الآن، في تجاوز ردود الفعل العاطفية الهوجاء. قادة الشبكات الإرهابية الاحترافية لهم، دائما، حساباتهم الخاصة، ولكن نجاحهم، في الإيقاع بكل هذا العدد من الشباب في فخ هذا النوع من ردود الفعل المجنونة والخرقاء، يمثل عمق المشكل الذي يتعين حله؛
- سيُقال، مثلاً، إن منفذي عمليات باريس هم أصحاب سوابق عدلية، حصلت متابعتهم، ماضياً، في قضايا المخدرات والسطو والعنف. وبالتالي فالأمر يتعلق، اليوم، باستمرار نوع من الإجرام العادي الذي أُسدل عليه، لاحقاُ، غطاء إيديولوجي. هذا صحيح، ولكن المطلوب منا هو البحث عن الأسباب التي تجعل عملية التغطية، هذه، تنجح في تحقيق أهدافها وبلوغ مراميها؛
- سيُقال، مثلاً، إن حل مشكل الإرهاب، الممارس من طرف شباب مسلم، يمر عبر حل قضية فلسطين. وهذا، إلى حد ما، صحيح، أيضاً، غير أن لهذا النوع من الإرهاب، كذلك، عواقب وخيمة على القضية نفسها (تشجيع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل..)؛
- سيُقال، مثلاً، إن أعمال الإرهاب هي من صنع أقلية ولا علاقة لها بالإسلام والمسلمين، ولهذا فلا يتعين أن يؤدوا ثمنها أو أن يتعرضوا إلى أعمال انتقامية أو ملاحقات أو تضييقات أو نظرة تبخيسية. هذا صحيح، لكننا كمسلمين درجنا، من جانبنا، متى حصلت أعمال مسيئة إلى الإسلام في بلدان الغرب، على تحميل المسؤولية لدول ومجتمعات بكاملها، فنطالبها، ككل، بالتدخل و"تحمل مسؤولياتها"؛ ثم إن صدور أغلب الأعمال الإرهابية، في العالم، عن مسلمين، سيؤدي، موضوعياً، إلى نشوء خوف من الإسلام في المجتمعات غير المسلمة، فلا يجب أن يفاجئنا ذلك.
ولهذا، فإن علينا، اليوم، ربما، ألا نكتفي بترديد نفس الخطاب التقليدي القديم، وأن نحاول الكشف عن العلاقة، بين ممارسة الإرهاب باسم الإسلام، وبين الحاجة إلى فتح جدي لورش الإصلاح الديني في بلاد الإسلام، وأن نحدد المسؤوليات عن تعليق هذا الورش" الاستراتيجي".
جميل أن نصرح، بمناسبة أحداث باريس الإرهابية الأخيرة، بأن صحافيي (شارلي إيبدو) كانوا يعلمون بأن بعض المواد المنشورة بصحيفتهم الساخرة يمكن أن تثير ردود فعل عنيفة من أوساط إسلامية متطرفة، وأن ذلك، ربما، كان يفرض عليهم، من زاوية الحكمة والتبصر وليس من زاوية التزامهم أو عدم التزامهم بالحدود المتعارف عليها لحرية التعبير، أن يفعلوا مثل أغلب زملائهم في العالم ويتجنبوا نشر مثل تلك المواد، رغم أن قوانين بلدانهم لا تمنعهم من هذا النشر.
وجميل أن نطلب من الغرب، كما استحضر ضحايا مجزرة شارلي إيبدو والمتجر اليهودي، أن يستحضر، بنفس الدرجة من الاهتمام والعناية والاحتفاء، الضحايا المدنيين المسلمين الذين سقطوا بالآلاف، في غزة والعراق ولبنان، بنيران الآلة العسكرية في كل من إسرائيل وأمريكا وغيرهما، نتيجة حروب ظالمة وغير مشروعة وعمياء أتت على الأخضر واليابس.
وجميل أن ننتبه إلى ضرورة حل مشاكل "شباب الضواحي"، المسلم وغير المسلم، في باريس وغيرها من العواصم الغربية، التي تجعله عرضة للاستقطاب السهل من طرف الشبكات المتطرفة.
وجميل أن نذكر العالم بأن الجرح الفلسطيني، في وجدان جماهير العرب والمسلمين، مازال غائراً ونازفاً وقادراً على إنتاج ردود فعل عنيفة.
وجميل أن نؤكد أن الإرهاب هو من عمل أقلية من المسلمين، أما أغلبيتهم فلا علاقة لها به، بل إن ضحاياه، من الديانة المحمدية، يسقطون، يومياً، في اليمن وسوريا والعراق...إلخ.
وجميل أن نندد بصنيع اليمين الغربي المتطرف، الذي يغذي الإسلاموفوبيا ويتسبب في وقوع ضحايا مسالمين وفي المس بالكرامة الإنسانية، وبالنزعة الرأسمالية لمؤسسات حَوَّلَتِ السخرية من المسلمين إلى سلعة.
ولكن، هل هذا يكفي، اليوم؟ ألم يحن أوان مراجعة تصورنا عن أنفسنا كمسلمين وطريقة تمثلنا لديننا الحنيف وتقديرنا لنوع المتطلبات والواجبات التي يفرضها علينا الدفاع عن الإسلام؟
ألسنا مسؤولين عن تلقين أبنائنا، منذ الصغر، نوعاً من الإسلام الذي تمثل بعض ردود الفعل، المصنفة في خانة التعصب والتطرف والعنف، نتيجته المنطقية وثمرته الطبيعية؟ أليس من واجبنا أن نتساءل عن السر في كون أتباع الديانات الأخرى لا يشعرون بأية حاجة إلى استعمال ردود الفعل، تلك، في الدفاع عن دياناتهم وحمايتها من الإساءات وأوجه المساس بها؟ ألا يظهر، أحياناً، أن الإسلام، الذي نزعم المنافحة عنه، غريب، نوعا ما، عن الإسلام الذي بنى أبناؤه حضارة شامخة، في عصور الانحطاط الأوروبي، وأسهموا، تبعاً لذلك، في إرساء قاعدة الحضارة الحديثة من خلال ترجمة الأعمال الإغريقية الكبرى ووضع مؤلفات ثمينة، في العلوم والفنون والآداب، غيرت وجه المعرفة الإنسانية والإبداع البشري؟ ألا نرى، أحياناً، أن التركيبة الذهنية لمسلم القرن الواحد والعشرين تبدو غارقة في التخلف مقارنة بالتركيبة الذهنية لمسلمين من أمثال الفارابي والكندي وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم وجابر بن حيان والرازي وابن سينا وابن حزم والزهراوي وابن باجة وزرياب...إلخ؟
إننا نقيم، ربما، نوعاً من العلاقة المَرَضِيَة مع الهوية. الإسلام يمثل، طبعاً، العنصر الأساسي - وليس الوحيد - في تشكيل هويتنا، ولكن المثير هو أننا ننطلق، في الكثير من الأحيان، من وجود استهداف دائم لهذه الهوية من طرف الآخرين، كلهم، وفي الأمكنة والأزمنة، كلها، حتى ولو كنا عاجزين عن تعليل ذلك في حالة معينة.
لقد تحول "الخوف على الهوية" إلى علة مزمنة وأدى إلى سقوط في التعصب والانغلاق والرفض المنهجي والمسبق لفكرة وجود مرجعية كونية، مما يعني التسليم، عملياً، بأن المجتمعات المختلفة لا تستطيع التوصل، نهائياً، إلى قواعد مرجعية مشتركة. علاقتنا بهويتنا الإسلامية محكومة بآثار عقدتين : عقدة نقص بسبب الشعور بالاستهداف الدائم والتصرف الدائم كضحية؛ وعقدة استعلاء بسبب الشعور بأن الاستهداف ناجم، في الأصل، عن خوف الآخر مما ستتيحه "العودة الكاملة" إلى الإسلام، بالنسبة إلى المسلمين، من أسباب القوة والرفعة والمناعة، وذلك بسبب كون الإسلام - في نظرنا - هو ترياق لتخليص الجسم المجتمعي من كل السموم والخبائث والأسقام ودواء لكل الأدواء وحل لكل المعضلات والمشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والروحية. هذا يعني، ربما، أن لدينا نظرة مثالية وغير واقعية عن دور الدين في المجتمع؛ فرغم عظمة الدين الإسلامي وغناه، والتفصيل الذي تناولت به الشريعة الإسلامية موضوع المعاملات المدنية بين الأفراد، مثلاً، والقابل للتطوير، طبعاً، في اتجاه الاستجابة للتغيرات الطارئة، فإنه يظل، في النهاية، مرجعاً لتحديد التوجهات الأخلاقية الكبرى (الكليات) المطابقة للفضيلة ولعالمية الدعوة ولمدى تكريمها للإنسان، بجانب القواعد والأحكام المتعلقة بالعبادات.
والإسلام، كما يُتداول بيننا، يستعظم الفروقات ويوسع شقة الاختلاف القائم بين المسلمين وغير المسلمين ويركز على سلبية صورة غير المسلم، ويظهر ذلك، مثلاً، في الحمولة المفزعة التي نشحن بها لفظ (الكفار)، إذ نكاد نتصور أن لا خَيْرَ يُرجى منهم، في الدنيا، مادام مآلهم سيئاً، في الآخرة. ولا يكون تدريس الدين الإسلامي مناسبة للاحتفاء، كما يجب، بقيمة المشترك بين كل البشر، أولاً، والمشترك بين الديانات السماوية، ثانياً، والمشترك بين المذاهب الإسلامية، ثالثا.
ولهذا نكتفي بالدعاء للمسلمين، ولا نحث، كثيراً، على الحوار بين بني البشر ونشر السلام والمحبة في ربوع الأرض كافة بينما الإسلام، في الأصل، يقوم على الإيمان بكل الكتب السماوية وبالرسل جميعاً، وجاء تتويجاً لكل ما راكمته الديانات التي سبقته من مبادئ وقيم كبرى. وينطوي الدعاء، في أكثر الأحيان، على استحضار كثيف للنزاع مع الآخر ويحمل دلالات "حربية" من خلال الإشارة المستمرة إلى مكائد (أعداء الإسلام) ومؤامراتهم، وحين نتحدث، في المساجد، عن قضية فلسطين، مثلاً، قلما نشير إلى دور أنصار السلام غير المسلمين في نصرة الحق الفلسطيني. وعندما نلح على ضرورة التضامن والاتحاد بين مكونات الأمة الإسلامية، وهذا مشروع وإيجابي، فإننا نعتبر ذلك مندرجاً ضمن حاجيات التصدي للمؤامرات المحوكة ضدنا أكثر مما نعتبره مندرجاً ضمن سياق الجواب الإيجابي على تحديات العولمة وتأمين الوسائل الكفيلة بالمساهمة الفاعلة في التقدم البشري وازدهار وتعزيز الحضارة الإنسانية القائمة.
نحن لا نعتبر أننا جزء من هذه الحضارة ولنا مكان فيها، بل نجهد أنفسنا في تعداد عيوبها ونقائصها، رغم الشره الذي نبديه في استهلاك منتجاتها المادية، ونغذي فينا حلم بناء شيء بديل عنها بعد انهيارها "الحتمي"، في نظرنا.
الإسلام، الذي يسكن أذهاننا، هو إسلام الغزوات، فكما لو أن الحروب الدينية لم تضع أوزارها، بعد، ولم تطو صفحتها، بعد. نحن نبحث جاهدين عن أية فرصة لإضفاء الصبغة الدينية على أي نزاع دولي حتى ولو لم يكن يعكسها. وننطلق من أن البشر، في جميع الأصقاع، لا تحركهم إلا النوازع الدينية الخالصة وحدها وليس المصالح والرهانات الاقتصادية والإستراتيجية، أساسا. وإذا كان أحد أطراف النزاع مسلماً، فإن ذلك يمثل الدليل القاطع على أن هناك مؤامرة ضده باعتباره مسلماً، ومن ثمة فهي مؤامرة ضد الإسلام ككل، ونرفض، مسبقاً وبشكل قاطع، افتراض صدور الخطإ عن هذا المسلم أياً كانت ملابسات النزاع.
الإسلام، كما نتناقله بيننا، نرى فيه دعوة دائمة إلى التزام حالة استنفار قصوى لمواجهة الاعتداءات والأخطار التي تهدده؛ وإذا كان الدفاع عن الذات أمراً مشروعاً، تماماً، فإن المبالغة في ركوب سبيل "التعبئة والاستنفار" قد تسقطنا في ثلاثة مطبات :
- البحث عن أوهى الأسباب لتبرير اللجوء إلى رد الفعل الذي نعتبره دفاعاً؛
- تجاوز الحدود المتطلبة للدفاع الشرعي، كأن يستمر رد فعلنا بعد توقف العدوان (مثل استمرار المظاهرات بعد اعتذار الجريدة الدانماركية)، فننتقل من ممارسة حق الدفاع إلى ممارسة "التأديب" والعقاب والانتقام؛
- اعتبار أن الوسائل الوحيدة للدفاع هي الوسائل "السلبية"، فنحن قلما نعتبر أن الإبداع والاجتهاد والمثابرة والاختراع والبناء والإنتاج العلمي هي، أيضاً، وسائل لخدمة الإسلام والرفع من شأن المسلمين.
إننا، كما خلص إلى ذلك بعض الباحثين، لم نتحرر، بالقدر الكافي ربما، من مخلفات حقبة الاستعمار وحقبة الحروب الصليبية، بينما دار الزمان دورته، وحصلت الكثير من التغيرات التي تجعلنا أمام واقع عولمي جديد، فيه بعض من آثار تلك الحقب، طبعاً، ولكنه تجاوز أكثرها. نحن ننظر إلى العولمة، اليوم، على أنها مجرد استعمار غيَّر ثوبه، بينما القضية أعقد من ذلك بكثير.
إسلامنا "اليومي" فيه الكثير من مظاهر تسويغ الاستبداد والإيمان بالخرافات والاعتقاد بإمكان حصول المعجزات (كالزعم بتلاوة جنين في بطن أمه لآيات من القرآن الكريم أو الإفتاء باعتماد الرقية في معالجة الصرع..)؛ وفيه تضايق وانزعاج من الحرية، إذ نرى فيها اعتداء على الإسلام كما لو أن الإسلام هش إلى هذه الدرجة.
نحن نبدأ بتأسيس قيود الحرية قبل تأسيس الحرية، ونقبل بممارسة العبادات كطقوس فقط بدون تمثل لمعانيها العميقة، ونعتبر أن مشكلة الإسلام هي دائماً مع الآخرين ومع من وَالآهُم منا، بينما إذا كانت للإسلام مشكلة، فهي، أولا وقبل كل شيء، مع أبنائه الذين انتهى بهم المطاف إلى الجنوح عن البعد الأصلي للمشروع المحمدي، القائم، أساساً، على تحرير الإنسان، وسقوطهم في أسر ما يمكن أن نسميه "إسلام الضعفاء".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.