لقد حَطَّ الرِّحال بمدينة البوغاز مجموعة من الكتاب والأدباء ومشاهير الفن العالمي، إما في جولة سياحية ، أو في مهمة بحثية علمية كانت أو تجسسية ، فهناك من طال بهم المقام بها ، وهناك من فضل الإقامة بصفة نهائية إلى أن توفي ، كما هو الشأن بالنسبة “ لبُول بُولز “، أما “ والتر هاَرِيز“ مراسل جريدة “ التايمز “ اللندنية ، والكاتب الفرنسي “ جَان جِينيه “ فقد وافتهما المنية خارج طنجة، فبسبب ارتباطهما الشديد بها، أوصى الأول بأن يدفن بالمقبرة الإنجليزية بالمدينة ، أما الثاني فقد دفن غير بعيد عن مدينة طنجة وبالضبط بمدينة العرائش ، وهذا إن دل على شيء، إنما يدل على شدة ارتباط هؤلاء المشاهير بطنجة ،وهذا راجع إلى عدة إغراءات التي وجدوها في هذه المدينة، التي أسالت لعابهم فأصبحوا متيمين بحبها، والأهم من هذا كله ،أنهم حين شرعوا في وصف طنجة ومحاكاة واقعها في أعمالهم الإبداعية أو التقريرية ، أصبحت لديهم شعبية وشهرة داخل النسيج المجتمعي الطنجي،ودونت أسماؤهم بمداد من ذهب في السجل التاريخي والثقافي للمدينة ، بغض النظر عن الأسلوب الذي كتبوا به عن طنجة وأهلها ، وهل كانوا في حالة ذهنية رائقة أم في حالة هذيان؟، هل مرورهم بعروس الشمال كان مرور الكرام ؟،أم بحثا عن حسناوات الشمال؟، ومع هذا كله لا يمكن إغفال شهادات بعض الكتاب والصحفيين والفنانين والروائيين الأجانب ،الذين كتبوا عن طنجة وقاطنيها ، نظرا لما تحمله هذه الشهادات من معلومات تاريخية واجتماعية وثقافية ،من وجهة نظرهم ،بطبيعة الحال ، تساعد الباحثين والطلبة على سبر أغوار الواقع الاجتماعي والحضاري لمدينة العبور،وفي نفس الوقت تصير هذه الشهادات كذلك كدليل سياحي وثقافي لكل سائح أجنبي يريد أن يكتشف تراث طنجة التاريخي والإنساني، ولكن ما يدعو إلى القلق والتساؤل الهالة التي يحاط بها هؤلاء المشاهير من طرف ثلة من مثقفينا وإعلاميينا ، الذين يرون في الأقلام الغربية وروادها أصدق تعبير عن واقع الشعوب المستضعفة والمتخلفة، وهذا ما يكرس الاستعمار الثقافي الذي نعيشه في زمننا الحالي، فلماذا إذن يتم تبجيل كل ما يأتينا من الخارج، سواء تعلق الأمر بمنتوج اقتصادي أو علمي أو فكري بينما أقلامنا المحلية ومبدعونا لا يلقون نفس التبجيل والتقدير في أوطانهم ؟،وعلى النقيض من ذلك تجد بعضا من مفكرينا سطع نجمهم ،ولقيت أبحاثهم وإنجازاتهم العلمية تشريفا ببلاد الغرب، فأمام هذا التناقض الصارخ،فهل نحن المغاربة نعيش أزمة ضمير خانقة؟ ، أم لدينا انفصام في الشخصية ؟، وهنا نفتح قوسا للحديث عن مواهب طنجة وطاقاتها الإبداعية ،التي برعت في مختلف الميادين والتخصصات،ففي العقدين الأخيرين لمسنا محاولات جادة من طرف زمرة من المثقفين الشباب، الذين استلوا أقلامهم ليستعيدوا في أعمالهم الروائية، والقصصية، وكتاباتهم التاريخية، المجد الحضاري والثقافي الذي ميز مدينة طنجة لعهود خلت،فهم بذلك يعبرون بصدق مشاعرهم عن واقع طنجي معاش وليس محكيا ، بغيرة وروح وطنيتين ،مع عزة الانتماء،عكس ما يمكن أن نجده في كتابات الأجانب الذين صوروا طنجة من الزاوية التي تخدم مصالحهم الشخصية، ومصالح بلدانهم ،وفي نفس الوقت يصنفونها بذلك في خانات قد لا ترضينا نحن – الطنجيين - . ما يجب التأكيد عليه في هذا الموضوع أن لطنجة رجالاتها، كما أن لباقي المدن المغربية أقلامها وأعلامها ،ولكن جرت العادة أن ،فنان الحي لا يطرب، وهذه العبارة قد نجدها تتكرر في كل القطاعات ،وهنا نضرب مثالا بقطاع التعليم ، الذي نعتمد فيه على “البيداغوجيات“ الأجنبية التي لا تضع في الحسبان تقاليد وعادات هذا البلد ، ضاربة كذلك عرض الحائط مرجعيته الثقافية، وقس على ذلك من الأمثلة التي تضعنا في حرج دائم مع هويتنا وثقافتنا، فطنجة في أمس الحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى ،إلى رجالاتها وطاقاتها الشابة التي برعت في مختلف الميادين، لأن التحول الاقتصادي المضطرد الذي عرفته هذه المدينة في الآونة الأخيرة ، سيرخي بظلاله على قطاعات حيوية أخرى ،مما سيساهم في تنامي ظاهرة السمسرة، والفوضى التجارية ،و بالمقابل سيساهم في أُفُول الدور الثقافي، الذي تطمح الأقلام الطنجية استحضاره ، والدفاع عنه باستماتة. كما أن طنجة اليوم في حاجة ماسة إلى مجتمعها المدني، ومنتخبيها ، ومثقفيها، ليضعوا يدا في يد لمحو الصورة القاتمة التي ما زالت تخيم على الواقع الطنجي بأحيائه و ساكنته ، وأمنه ، وصحته، وتعليمه،فآن الأوان لتتظافر كل الجهود لإعطاء صورة أخرى عن عروس الشمال، صورة تتداخل في تشكيلها ألوان الطيف ،التي تدل على سماحة وعفة وعراقة هذه المدينة كما عهدناها أيام زمان،وهذا لن يتحقق إلا إذا تم تحرير العقول الطنجية ،وإتاحة الفرصة لأبنائها البررة أحفاد الرحالة العالمي ابن بطوطة، ليرسموا في أعمالهم الإبداعية صورة مشرقة عن مدينتهم ،لأنهم بكل بساطة ، أدرى بمشاكلها وعلى استعداد تام للنهوض بها ،شريطة أن تحظى أعمالهم واجتهاداتهم باهتمام محلي .فطنجة ،ولله الحمد، أنجبت واحتضنت أسرا وأسماء علمية محلية ساهمت في التعريف بتراث وثقافة هذه المدينة، إلى درجة اصطبغت فيها آنذاك بالصبغة العالمية ، وهنا نخص بالذكر الفقيه المؤرخ سيدي محمد سكيرج ، أسرة آل الصديق ، العلامة عبد الله كنون العلامة المرحوم عبد الله المرابط الترغي العلامة المرحوم عبد الصمد العشاب، والعلامة المحدث الفقيه المفسر سيدي عبد الله التليدي أطال الله في عمره....والقائمة طويلة لا يسع المجال لحصرها، فإذا كان القاسم المشترك بين هؤلاء العلماء هو اهتمامهم بالجانب الديني والأدبي والتاريخي، فهناك زمرة من المبدعين الحاليين أثاروا في أعمالهم قضايا أخرى تناقش مواضيع الساعة وتساير التحول الذي تعرفه طنجة كما سلف الذكر.