ليست الشرفة الأطلسية مجرّد معمار مادي، بل ذاكرة حية تُشَكّلُ جزءًا من هوية المكان وسكانه. تحوي بين أعمدتها وحدائقها رواسب الزمن، وتروي جدرانها حكايات تتقاطع فيها الأسطورة بالواقع، والهوية بالزمن. غير أن مشاريع التهيئة الحديثة، بدل أن تصون هذا التراث، تكاد تمحو ملامحه في صمتٍ إسمنتيّ باهت. الشرفة ليست معلمًا بصريًا فقط، بل نص حضري متعدد الطبقات. مثل البلاط المزخرف، العريشات، والأعمدة، كلّها علامات دلالية تحوي شفرات ثقافية متراكمة، تَمنح المكان بعدًا سيميولوجيًا ووجدانيًا. كما يقول إدوارد ريلف في مفهومه "توبوفيليا"، الفضاء يصبح جزءًا من الكينونة، والذاكرة المعمارية تصبح مرآة للانتماء. إن طمس هذه العناصر هو بمثابة حذف سردي لصفحات من سيرة المدينة. ربط الأعمدة الزرقاء بأسطورة أعمدة هرقل، والحدائق بأسطورة الهسبيريديس، ليس عبثًا. المكان كان يُستَحضر ك"عتبة" رمزية بين الواقع والمُتخيَّل، بين الأرض والبحر، بين الشرق والغرب. هذه العناصر منحت الشرفة نوعًا من القداسة الرمزية، وبذلك فإن تدميرها ليس فقط عنفًا مادّيًا، بل قطع للتواصل الأسطوري الذي يربط الإنسان بجذوره ومخياله الجمعي.التدمير لا يُقاس فقط بالخرسانة المضافة أو البلاط المنزوع. بل هو – كما يقول بيير نورا – "اغتيال للذاكرة"، أي فصل المكان عن سرديته، عن تراكمه الرمزي. "حين تُزال الأعمدة، لا تسقط الجدران فقط، بل تتهاوى النظرات التي كانت تُطلّ على الأفق بحثًا عن ذاكرتها."ما يحصل في الشرفة الأطلسية ليس معركة حول "مشروع تهيئة"، بل هو صراع بين منطق التنمية الشاملة ومنطق "التحديث المبتور" الذي يفصل الحجر عن الحكاية، والمكان عن روحه. إذا أردنا إنقاذ المدينة، فعلينا أن نسمع لنبضها، أن نقرأ حجارتها، ونروي ما لم يُقَل بعد.تحوّلت الشرفة تحت مظلة "التحديث" إلى ساحة إقصاء مزدوج: إقصاءٌ للطبيعة، باجتثاث الحدائق والأشجار، وإقصاءٌ للإنسان، بإسكات صوته في اتخاذ القرار، وطمس ماضيه الرمزي. وما كان يومًا فضاءً للتأمل والتنفس الجمعي، أصبح بلاطًا إسمنتيًا بارداً، لا يُلهِم، بل يعزل. لم يعد يُهدهد العين ظلُّ غصن، ولا يَسكن الروح وقعُ الحكايات. بل حتى الذاكرة نُفيت. بدل ترميم المعالم، تم اختزالها إلى أرشيفٍ صامت، صورٌ بالية في أدراج الإدارات، تُعرض عند الحاجة كدليل على "الوفاء الشكلي" للتراث، دون روحٍ تُبعث فيه. هنا لا نتحدث فقط عن تصميم عمراني، بل عن عنف رمزي يُمارَس على الذاكرة. عن خيانة لجغرافيا الحنين، واستبدالها بلغة استثمارية تُجرّد المكان من روحه، والناس من انتمائهم. رغم تقديم المجتمع المدني لمقترحات وعرائض، تم تجاهله بالكامل، في تجاهل صارخ لمبدأ "الحق في المدينة"، كما نظّر له هنري لوفيفر. القرار العمراني تحول إلى ممارسة سلطوية، لا تشاركية، مما يكشف عن فشل في الحوكمة المحلية وانفصال النخبة التقنية عن واقع السكان. ما يحصل في الشرفة الأطلسية ليس معركة حول "مشروع تهيئة"، بل هو صراع بين منطق التنمية الشاملة ومنطق "التحديث المبتور" الذي يفصل الحجر عن الحكاية، والمكان عن روحه. إذا أردنا إنقاذ المدينة، فعلينا أن نسمع لنبضها، أن نقرأ حجارتها، ونروي ما لم يُقَل بعد. محمد سلامي 14 يوليو 2025