لم تعد السياسات المطبقة في العالم القروي مجرد اختلالات عرضية أو أخطاء في التنزيل، بل أضحت، في نظر متتبعين وفاعلين ميدانيين، توجّهًا ممنهجًا يفضي عمليًا إلى تفريغ القرى من سكانها الأصليين، تحت غطاء القانون والتنظيم. فباسم قوانين التعمير، فُرضت على ساكنة القرى مساطر معقّدة ومكلفة للحصول على تراخيص البناء، في وقت تفتقر فيه هذه المناطق إلى أبسط شروط العيش الكريم: لا طرق معبّدة، ولا ماء صالح للشرب، ولا كهرباء، ولا مرافق اجتماعية. ورغم ذلك، يُطالَب القروي بالامتثال لقوانين صُمّمت أصلًا للمدن، وكأن القرية والحواضر سواء في البنية والإمكانات. هذه القوانين لم تنظّم المجال بقدر ما خنقته، وحرمت الساكنة من حق تاريخي في استغلال أراضيها للسكن والزراعة المعيشية، وهو ما فجّر موجة من الغضب والاحتجاجات في عدد من المناطق، بعد أن وجدت الأسر نفسها ممنوعة من البناء، ومهددة بالهدم، وملاحَقة إداريا، فقط لأنها حاولت الاحتماء من المطر والبرد. وفي موازاة ذلك، جاءت قوانين المياه والغابات لتُكمل ما بدأته قوانين التعمير، عبر التحديد الغابوي الذي حوّل قرى بأكملها إلى ما يشبه "محميات مغلقة"، جُرّدت فيها الساكنة من أراضي الرعي والتشجير والاستغلال التقليدي للموارد الطبيعية. أراضٍ عاشت منها أجيال متعاقبة، وأمنت بها قوتها في سنوات الجفاف والشدة، أصبحت فجأة "ملكًا غابويًا" يُمنع الاقتراب منه. وتذهب قراءات عديدة إلى أن هذا التضييق ليس بريئًا ولا معزولًا عن رهانات أكبر، حيث يُنظر إلى إفراغ المجال القروي من ساكنته كمرحلة تمهيدية لتحويله إلى مناطق نفوذ مغلقة، تُفتح لاحقًا أمام استغلال المعادن والثروات الباطنية، بعيدًا عن أي مقاومة اجتماعية أو مطالب حقوقية من السكان الأصليين. وفي هذا السياق، تُتهم بعض المصالح الإدارية بالتواطؤ مع لوبيات النفوذ، حيث تُطبّق القوانين بصرامة على الفلاح البسيط والكسّاب القروي، بينما تُغضّ الطرف عن خروقات أكبر حين يتعلق الأمر بمشاريع ذات طابع ربحي أو استثماري. إن ما يحدث اليوم في القرى المغربية هو تهجير صامت، لا تُستعمل فيه الجرافات فقط، بل تُستعمل النصوص القانونية نفسها كأداة للإفراغ والتجفيف الاجتماعي. تهجير يدفع الشباب إلى الهجرة نحو المدن، ويحوّل القروي إلى "مخالف للقانون" فقط لأنه تشبّث بأرضه. وأمام هذا الوضع، يظل السؤال الجوهري معلقًا: أي تنمية تُبنى على اقتلاع الإنسان من أرضه؟ وأي عدالة مجالِية هذه التي تحمي الحجر والثروة، وتُقصي البشر؟ إن استمرار هذا النهج لا يهدد فقط استقرار العالم القروي، بل يفتح الباب أمام احتقان اجتماعي خطير، ستكون كلفته باهظة على الجميع.