الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين. " الدين يُفسر للعقل ما هو عاجز عن تفسيره أو فوق طاقته كالقضايا الغيبية. بالمقابل الفلسفة باعتمادها على العقل تساعد على توضيح ما هو غامض من الشريعة وتُدعم بالأدلة العقلية ما أتى به الدين" الفيلسوف الكندي
عرف تاريخ الفلسفة فترة ذهبية تميزت بظهور فلاسفة كبار أبدعوا فكرا جديدا أثَّر بشكل كبير ليس على نمط عيش الإنسان كفرد وكيفية تفكيره، وإنما على نمط العلاقة التي تحكم المجتمعات البشرية بل وحتى كيفية اشتغال الدولة وعلاقتها بالمجتمع. هي فترة معروفة بعصر الأنوار الذي ظهرت معه أفكار جديدة على رأسها مفهوم العقد الاجتماعي. لقد عرف عصر الأنوار انتفاضة فكرية ضد الفكر الكنسي الذي ساد في أرجاء أوروبا. وظهرت نظريات وأفكار جديدة ساهمت في تطوير الفكر الإنساني عموما والفكر الفلسفي خاصة. كما تعززت هذه النهضة الفكرية بالعديد من الاكتشافات العلمية التي أعطت قيمة إضافية للفكر الفلسفي الجديد وساهمت في تراجع كبير لفكر الكنيسة الكاثوليكية. فكر هذه الكنيسة عرف هجمة خارجية قادها فلاسفة عصر الأنوار، وثورة داخلية قادها تيار المعتقدات البروتستانتية. التوجه الفلسفي الجديد، أخذ اسم "الأنوار" وهي إشارة للرغبة في التخلص من الفكر الذي فرضته الكنيسة في أوروبا والذي أصبح يُعرف بفكر العصور الوسطى أو فكر الظلام ومن هنا جاء مصطلح الأنوار للتعبير عن الأفكار الجديدة. امتدت حقبة العصور الوسطى لمدة 10 قرون، من القرن الرابع حتى القرن الرابع عشر الميلادي. فبعد سقوط روما في أيدي القبائل الجرمانية سنة 476م، انتهت الإمبراطورية الرومانية الغربية، وأصبح يحكمها ملوك جرمان. وعمدت الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو البيزنطية إلى التضييق على الفكر الفلسفي لصالح العقيدة الأرثوذكسية، فبدأ في أوروبا ما يعرف بعصر الظلام الفكري، الذي ابتدأ في القرن السادس، حيث أمر الإمبراطور "جُستنيان" بإيجاز من الكنيسة، بإغلاق جميع مدارس الفلسفة في أثينا عام 529م وامتد إلى القرن الحادي عشر. وشهدت هذه الحقبة انتشار الكنيسة الكاثوليكية التي تسيَّدت على رقاب الناس وتسيَّدت على أفكارهم كذلك. كما مارست الكنيسة الكاثوليكية أقصى وأقذر أنواع القمع سواء القمع الفكري والجسدي والسلطوي بتحالفها مع الحكام والملوك، ولم يسلم من هذا القمع حتى العلماء. وتميزت هذه الحقبة من التاريخ الفكري الغربي بثلاثة ظواهر: –1– محاكم التفتيش: وهي محاكم سَلَّطتها الكنيسة الكاثوليكية على رقاب الناس لفرض سلطتها وهيمنتها. ولم ينجُ من هذه المحاكم حتى العلماء وعلى رأسهم العالم غاليليو الذي أوصله علمه إلى أن الأرض كروية الشكل عكس ما تعتقد الكنيسة الكاثوليكية من أن الأرض مُسطحة الشكل. هذه الحقيقة العلمية جعلت العالِم "غاليليو" يُعرَض على محاكم التفتيش ويتم الحكم عليه بالسجن ثم تحول الحكم إلى الإقامة الجبرية ومنعه من مناقشة أفكاره ومنع كتاباته. –2– صكوك الغفران: تعني مبالغ مالية يُعطيها المذنب للكنيسة ليكسب مغفرة ذنوبه السابقة وكذلك ذنوبه المستقبلية إذا كانت هناك نية بارتكاب ذنب أو معصية. فيمكن لمن أراد الإقدام على جريمة أو ذنب، شراء صكوك الغفران ثم يرتكب هذا الذنب ويحصل رغم ذلك على المغفرة مما اقترفه من معصية. –3– العلم كان مقتصرا على رجال الدين والمنتمين للكنيسة: فإذا لم تكن رجل دين وغير منتم للكنيسة فلا حق لك في التعلم ومصيرك الجهل والأمية. المكتبات لم تكن متوفرة والكتب لا تتوفر إلا لرجال الدين. خلال هذه الحقبة الموسومة بالعصور الوسطى، كانت الفلسفة تابعة للاهوت ودورها ينحصر في الدفاع عن الدين وليس شيئا آخر. وكانت للكنيسة الكاثوليكية بعض الافتراضات الفلسفية جعلت منها عقيدة دينية، وكل من يُعارضها فهو خارج عن الدين ويوصف بالمروق والهرطقة. من بين هذه الفرضيات الفلسفية الاعتقاد بأن الأرض مسطحة، والسماء مثل القبة ويأتي الرب كل ليلة بمصابيح من خزائنه فيعلقها في السماء وعند طلوع النهار يُزيل الرب تلك المصابيح. أما حدود العالم حسب الاعتقاد الكنيسي فهو جبل طارق الذي لا يمكن تجاوزه لأن ما وراءه المحيط الأطلسي الذي كانت تصفه الكنيسة ببحر الظلمات، لذلك لم يكن ممكنا السفر عبر هذا المحيط. كما كانت الكنيسة تعتقد أن ما وراء المحيط الأطلسي أو بحر الظلمات لا يوجد بشر لأن هذا الأخير وُجِد ليؤمن بالسيد المسيح ولو كان هناك بشر لما وصلتهم رسالة المسيح وهو الأمر الذي يُخالف معتقدات الكنيسة الكاثوليكية. هذه الظروف التي فرضتها الكنيسة الكاثوليكية، جعلت حقبة العصور الوسطى تعرف تراجعا كبيرا في الإنتاج الفلسفي والمعرفي عامة، وهو ما جعلها توصف من قِبل الكثير من المثقفين بعصور الظلام. وتجدر الإشارة إلى أن الفترة التي كانت تعيشها أوروبا والتي أصبحت معروفة بعصر الظلام، كان العالم الإسلامي في قمة عطائه العلمي والفلسفي، حيث ازدهرت الفلسفة والاكتشافات العلمية. لذلك من الخطأ المزج بين عصر الظلمات في أوروبا وحقبة العصر الإسلامي. فأوروبا شهدت مسارا تاريخيا خاصا بها أفضى إلى نبذ فكر الكنيسة من قبل فلسفة النهضة المعروفة بعصر الأنوار. فيما شهد العالم الإسلامي مسارا تاريخيا مغايرا ابتدأ بنهضة علمية وفكرية وفلسفية في العصور الوسطى، كانت منفتحة على باقي الحضارات خاصة اليونانية، كما كان الاهتمام كبيرا بترجمة الكتب الأجنبية في بيت الحكمة. لكن هذه النهضة لم تتواصل وتخلفت عن ملاحقة ما شهدته أوروبا من ثورة صناعية ونهضة فكرية، فكان التفاوت الذي نشاهده في عصرنا الحالي.