كشفت واقعةُ الفيديو المتداول المنسوب إلى مدينة تارودانت، وما رافقها من عناوين جازمة حول "عصابة تتربص بالسائقين تحت جنح الظلام"، كيف يقود التسرّع إلى تضليل واسع حين تُستبدَل المصادر المهنية بتعليقاتٍ على مواقع التواصل. فبينما اندفعت منصّات، بعضها وازن، إلى تبنّي رواية "العصابة" بوصفها حقيقة ناجزة، جاء التوضيح الأمني ليبيّن أن الأمر لا يمتّ إلى جماعة إجرامية بصلة، بل يتعلق بنزاع شخصي بين سائق سيارة وفتاة تربطه بها علاقة سابقة؛ إذ أجبرها على ركوب سيارته، فتدخّل ثلاثة أشخاص على متن دراجة ثلاثية ورشقوا السيارة بالحجارة لمنعه، وهو ما وثّقه المقطع. وبحسب البلاغ نفسه، جرى توقيف السائق والفتاة وتحديد هوية مصوّر الفيديو والمتورطين في الرشق، مع استمرار الأبحاث تحت إشراف النيابة العامة لكشف ملابسات القضية. هنا، لا نكون أمام "قصة رعب" طرقية، بل أمام واقعة فردية عَرَضيّة اكتسبت حياةً أخرى حين أعادتها منصّات السوشيال إلى الجمهور بلا سياق. تدلّ هذه الحالة على مفارقة باتت مألوفة، يتراجع فيها "التحقق" لصالح "السبق"، وتتحوّل المنصّات من ناقلٍ للمعلومة إلى مولّدٍ لها. عشر ثوانٍ من الفيديو تكفي لتأجيج المخيال، لكنها لا تكفي لتثبيت المكان والزمان أو نوايا الأطراف؛ ومع تعليقٍ مضلِّل يًعاد تأطير المشهد كله لصالح فرضية الإثارة. هنا يتسلّل تحيّز التأكيد، فيبحث الصحفي أو الناشر عما يعضد ما يريد تصديقه سلفًا، بدل أن يختبر الرواية بصرامة. ومع ضغط "الآن" و"العاجل"، يصبح التأخير مهزلةً في نظر البعض، بينما الحقيقة أن دقائق إضافية كفيلة بالفصل بين خبرٍ صحيح وآخر مضرّ بالثقة العامة. تقتضي المسؤولية المهنية ألّا يُبنى العنوان على ظنّ أو شائعة أو تعليق مرافق للفيديو، وأن تُجرى على الأقل مكالمتان .. الأولى إلى الجهة الأمنية أو السلطات المحلية لتثبيت الوقائع، والثانية إلى طرفٍ شاهدٍ أو معنيّ إن أمكن. كما أن الإشارة داخل الخبر إلى منهج التحقق ولو بسطرٍ واحد تُعيد الاعتبار لفكرة أن الصحافة عملٌ تحقيقي لا "إعادة نشر". وعند عدم اكتمال الصورة، يمكن استعمال صياغات تحفظ حق الجمهور في المعرفة من دون الادعاء بالحسم، مثل .. "الواقعة قيد التحقّق"، وتحديث المادة فور صدور بلاغ رسمي. أما إذا اتّضح لاحقًا أن الرواية الأولية كانت خاطئة، فالتصحيح الصريح واجب لا منّة، مع أرشفة النسخة السابقة ووضع إشعار تحديث واضح يشرح ما تغيّر ومتى ولماذا. تستخلص غرف الأخبار من درس تارودانت أن منصات التواصل ليست مصدرًا موثوقًا بذاتها، بل ساحةً للمواد الخام تحتاج إلى تنقيةٍ وفحصٍ وإعادة بناء قبل أن تصير خبرًا. وأن الهرولة نحو "الأكثر تداولًا" لا تعفي من أبجديات المهنة.. التثبّت، نسبة المعلومات إلى مصادرها، احترام presumption of innocence ، وتجنّب توصيفات جنائية قاطعة بلا سند. في المقابل، يحافظ الناشر الجاد على جملة واحدة بسيطة تحميه من الانزلاق.. "إذا لم نتأكد، لا ننشر"، فالثقة التي تُبنى ببطء مع الجمهور أغلى من أي تريند، وأبقى أثرًا من أي "سبق" ينهار أمام أول بلاغ رسمي. شارك هذا المحتوى فيسبوك X واتساب تلغرام لينكدإن نسخ الرابط