بصوت واهن هدّه التعب ومقاساة مرض استعصى على الأطباء حاول الفنان القدير مصطفى تاه تاه الحديث عما ألمّ به مؤخرا من وعكة صحية دخل على إثرها، فاقدا للوعي، إلى إحدى المصحات بعاصمة النخيل. كان الرجل بالكاد يُخرج الحروف من فمه مثقلة بألم الدواخل. نفس الصوت الجريح، الذي عبّر به لملحق "تلفزة وفنون" عام 2008 عن ألمه المبرح إثر فقدانه لابنه الوحيد بصعقة كهربائية قبل ست سنوات. كان هذا الفنان المراكشي المميز يحاول إيصال صرخته ممزوجة بإحساس مرير بالضيم والغبن والظلم في بلد لا يلتفت كثيرا إلى فنانيه. غير أن الألم كان يغلبه ويُغالب لسانه. ألمٌ يُلمُّ بكل أنحاء الجسد ويَطنّ في الرأس كالمطارق. ومع ذلك فإن الأطباء يصرون على أن الرجل لا يعاني من مرض معين. وفي انتظار التحاليل الطبية، يواصل الوجع اللعين عبثه في جسد أنهكه العمر المتقدم ومقارعة الفقر والتهميش والحظ العاثر. زوجته، التي تستقبل المكالمات حتى يستطيع هو أن ينعم بلحظات الغفوة القليلة التي تنتابه بين وقت وآخر وسط جحيم من الأرق الذي لا تنفع معه الأدوية المهدئة الموصوفة له، ذكرت كيف خان الفنانَ جسدُه وسقط بغتة مغشيا عليه. وحكت عن نقله إلى إحدى المصحات المراكشية من طرف بعض أصدقائه الأصفياء، الذين يحاولون الوقوف إلى جانبه ومؤازرته في محنته الصحية والمادية الصعبة. فهو لم يشتغل لأكثر من عام. ولا مورد يعتاش منه وأسرته الصغيرة المكونة من رفيقة عمره وابنته الطالبة ذات الواحد والعشرين ربيعا. أكثر من هذا، حتى البيت الذي انتقل ليقطن به قبل أعوام بتمصلوحت بضواحي مراكش تعود ملكيته لأخواته اللواتي يشفقن من حال أخيهن المشهور عند الناس فنانا له بصمته الخاصة وله وضعه الاعتباري، الذي لا ينعكس البتة، في مفارقة صارخة، على حاله المادية. وقد سبق لتاه تاه أن صرّح للأحداث المغربية أن غلاء المعيشة بمدينة سبعة رجال أجبره على ترك هذه الحاضرة التي نشأ وعاش فيها أزهى أيام حياته ويركن إلى عزلة الضواحي. معاناة مصطفى تاه تاه اليوم تطرح أكثر من علامة استفهام حول الوضع الاعتباري للفنان المغربي، الذي ينذر عمره لتغذية الوجدان الجماعي وترقية الذوق العام والتربية على الجمال، وفي الأخير، حين يسقط فريسة المرض أو الفقر لا يجد من يمد له يد العون في جحود وتنكر قاتلين. ما فائدة بطاقة الفنان إذا كانت لن تنقذ هذا الفنان من غوائل زمن يمجد الرداءة ويعلي من قيمة القبح؟ وما قيمة هيئات مدنية تتنفس بأنابيب دعم لا يغني من من فقر ولا يسمن من جوع؟ وما جدوى وزارة للثقافة لا تلعو ميزانيتها السنوية عن الصفر إلا بفواصل يتمية؟ ألم في الرأس وفي العظام ووجع يمزق نياط القلب، وحال معدم، وعطالة عن العمل، ومسؤولية أسرية ينوء بها الكاهل.. عناصر جحيم يومي يعيشه فنان قدير في قامة مصطفى تاه تاه أعطى الكثير لهذا البلد دون أن يلقى جزاء إلا اللامبالاة والنكران. فنان لم يعد يرى له من أمل بعد أن تنكر له الكثيرون سوى رحمة ربه، التي تسع كل شيء، والتفاتة ملكية تنتشله من وهدة معاناته اليومية مع المرض والفقر والتهميش.