مر على استقلال معظم الدول العربية أكثر من نصف قرن،استقلال سياسي و عسكري، هذه الفترة الطويلة لم تستطع الدول العربية استغلالها و إنتاج نظمها الخاصة، فظلت حبيسة التقليد و التبعية. نحن نعاين لغاية يومنا هذا سوء التدبير في معظم القطاعات الحيوية، قطاعات هي أساس نهضة و تقدم أي أمة، و أهم هذه القطاعات المختلة قطاع التعليم. لا زال تعليمنا العربي يتخبط كما يتخبط الأعمى في الظلمة، لم تستقر الدولة العربية على استراتيجية تعليمية ثابتة ة فعالة، كثرت التغييرات في السياسة التعليمية لكن دون جدوى. ذكرني حال العرب بالقصة المتداولة حول مشية الغراب، هي قصة فيه عبرة و إن كانت من وحي الثقافة الشعبية، فقيل أن الغراب كان يمشي بطريقة سليمة ة سوية، لكنه مرة رأى حمامة تمشي على الأرض فأعجب بخطواتها فحاول تقليدها، بعد فترة من ذلك إلتقى ببطة فرأى في مشيتها تميزاً فقلدها بدورها، حينها إختلطت عليه الخطوات فلم يتذكر بأي الطرق يمشي، نسي مشيته و مشية الحمام و مشية البط، و ها هو ينط بدل المشي.أصبحت هذه القصة مضربا للمثل للدلالة على خطورة للتقليد و نتائجه، و حال العرب كحال الغراب في القصة، تركوا تميزهم و هويتهم و قلدوا الغرب في مناهجهم الدراسية و سياستهم التعليمية، تغافلت الحكومات العربية عن شيء أساسي و هو أن لكل أمة أسسها و هويتها الثقافية و مرجعيتها الفكرية و الدينية، لذلك يجب أن تراعى هذه المكونات في أي سياسة حكومية في بلداننا العربية. إن الخطأ الأعظم الذي لا تراه حكوماتنا خطأ هو إتخاذ المناهج الدراسية الغربية أساس سياستنا التعليمية، بل و الأدهى من ذلك هو التغيير المستمر لهذه المناهج، تغيير يتم على أنه إصلاح في حين هو تخريب لعقول أبناء وطننا، إصلاحات ترقيعية، إن كان الخلل في الحافلة لماذا نغير السائق أو نغير دهان الحافلة؟ هذا حالنا نتجاهل مواطن الخلل و نقترح إصلاحات لا ترتكز على دراسة تحليلية تشخيصية، فبدل أن يكون الإصلاح جذرياً و مدروسا يكون عشوائيا، إصلاحات حكوماتنا هي تغيير المقررات و بعض المسؤولين و كذا التقسيم المرحلي للدراسة و تسمية كل مرحلة بإسم خاص، العبرة ليست في الأسماء بل في الأداء. سياسة التعليم في البلدان العربية تأخذ كل ما هو نظري، فتصدر مذكرات باتباع نظريات حديثة في مجال التربية والتعليم، هي نظريات غربية خالصة، فتبادر حكوماتنا بإدراجها في سياستها التعليمية، مسؤولونا يتجاهلون أن تطور النظريات التعليمية في الغرب كان دائماً تطوراً متدرجا، تطور مرفوق بتطوير البنيات التحتية للمؤسسات التعليمية، تطور في الكفاءات و المهارات الالبشرية. فأتينا نحن العرب لنطبق هذه النظريات في مدارسنا العتيقة، على جيل من الأساتذة لهم حساسية من التعامل مع التكنولوجيا، النظريات غير كافية إن لم توجد الكراسي للتلاميذ، نظريات يستحيل تطبيقها في أقسام مكتظة. الفرق بيننا وبينهم عميق، الغرب يوفرون لممتهن التعليم كل الموارد المتاحة، سواء الراتب المهم حيث راتب ممتهن التعليم هو من بين أهم الرواتب في دول الغرب، و دخول سلك التعليم يتطلب كفاءة عالية و مستوى دراسي مهم، فمعظم الدول الأوروبية و دول شمال أمريكا و بشكل عام الدول المتقدمة سهل على المرء أن يصير مهندسا من أن يصير مهندسا، و راتب المعلم و الأستاذ في بعض البلدان أهم من راتب المهندس أو غيره، هم فهموا أن المهندس يبني و يصمم البنايات في حين المعلن يبني مجتمعا و أجيالا.فنأتي لبلداننا العربية، سلك التعليم يدخله من لن يخول له مستواه التعليمي الحصول على وظيفة أخرى، يريد أن يصير معلما أو أستاذاً و الهدف الذي نصب عينيه هو الراتب و ساعات العمل المحدودة و كثرة العطل، بهذه الطريقة يفكر العربي الذي يقصد سلك التعليم. أحياناً قد يكون هدف الشخص نبيلا و صادقاً، بيد أن واقع حال المؤسسة و فساد و استهتار الأطر التعليمية يجعل من الوافد الجديد يتأقلم مع وسطه، لتبدأ رحلة جديدة من الاستهتار و اللامبالاة، فيصبح التلاميذ ضحايا زلزال ترك البنايات و أصاب الأخلاق و المبادئ. رغم أن الأطر التربوية و التعليمية تتحمل شقا من المسؤلية، فهذه الأطر أيضا ضحايا لسياسة تعليمية عتيقة، لذلك لن ألقي كل اللوم على الأساتذة و المعلمين، المشكلة أعظم من أن نحصرها في الشق البشري و كفاءات الأطر.مشكلة التعليم في البلدان العربية هي نتاج لتراكمات عدة أسباب: -أولاً:تجاهل الهوية الإسلامية العربية في معظم السياسات التعليمية، و الأخذ بكل ما هو غربي حديث رغم تآكل و تهالك الأطر و المؤسسات التعليمية. الاستفادة ممن سبقونا هو اختصار للجهد و الوقت، لكن الأخذ بتجارب غيرنا داخل تكامل مع مقوماتنا العربية و ليس التقليد الأعمى. -ثانياً:كثرة الإصلاحات الترقيعية التي لا تنبني على دراسات، كيف لطبيب أن يعالج مريضاً ما لم يشخص حالته و يحدد علته، هذا ما تفعله حكوماتنا، تأخذ منهجاً دراسياً و سياسة تعليمية لإحدى الدول المتقدمة فتجربه علينا، في بلداننا أصلاً لم يتم تشخيص المرض و مشاكل التعليم فكيف نصلح ما لا نعرف خلله؟ -ثالثاً:التعليم هو منظومة متكاملة، يبدأ من الأسرة ثم المدرسة و المجتمع، كل طرف يجب أن يساهم بدوره، الأسرة توفر اللوازم الدراسية و مكتبة صغيرة بالبيت، المدرسة تقوم بدورها المنوط بها و الدولة و المجتمع المدني يوفران المكتبات العامة. -رابعاً:هذه المشكلة قد يتم غفلها، لكنها خطيرة و حلها هو فقط الانتباه لها.إن جهل التلميذ لمغزى و الغرض من دراسة مادة ما أو نظرية ما سواء علمية أو أدبية يساهم بشكل كبير في النفور من المادة و عدم فهمها، فأول شيء يجب أن يذكره ممتهن التعليم لتلاميذه هو الهدف من دراسة المادة أو النظرية قبل الخوض في محتواها.من منا كان يعلم الفائدة و الهدف من دراسة الإعراب و النحو؟ هذا الجهل بالغرض من المادة جعل الكثيرين لا يفهمونها.كيف نفهم القواعد الرياضية المعقدة و نحن لا ندرك سبب دراستها؟ ندرس فقط لأننا ندرس.و الأمثلة عديدة لهذه المشكلة، حيث تشمل كل المواد لنجد شقا فيها لا نفهم المغزى منه و نفعه لنا في المستقبل. إن أسباب الوضع التعليمي الحالي متعددة، غير التي ذكرت نجد الأسباب الاقتصادية و الثقافية و الإجتماعية... حل الأزمة هو تشخيص المشاكل بدقة قبل إصدار أي برنامج إصلاحي يستنزف ميزانية الدولة و جهد أطرها دون جدوى، و يجب مراعاة خصوصية كل أمة في سياستها التعليمية. تبقى المسألة الأخيرة التي أود الإشارة إليها، أنه عندما نحترم التعليم و التحصيل العلمي سنكون قد وضعنا أقدامنا على بداية طريق الإصلاح الحقيقي، فالوسط التعليمي هو المكان الذي يقضي فيه الإنسان أغلب مراحل طفولته و نصف شبابه، لذلك وجب جعل المؤسسات التعليمية وسطا تعليميا تربويا و ترفيهيا و ليس سجنا، فالمؤسسة التعليمية خلقت لتوسيع المدارك و تنمية العقل.