المحامي أشكور يعانق السياسة مجددا من بوابة حزب الاستقلال ويخلط الأوراق الانتخابية بمرتيل    مراكش تحتضن أول مؤتمر وطني للحوامض بالمغرب من 13 إلى 15 ماي 2025    البابا ليون الرابع عشر يحث على وقف الحرب في غزة ويدعو إلى "سلام عادل ودائم" بأوكرانيا    نجم هوليوود غاري دوردان يقع في حب المغرب خلال تصوير فيلمه الجديد    الحزب الشعبي في مليلية يهاجم مشروع محطة تحلية المياه في المغرب للتستر على فشله    مشروع النفق البحري بين المغرب وإسبانيا يعود إلى الواجهة بميزانية أقل    فرنسا تعزز حضورها التنموي في مدن الصحراء المغربية باستثمار ضخم    هدوء حذر عند الحدود الهندية الباكستانية بعد أعنف تصعيد منذ 1999    إسرائيل تستعيد رفات جندي من سوريا    بطاقة المونديال والاقتراب من اللقب.. طموحان كبيران لأشبال الأطلس أمام سيراليون في ربع نهائي    شراكات استراتيجية مغربية صينية لتعزيز التعاون الصناعي والمالي    وجدة.. حجز 6918 قرصا مهلوسا وتوقيف زوجين للاشتباه في ترويج المخدرات والتزوير    الحرس المدني الإسباني يوقف صيادين مغربيين بتهمة تهريب مهاجرين    انهيار "عمارة فاس".. مطالب برلمانية لوزير الداخلية بإحصائيات وإجراءات عاجلة بشأن المباني الآيلة للسقوط    سعر الدرهم يرتفع أمام الأورو والدولار.. واحتياطيات المغرب تقفز إلى أزيد من 400 مليار درهم    "سكرات" تتوّج بالجائزة الكبرى في المهرجان الوطني لجائزة محمد الجم لمسرح الشباب    الصحراء المغربية تلهم مصممي "أسبوع القفطان 2025" في نسخته الفضية    عيد الأضحى.. مجازر الدار البيضاء تكشف برنامجها لاستقبال وذبح الأضاحي    ميسي يتلقى أسوأ هزيمة له في مسيرته الأميركية    موعد الحسم.. هذا توقيت مباراة المغرب وسيراليون في ربع نهائي كأس إفريقيا    شاهد.. سائحات يطلبن من لامين يامال أن يلتقط لهن صورة دون أن يعرفن من يكون    رفع تسعيرة استغلال الملك العام من 280 إلى 2400 درهم للمتر يغضب المقاهي ويدفعها للإضراب    مزور: الكفاءات المغربية عماد السيادة الصناعية ومستقبل واعد للصناعة الوطنية    "الاتحاد" يتمسك بتلاوة ملتمس الرقابة لسحب الثقة من الحكومة    "كان" الشباب... المنتخب المغربي يختتم تحضيراته استعدادا لمواجهة سيراليون    كلاسيكو الأرض.. برشلونة يسعى لحسم الليغا وريال مدريد يبحث عن إحياء الأمل    بوتين يقترح إجراء محادثات مباشرة مع أوكرانيا في إسطنبول انطلاقا من 15 ماي    الصحراء المغربية.. الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو    القاهرة.. تتويج المغرب بلقب "أفضل بلد في إفريقا" في كرة المضرب للسنة السابعة على التوالي    زيلينسكي: روسيا تدرس إنهاء الحرب    تحريك السراب بأيادي بعض العرب    غ.زة تعيش الأمل والفلسطينيون يحبسون أنفاسهم    أجواء احتفالية تختتم "أسبوع القفطان"    سلا تحتضن الدورة الأولى من مهرجان فن الشارع " حيطان"    طقس الأحد: زخات رعدية بعدد من المناطق    زلزال بقوة 4,7 درجات يضرب جنوب البيرو    في بهاء الوطن… الأمن يزهر    موريتانيا ترغب في الاستفادة من تجربة المغرب في التكوين المهني (وزير)    بعد فراره لساعات.. سائق سيارة نقل العمال المتسبب في مقتل سيدة مسنة يسلم نفسه لأمن طنجة    الوكالة الفرنسية للتنمية تعلن تمويل استثمارات بقيمة 150 مليار بالصحراء المغربية    الأشبال: الهدف التأهل إلى المونديال    جناح الصناعة التقليدية المغربية يفوز بجائزة أفضل رواق في معرض باريس    التعاون الفلاحي يتصدر إعلان نواكشوط    الأسهم تحفز تداولات بورصة البيضاء    البيضاء تحدد مواعيد استثنائية للمجازر الكبرى بالتزامن مع عيد الأضحى    الموت يفجع الفنان المغربي رشيد الوالي    مهرجان مغربي يضيء سماء طاراغونا بمناسبة مرور 15 سنة على تأسيس قنصلية المملكة    بينالي البندقية.. جلالة الملك بوأ الثقافة والفنون المكانة التي تليق بهما في مغرب حديث (مهدي قطبي)    افتتاح فعاليات المعرض الدولي السابع والعشرون للتكنولوجيا المتقدمة في بكين    إنذار صحي في الأندلس بسبب بوحمرون.. وحالات واردة من المغرب تثير القلق    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آسَفِي.. بَحث في مَدلول الاسم
نشر في أخبارنا يوم 24 - 08 - 2023

تعتبر دراسة الأعلام المكانية، والبحث في دلالاتها وسيلة من وسائل البحث في ثقافة مجتمع معين، ومصدرا آخر من مصادر التاريخ، فهي تُسهم في نفض الغبار عن قضايا تاريخية جديدة، أو تصحيح مضامين تاريخية متداولة، أو إبراز إشكاليات مستجدة. فإذا كان المؤرخ يدرس المجتمع في علاقته بالزمن من خلال ما خلفه الإنسان من شواهد متعددة، سواء منها مادية أو غير مادية، فإن اسم المكان يعد شاهدا آخر من هذه الشواهد، لأنه أطلق في زمن معين، على مكان معين، من قبل فرد أو جماعة. وتعرف معاجم اللغة " الاسم " على إنه لفظ يطلق على أي شيء لتمييزه عن غيره. وبموجب هذا التعريف يفترض أن يكون لكل كائن اسما أو رمزا أو لقبا أو رقما يعرف به، ويتم التعامل معه من خلاله. ولا يمكن أن تسير الحياة إلا عندما يحمل أي شيء اسما يميزه عن غيره.
ويستوقف اسم المدينة ساكنها وزائرها، ومن يسمع به أحيانا. ويحرص البعض على معرفة معنى اسم مدينة ما طلبا للمعرفة واستكمالا لمعلوماته عنها، أو من قبيل الفضول. وقد وردت بعض التفسيرات لمعاني بعض أسماء المدن في مصادر قديمة كمعجم البلدان والروض المعطار في خبر الأقطار وغيرهما. ورغم ما يشوبها من خرافة أحيانا، وعدم دقة المعلومات أحيانا أخرى وغير ذلك تبقى مرجعا يحسن مناقشتها وتحقيقها قبل الأخذ بها. وقد عمدت مجلات عربية عريقة ومرموقة كمجلة العربي الكويتية والفيصل السعودية إلى ذكر ما يتعلق بأسماء المدن العربية التي نشرت استطلاعات عنها وذلك بالرجوع لمعاجم اللغة والمصادر التاريخية، وما يتناقله سكان المدينة من معلومات حولها أيضا. وتكمن أهمية معرفة اسم المدينة في الدلالات التاريخية والجغرافية للاسم على حد سواء، وما يشير إليه هذا الاسم من أحداث وشخصيات شكلت ورسمت تاريخ المكان والمنطقة بدرجة ما.
آسفي.. أصل التسمية
لكل مدينة اسم يحمل معاني ودلالات قد تخفى عن الكثيرين. فهناك مدن لا خلاف على سبب تسميتها، وهناك مدن تعرف خلافا حول تحديد سبب تسميتها. ومن ذلك مدينة آسفي المغربية الضاربة في أعماق التاريخ، حيث إن التضارب التاريخي حول ظروف الاستيطان ومراحل تأسيس المدينة هو الغالب أيضا على أصل التسمية، نظرا لعدم وجود نصوص صريحة ترفع عنها كل الالتباسات والفرضيات التاريخية. وفي غياب وثائق معتمدة تحسم علاقة الدال/ آسفي بالمدلول أي معناه، يتم تداول عديد الروايات في تفسير مدلول اسم مدينة آسفي.
كلمة آسفي بحروفها الأربع، تزيد أو تنقص، تستعمل عند أهل آسفي بأشكال عدة، لكن الرسم الأكثر استعمالا في الكتابات الرسمية والمؤلفات التاريخية والأدبية والعلمية هو آسَفِي أو أَسْفِي. اختلف المؤرخون والكتاب والجغرافيون في أصل تسميتها. يقول الشريف الإدريسي في نزهة المشتاق: " أسفي بالمد والسين المهملة مفتوحة وفاء مكسورة "، وقال ياقوت في معجم البلدان: " أسفي بفتحتين وكسر الفاء بلدة على شاطئ البحر المحيط بأقصى المغرب". وقال محمد أمين في معجم العمران وجدت في تقديم البلدان لأبي الفداء وقد ضبطها عن أبي سعيد بفتح الهمزة وكسر الفاء آخرها ياء مثناة من تحت. وقال مجد الدين الفيروزبادي في القاموس: " أسفي بفتحتين بلدة بأقصى المغرب ". وقد فهمه الشيخ مرتضى على أن المراد بالفتحتين فتحتا السين والفاء فانتقده عليه قائلا هكذا في سائر النسخ بفتحتين والصواب في ضبطه بكسر الفاء كما في المعجم لياقوت. وفهمه الشيخ نصر الهوريني على أنهما فتحتا الألف والسين فقال على قوله بفتحتين أي مع كسر الفاء" (1).
صافي SAFI أو SAFFI (آسفي بسكون باللغة العربية) كتبت برسوم مختلفة في المراجع التي أشارت إلى وجودها وهكذا نجد ASAFI آسفي عند بيتر هايس، Peter Haas، و ASAFIE . و ASAPHI حسب خريطة أعدها الجغرافي اورتليوس سنة 1579، AZAFFI ، AZAFI و cafim و ASAFIA عند اوتيليوس، SAFFY عند جون موكيت في رواية رحلته إلى المغرب ( حسب دوكاستري في كتابه فرنسا ج 2 ص 393 وبيتر هايس)، SAFIE و SAFIM (حسب وصف للمغرب من برتغالي غير معروف أقام بها سنة 1596 ذكره دوكاستري المرجع السابق ص 252 )، و SAPHIE حسب تقرير القبطان ديستيفال حول جولته البحرية في المغرب في أكتوبر 1670 ذكره دوكاستري المرجع الأسبق 1 ص 332 ، ZAFI أو Sophia (2). كما " ذكرها بطليموس القلوزي في كتاب الجغرافية له باسم يقرب من هذا في اللوح الأول للقسم الثاني من أقسام المعمورة وهو (تائسفه)، وقد كان بطليموس قبل الميلاد المسيحي بنحو 140 سنة وكتابه هذا يعد الأصل الأول للجغرافيين إلا أنه لطول العهد وكرور الأزمنة قد تغيرت كثير من أسماء البلدان المذكورة فيه بل واندرست المسميات " (3).
الرواية الأمازيغية
أما المؤرخ البكري فيشير بصريح العبارة إلى أن اسم مدينة آسفي مشتق من الكلمة البربرية (أسيف) التي تعني مجرى مائي مؤقت، وفعلا لا يزال يخترق المدينة وادي يعرف بوادي الشعبة ويصب فيها. وفي نفس السياق يورد أحمد التوفيق في محاضرة له تحت عنوان " معنى اسم آسفي" بالملتقى الفكري الأول لمدينة آسفي سنة 1988 أن (اسم أسيف وهو النهر أو الوادي ينبغي حمله على أنه مشتق أداتي مزيد بحرف سين، في أوله مادة جدرها حرف فاء، ومن الجدر يشتق فعل افني بمعنى صب، فكلمة آسفي في لغة مزاب تعني حوض الماء المصبوب بواسطة الناعورة، ومنه كلمة انيفيف، وهو عندهم القمح، فأسيف على هذا الأساس آلة الصب وإلى الجدر ينبغي إرجاع اسم مدينة آسفي الذي ينطق (بفتح السين) أو آسفي (بسكون السين). ولا غرابة في ذلك، فالموقع متميز بوجود خور مصب نهر سيال في الفصل المطير، حتى أنه يتسبب أحيانا في أضرار وخسائر).
أما الفرضية الأمازيغية الأخرى في تسمية آسفي، فيمكن استنباطها من قولة مؤرخ آسفي الفقيه الكانوني (آسفي المصباح المضيئ مصمودية، ينطق بها أسافيو بكسر الفاء، لا جمع لها، ومن مادتها أسفو، معناها المشعل الذي يجمع على أسافو، والغالب على الظن أنه كان يوجد بمدينة آسفي في وقت ما مصباح (منار) يضيىء الشاطئ). وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى الأهمية التاريخية والحضارية التي تتميز بها مدينة آسفي قبل الإسلام، وهي تشييد منارات على الشواطئ لهداية السفن أثناء عودتها ليلا، كما أن الأهالي يشعلون الأضواء في تلك المنارات إعلاما بالهجوم واستعدادا له. هذه الفرضية التاريخية أكدها الفقيه الكانوني (آسفي لفظ بربري مأخوذ من قول البربر للضوء أسف بضم الفاء، فحرف في باستعمال الكسر على أن بعض البربر ينطقون به مكسورا).
وجاء في كتاب " المسند الصحيح في مآثر مولانا أبي الحسن " لابن مرزوق محمد التلمساني (1311-1379) الذي عاش في القرن الرابع عشر قوله " أنشأ المولى رضي الله عنه من المحارس والمناظر ما لم يعهد مثله في عصر من الأعصار، وحسبك أن مدينة آسفي وهي آخر المعمورة إلى بلد الجزائر .. إذا وقعت النار في أعلاها تتصل في الليلة الواحدة أو في بعض ليلة وذلك في مسافة تسير فيها القوافل نحوا من شهرين .. فأمنت السواحل في أيامه السعيدة ". وتعليقا على هذا النص، في صفحته بالفايسبوك، بتاريخ 14 غشت 2019، يرى مؤرخ آسفي الأستاذ ابراهيم كريدية أن " أي من هذه المحارس كانت وظيفته أنه متى رصد سفينة عدو في الأفق البحري كان يشعل النار على سطحه للتنبيه والاستعداد، فيتوالى إشعالها من محرس إلى آخر على طول الساحل الأطلسي والمتوسطي، وبذلك تشتعل النار على كل المحارس رغم طول المسافة، ويتم ذلك في وقت وجيز وقياسي، وهو ليلة واحدة أو في جزء من ليلة، مما يؤدي إلى استنفار المحارس جميعا وإلى أهبتها لمواجهة الخطر القادم من البحر ".
ويستنتج الأستاذ أحمد التوفيق أن " الروايتين معا يأخذان بالمنحى اللغوي في إجلاء مدلول اسم آسفي، ورغم اختلاف الكلمتين فقد كان في بنائهما ومدلولاتهما في واقع ماضي آسفي ما يبرر تداولهما على ألسنة الناس. فربط اسم آسفي بأسفو يأتي من واقع لا اختلاف بشأنه، مفاده أن المدينة الموجودة منذ أحقاب متطاولة كما ذكر ابن خلدون كانت مرفئا تجاريا مهما، وزاد أيضا من أهميتها أنه لم يكن وراء هذا الثغر العامر مدينة جامعة ولا محلة مسورة. ولا شك أن هذا الميناء بأهميته التجارية وبموقعه القصي المتطرف، استوجب من تجاره وعمارته اتخاذ إجراءات من الحيطة والاحتراس، ومن ذلك نصب مشاعل ومنائر، أي أسفو بلغة بربره من المصامدة، فكانوا يرتبون بالشواطئ حراسا، فإذا ظهرت قطعة في البحر يشغلون الأضواء في المنائر إعلاما بالهجوم والاستعداد له، كما كانوا بهذه المشاعل يرشدون السفن ليلا إلى المرسى. وعليه فإن إقامة المشاعل والمنائر كانت واقعا تاريخيا بمدينة آسفي يصح معها ربط أسفو باسم آسفي، وبالتالي إضفاء نوع من المصداقية العلمية على تداول الرواية القائلة بهذا الطرح. ونفس الشيء نصادفه عند ربط اسم آسفي بكلمة " أسيف " فله ما يبرره في الواقع التاريخي لآسفي، ذلك أن تأسيس هذه المدينة كان بأسفل مجرى واد الشعبة القادم من الشرق، ثم إن هذا الواد عرف بسيوله الجارفة المتعاقبة، إذ كان على مر العصور مصدر رعب وقلق السكان ".
الشريف الإدريسي ورحلة الفِتية المُغررين
ويربط الشريف الإدريسي (560ه/1165م) في كتابه المشهور " نزهة المشتاق في اختراق الآفاق " أصل تسمية مدينة آسفي بقصة ثمانية فتية سماهم بالمغررين، أي الإخوة المغامرين أو المخاطرين، تجمع بينهم قرابة العمومة، من مسلمي مدينة لشبونة LIBOA عاصمة البرتغال اليوم، خرجوا من ميناء اشبونة (لشبونة) بالبرتغال لاكتشاف مجاهل المحيط الأطلسي، ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه، وذلك أنهم اجتمعوا فأنشأوا مركبا حمَّالا وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر، ثم دخلوا البحر. وبعد أن واجهوا الكثير من أهوال البحر، وقعوا في أسر أمير إحدى الجزر الذي طوح بهم معصوبي العين على ساحل مجهول، ولما علموا من بعض سكانه الذين فكوا وثاقهم وتحلقوا حولهم مقدار المسافة البعيدة التي تفصلهم عن وطنهم وذويهم، صاح زعيمهم وا أسفي، فسمي هذا المكان منذئذ باسم آسفي. يقول الإدريسي (أصل تسمية المدينة هذه بآسفي يرجع إلى جماعة الفتية الذين غامروا بركوب بحر الظلمات بدافع الكشف والاستطلاع من مدينة اشبونة خلال القرن الرابع الهجري حيث انتهى بهم المطاف إلى بلاد البربر جنوب مراكش، فصاح رئيس البعثة وا أسفي، ومن ذلك أطلق على هذه المنطقة اسم آسفي).
هذه القصة مذكورة بنصها في نزهة المشتاق، كما يمكن الرجوع إليها في نشرة "دي خوي" أو في النشرة الإيطالية (opus géographicum ). وممن نقل القصة عن الإدريسي صاحب الروض المعطار.
إن هذه الرحلة الاستكشافية الأشد غرابة والأكثر شهرة، ظلت ذكرى محفوظة في ذاكرة لشبونة، قد تكون وقعت في زمن الأمويين في الأندلس أو زمن ملوك الطوائف، وربما في عصر المرابطين. وعلى كل حال فإن هؤلاء الفتية استطاعوا العودة إلى لشبونة، كما يؤخذ من سياق كلام الإدريسي، وحدثوا أهلها بأخبار رحلتهم، ولكن مواطنيهم لم يروا فيهم إلا شبابًا مخاطرين مغررين (أو مغربين، من الاتجاه إلى المغرب؟)، حتى عرف الدرب الذي كانوا يسكنونه بمدينة لشبونة بموضع بمقربة الحمَّة بدرب المغرَّرين.
وهذه القضية مرسلة من غير تاريخ، إلا أنه حيث كان الناس عربا واللفظ عربيا، فإن استيلاء العرب على لشبونة لأول الفتح الإسلامي للأندلس كان سنة 92 هجرية، وتخليهم عنها سنة 489 هجرية، فيكون خروجهم لاكتشاف ما وراء المحيط متراوحا بين هذه القرون الأربعة. وينبني على ذلك حيث كانت آسفي أقدم من هذا التاريخ بكثير أن يكون هذا الاسم جديدا لها ولها اسم آخر قديم، لكن يشكل عليه أن كل من ذكرها من المؤرخين والجغرافيين لم يذكرها إلا مقرونة بهذا الاسم (4).. والحقيقة أن كل من ذكر تاريخ بلد باسم جديد يكون من أهم أمره أن يذكر اسمه القديم والحال أنهم لم يذكروه، ويمكن الجواب بأنهم ما كتبوا الجديد إلا بعد مرور أزمنة انتسخ خلالها الاسم القديم ولم يبق معلوما (5).
الرواية العِبرية
الرواية العِبْرية تسعى إلى إثبات الأصل السامي لكلمة " أسفي "، وهي رواية طريفة وغير معروفة عند الكثيرين، وإن كنا نعتبرها أبعد ما يكون في تفسير مدلول اسم آسفي، فإنها مع ذلك تحفل بالعديد من الإشارات القوية الدالة على الوجود اليهودي الموغل في القدم بآسفي. ومؤداها أن آسفي اسم نُحِث من كلمة عِبْرية ورد ذكرها مفصلا عند أرمان أنطونا في دراسته المشهورة عن عبدة، كما ألمح إليها أحمد بوشرب في أطروحته عن الاستعمار البرتغالي بدكالة.
هذه الرواية تذكر أن اسم آسفي ينحدر من كلمة أسف بكسر السين وفتح الفاء العبرية، وعند تحقيق هذه العبارة وجدنا: 1_ فعل أسف (بفتح السين والفاء) ومعناه جمع وحشد. 2_ اسم أسف (بفتح السين وكسر الفاء) ومعناه الجماعة والجمعية والاجتماع والمجلس. ويدفعنا عنوان بحث للأستاذ شمعون ليفي إلى الاعتقاد بأن المقصود بالجماعة هي الطائفة اليهودية التي كانت تستوطن مدينة آسفي (6)، ويزيد من قوة هذا اعتقادنا ما جزم به أرمان أنطونة، حين أكد أن اليهود استوطنوا المدينة في الماضي السحيق، وأنهم في الأصل برابر متهودين (7)، وأن العقيدة اليهودية عمّرت بآسفي أكثر من أي مكان آخر بالمغرب، وأن هذه المدينة احتفظت على الدوام، بساكنة يهودية كانت في كل العصور كبيرة في العدد (8). بل إن الباحث الآسفي المعاصر تيمول، يذهب إلى القول بأن آسفي ظلت زمنا طويلا " مدينة يهودية "، وأن تحويل معظم أهلها إلى الإسلام تطلب عدة قرون من الدعوة المستمرة إلى الدين الجديد (9). وتذهب بعض القرائن إلى دعم خلاصات أنطونة وتيمول، ومنها أن بربر آسفي كانوا جزءا من كيان بورغواطة التي ظهرت في نهاية الربع الأول من القرن الثاني الهجري، وقد امتد سلطانها على بسائط تامسنا وريف البحر المحيط من سلا وأزمور وأنفا وآسفي، والذي يهمنا من هذه الدولة عقيدتها الغريبة، وقد تناولتها دراسات كثيرة، نختار منها أبحاث سلوش وغاستون ودوفران وإبراهيم حركات، فهي تجمع على أن ديانة بورغواطة يهودية في أصلها، وفي كثير من طقوسها (10).
روايات أخرى
وذكر فرانسوا بيرجي رواية ضعيفة مخالفة تماما لكل ما سبق، حيث زعم انتساب اسم آسفي إلى أحد أئمة الفينيقيين، مدعيا أن سكان مدينة صور الفينيقية أنشأوا بآسفي وكالة تجارية في القرن 12 قبل الميلاد، وأسكنوا فيها المهاجرين الكنعانيين الذين طردوا على يد الغزاة العبرانيين، وأطلقوا على هذه المدينة اسم أعظم سيد مقدس ببلد كنعان وهو آسف.
كما أورد المؤرخ عبد العزيز بنعبدالله رواية تقول إنه من المحتمل أن تكون هناك علاقة بين آسفي المغربية ومدينة أسيف التي توجد في الجنوب الشرقي لمدينة بغداد العراقية. وهي نفس العلاقة التي تجمع بين صناعة تقليدية للمدينتين تتمثل في صناعة الفخار والخزف، بنفس الأشكال الهندسية والاستعمالات اليومية المتداولة آنذاك.
الخلاصة:
آسفي مدينة ضاربة في القدم، أنشئت على وادي الشعبة، منبع الطين والخزف الذي اشتهرت به المدينة. ومنذ أقدم العصور، وقبل دخول الإسلام، اعتبرت المدينة ضمن المدن المقدسة المعروفة في العالم القديم. ولا يعرف بالضبط العصر الذي تأسست فيه آسفي، فهي قديمة قدم التاريخ نفسه. ولعل الأحفوريات التي اكتشفت بجبل ايغود شرق المدينة سنة 1962، والمتكونة من بقايا عظمية بشرية وحيوانية وأدوات مختلفة تفيد بأن الإنسان عمّر آسفي قبل خمسين ألف سنة. ولا غرو في ذلك، فالمدينة تضم مجموعة من المآثر التاريخية والقلاع التي تشهد على تاريخها العريق. وكل من تناول تاريخ آسفي من المؤرخين والباحثين، يقر بأن جذور وجودها تضرب عميقا في مجاهل التاريخ. وقد تولد عن ذلك تضارب كبير في الرأي حول أمور تتصل بتأسيس هذه المدينة، ومدلول اسمها والأصل الذي اشتق منه. ومع كل هذا التضارب فقد حظيت آسفي بأهمية بالغة، حتى أن اسمها ورد ضمن أمهات المعاجم التاريخية كمعجم البلدان لياقوت الحموي، وذكرها الرحالة المغربي الشهير بن بطوطة في مذكراته الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة.
هوامش:
(1) محمد بن أحمد الكانوني العبدي، آسفي وما إليه قديما وحديثا، ص 56، إعداد وإخراج علال ركوك ومحمد بالوز
(2) هامش ص 30 من كتاب جهة عبدة لأرمان انطونة. ترجمة علال ركوك ومحمد بن الشيخ
(3) محمد بن أحمد الكانوني العبدي، آسفي وما إليه قديما وحديثا، ص 58، إعداد وإخراج علال ركوك ومحمد بالوز
(4) نفسه ص 58
(5) نفسه ص 58
(6) شمعون ليفي، الجماعة اليهودية لمدينة آسفي، تاريخ إقليم آسفي، مرجع مذكور ص 175
(7) Armand Antona, P 26
(8) Ibid. P 71
(9) A.Timoule, Le Maroc à travers les chroniques maritimes, seconde édition, tome 1 , 1989, P. 70
(10) إبراهيم كريدية، صفحات من تاريخ يهود آسفي، ص 21 و 22


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.