الملك محمد السادس يهنئ رئيس إندونيسيا بمناسبة العيد الوطني لبلاده    أنفوغرافيك | خلال 2024.. المغرب ثاني وجهة استثمارية في شمال إفريقيا    المنتخب المغربي يتأهل إلى الدور الثاني من "الشان" بعد فوزه على الكونغو الديمقراطية    البيجيدي يسائل وزير الداخلية حول مشاركة طوطو في مهرجان القنيطرة وضمانات التزامه بقيم المجتمع        اليونان تضبط "أكبر كمية من القات"    جريمة التطاول على الدين    شباب الريف الحسيمي يعزز صفوفه بانتدابات جديدة بحثًا عن الصعود    بيتيس يفتقد خدمات الزلزولي في أولى مباريات الموسم    تشكيلة منتخب "الشان" أمام الكونغو    بايرن ميونخ يكشف سبب رحيل أزنو    حادث مأساوي يودي بحياة شرطي ببني ملال    جنازة في كلميم تشهد استعراضا انفصاليا مفضوحا برفع "خرقة البوليساريو"    130 سربة و42 ألف خيمة.. موسم مولاي عبد الله أمغار يسجل مشاركة غير مسبوقة    ميرغت.. الزمان والمكان والذاكرة    أطفال القدس يتلمسون بتطوان خطى تلاميذ مغاربة تلقوا تعليمهم بمدينة نابلس الفلسطينية خلال القرن الماضي    طقس الأحد.. أجواء شديدة الحرارة بمناطق واسعة من المملكة    موسم مولاي عبد الله.. حين تتحول الأرقام إلى دعاية لا تعكس الواقع    الصيادلة يصعدون ضد وزارة الصحة بسبب تجاهل مطالبهم المهنية    "الشان".. المغرب يواجه الكونغو الديمقراطية في مباراة حاسمة لتحديد متصدر المجموعة    أحمد الريسوني يدعو الحكام العرب لتسليم الأسلحة للمقاومين    ترويج المخدرات والخمور يجر أربعينيا للتوقيف ببني أنصار    الجزائر.. السلطات توقف بث قنوات تلفزية بسبب تغطيتها لحادث سقوط حافلة بوادي الحراش    المغاربة على موعد مع عطلة رسمية جديدة هذا الشهر    أرقام التعليم والتكوين وانتظاراتهما في طموحات مشروع قانون المالية لسنة 2026    مذكرات مسؤول أممي سابق تكشف محاولات الجزائر للتدخل وعرقلة المغرب في قضية الصحراء    النظام الجزائري يكمّم الأفواه: عقوبات جديدة تطال قنوات محلية بعد تغطية فاجعة الحافلة    المنظمة المغربية لحقوق الإنسان تنظم زيارات لعائلات معتقلي الحراك    المنتخب الوطني يواجه الكونغو الديمقراطية.. هذا موعد المباراة والقنوات الناقلة    مستكشفو كهوف في فرنسا يجمعون مخلفات عشرات البعثات في "إيفرست الأعماق"    إسرائيل تقصف منشأة للطاقة باليمن        قادة فرنسا وألمانيا وبريطانيا ينظمون مؤتمرا لمناقشة خطة ترامب للسلام في أوكرانيا    بورصة الدار البيضاء تنهي أسبوعها على وقع ارتفاع طفيف لمؤشر مازي    "لاغتيست" يشعل منصة "رابأفريكا"    هكذا يتجنب عشاق ألعاب الفيديو متاعب العين    دراسة: أطباء يفشلون في تشخيص السرطان بالذكاء الاصطناعي    دموع الأم ووفاء الوطن.. لحظات استثنائية في حفل كزينة بالرباط    توقيف سيارة رباعية الدفع محملة بكمية كبيرة من المعسل المهرب ضواحي طنجة    تيزنيت: محاولة فاشلة لعصابة تسرق أسلاك الكهرباء و أنابيب السباكة النحاسية من منازل في طور البناء ( صور )    وثيقة l من حصار بيروت 1982 إلى إبادة غزة 2025: رسالة السرفاتي وأسيدون إلى ياسر عرفات تتحدى الزمن وتفضح جٌبن النٌخب    المنتخب المغربي للمحليين يلعب آخر أوراقه أمام "فهود الكونغو" في "الشان"    استقرار أسعار المحروقات في المغرب    أطباء القطاع الحر يطالبون الصيادلة بإثبات مزاعم التواطؤ مع شركات الأدوية    بورصة البيضاء .. أقوى ارتفاعات وانخفاضات الأسبوع    طنجة تتصدر الوجهات السياحية المغربية بارتفاع 24% في ليالي المبيت    منظمة الصحة العالمية تحذر من استمرار تدهور الوضع العالمي للكوليرا    ابتكار أول لسان اصطناعي قادر على استشعار وتمييز النكهات في البيئات السائلة    أوجار: مأساة "ليشبون مارو" رسالة إنسانية والمغرب والصين شريكان من أجل السلام العالمي    تطوان تحتضن انطلاقة الدورة الثالثة عشرة من مهرجان أصوات نسائية    مشروع قانون يثير الجدل بالمغرب بسبب تجريم إطعام الحيوانات الضالة    النقابات تستعد لجولة حاسمة من المفاوضات حول إصلاح نظام التقاعد    راب ستورمي وحاري في "رابأفريكا"    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آسَفِي.. بَحث في مَدلول الاسم
نشر في هوية بريس يوم 16 - 08 - 2023


مقدمة:
تعتبر دراسة الأعلام المكانية، والبحث في دلالاتها وسيلة من وسائل البحث في ثقافة مجتمع معين، ومصدرا آخر من مصادر التاريخ، فهي تُسهم في نفض الغبار عن قضايا تاريخية جديدة، أو تصحيح مضامين تاريخية متداولة، أو إبراز إشكاليات مستجدة. فإذا كان المؤرخ يدرس المجتمع في علاقته بالزمن من خلال ما خلفه الإنسان من شواهد متعددة، سواء منها مادية أو غير مادية، فإن اسم المكان يعد شاهدا آخر من هذه الشواهد، لأنه أطلق في زمن معين، على مكان معين، من قبل فرد أو جماعة. وتعرف معاجم اللغة " الاسم " على إنه لفظ يطلق على أي شيء لتمييزه عن غيره. وبموجب هذا التعريف يفترض أن يكون لكل كائن اسما أو رمزا أو لقبا أو رقما يعرف به، ويتم التعامل معه من خلاله. ولا يمكن أن تسير الحياة إلا عندما يحمل أي شيء اسما يميزه عن غيره.
ويستوقف اسم المدينة ساكنها وزائرها، ومن يسمع به أحيانا. ويحرص البعض على معرفة معنى اسم مدينة ما طلبا للمعرفة واستكمالا لمعلوماته عنها، أو من قبيل الفضول. وقد وردت بعض التفسيرات لمعاني بعض أسماء المدن في مصادر قديمة كمعجم البلدان والروض المعطار في خبر الأقطار وغيرهما. ورغم ما يشوبها من خرافة أحيانا، وعدم دقة المعلومات أحيانا أخرى وغير ذلك تبقى مرجعا يحسن مناقشتها وتحقيقها قبل الأخذ بها. وقد عمدت مجلات عربية عريقة ومرموقة كمجلة العربي الكويتية والفيصل السعودية إلى ذكر ما يتعلق بأسماء المدن العربية التي نشرت استطلاعات عنها وذلك بالرجوع لمعاجم اللغة والمصادر التاريخية، وما يتناقله سكان المدينة من معلومات حولها أيضا. وتكمن أهمية معرفة اسم المدينة في الدلالات التاريخية والجغرافية للاسم على حد سواء، وما يشير إليه هذا الاسم من أحداث وشخصيات شكلت ورسمت تاريخ المكان والمنطقة بدرجة ما.
آسفي.. أصل التسمية
لكل مدينة اسم يحمل معاني ودلالات قد تخفى عن الكثيرين. فهناك مدن لا خلاف على سبب تسميتها، وهناك مدن تعرف خلافا حول تحديد سبب تسميتها. ومن ذلك مدينة آسفي المغربية الضاربة في أعماق التاريخ، حيث إن التضارب التاريخي حول ظروف الاستيطان ومراحل تأسيس المدينة هو الغالب أيضا على أصل التسمية، نظرا لعدم وجود نصوص صريحة ترفع عنها كل الالتباسات والفرضيات التاريخية. وفي غياب وثائق معتمدة تحسم علاقة الدال/ آسفي بالمدلول أي معناه، يتم تداول عديد الروايات في تفسير مدلول اسم مدينة آسفي.
كلمة آسفي بحروفها الأربع، تزيد أو تنقص، تستعمل عند أهل آسفي بأشكال عدة، لكن الرسم الأكثر استعمالا في الكتابات الرسمية والمؤلفات التاريخية والأدبية والعلمية هو آسَفِي أو أَسْفِي. اختلف المؤرخون والكتاب والجغرافيون في أصل تسميتها. يقول الشريف الإدريسي في نزهة المشتاق: " أسفي بالمد والسين المهملة مفتوحة وفاء مكسورة "، وقال ياقوت في معجم البلدان: " أسفي بفتحتين وكسر الفاء بلدة على شاطئ البحر المحيط بأقصى المغرب". وقال محمد أمين في معجم العمران وجدت في تقديم البلدان لأبي الفداء وقد ضبطها عن أبي سعيد بفتح الهمزة وكسر الفاء آخرها ياء مثناة من تحت. وقال مجد الدين الفيروزبادي في القاموس: " أسفي بفتحتين بلدة بأقصى المغرب ". وقد فهمه الشيخ مرتضى على أن المراد بالفتحتين فتحتا السين والفاء فانتقده عليه قائلا هكذا في سائر النسخ بفتحتين والصواب في ضبطه بكسر الفاء كما في المعجم لياقوت. وفهمه الشيخ نصر الهوريني على أنهما فتحتا الألف والسين فقال على قوله بفتحتين أي مع كسر الفاء" (1).
صافي SAFI أو SAFFI (آسفي بسكون باللغة العربية) كتبت برسوم مختلفة في المراجع التي أشارت إلى وجودها وهكذا نجد ASAFI آسفي عند بيتر هايس، Peter Haas، و ASAFIE . و ASAPHI حسب خريطة أعدها الجغرافي اورتليوس سنة 1579، AZAFFI ، AZAFI و cafim و ASAFIA عند اوتيليوس، SAFFY عند جون موكيت في رواية رحلته إلى المغرب ( حسب دوكاستري في كتابه فرنسا ج 2 ص 393 وبيتر هايس)، SAFIE و SAFIM (حسب وصف للمغرب من برتغالي غير معروف أقام بها سنة 1596 ذكره دوكاستري المرجع السابق ص 252 )، و SAPHIE حسب تقرير القبطان ديستيفال حول جولته البحرية في المغرب في أكتوبر 1670 ذكره دوكاستري المرجع الأسبق 1 ص 332 ، ZAFI أو Sophia (2). كما " ذكرها بطليموس القلوزي في كتاب الجغرافية له باسم يقرب من هذا في اللوح الأول للقسم الثاني من أقسام المعمورة وهو (تائسفه)، وقد كان بطليموس قبل الميلاد المسيحي بنحو 140 سنة وكتابه هذا يعد الأصل الأول للجغرافيين إلا أنه لطول العهد وكرور الأزمنة قد تغيرت كثير من أسماء البلدان المذكورة فيه بل واندرست المسميات " (3).
الرواية الأمازيغية
أما المؤرخ البكري فيشير بصريح العبارة إلى أن اسم مدينة آسفي مشتق من الكلمة البربرية (أسيف) التي تعني مجرى مائي مؤقت، وفعلا لا يزال يخترق المدينة وادي يعرف بوادي الشعبة ويصب فيها. وفي نفس السياق يورد أحمد التوفيق في محاضرة له تحت عنوان " معنى اسم آسفي" بالملتقى الفكري الأول لمدينة آسفي سنة 1988 أن (اسم أسيف وهو النهر أو الوادي ينبغي حمله على أنه مشتق أداتي مزيد بحرف سين، في أوله مادة جدرها حرف فاء، ومن الجدر يشتق فعل افني بمعنى صب، فكلمة آسفي في لغة مزاب تعني حوض الماء المصبوب بواسطة الناعورة، ومنه كلمة انيفيف، وهو عندهم القمح، فأسيف على هذا الأساس آلة الصب وإلى الجدر ينبغي إرجاع اسم مدينة آسفي الذي ينطق (بفتح السين) أو آسفي (بسكون السين). ولا غرابة في ذلك، فالموقع متميز بوجود خور مصب نهر سيال في الفصل المطير، حتى أنه يتسبب أحيانا في أضرار وخسائر).
أما الفرضية الأمازيغية الأخرى في تسمية آسفي، فيمكن استنباطها من قولة مؤرخ آسفي الفقيه الكانوني (آسفي المصباح المضيئ مصمودية، ينطق بها أسافيو بكسر الفاء، لا جمع لها، ومن مادتها أسفو، معناها المشعل الذي يجمع على أسافو، والغالب على الظن أنه كان يوجد بمدينة آسفي في وقت ما مصباح (منار) يضيىء الشاطئ). وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى الأهمية التاريخية والحضارية التي تتميز بها مدينة آسفي قبل الإسلام، وهي تشييد منارات على الشواطئ لهداية السفن أثناء عودتها ليلا، كما أن الأهالي يشعلون الأضواء في تلك المنارات إعلاما بالهجوم واستعدادا له. هذه الفرضية التاريخية أكدها الفقيه الكانوني (آسفي لفظ بربري مأخوذ من قول البربر للضوء أسف بضم الفاء، فحرف في باستعمال الكسر على أن بعض البربر ينطقون به مكسورا).
وجاء في كتاب " المسند الصحيح في مآثر مولانا أبي الحسن " لابن مرزوق محمد التلمساني (1311-1379) الذي عاش في القرن الرابع عشر قوله " أنشأ المولى رضي الله عنه من المحارس والمناظر ما لم يعهد مثله في عصر من الأعصار، وحسبك أن مدينة آسفي وهي آخر المعمورة إلى بلد الجزائر .. إذا وقعت النار في أعلاها تتصل في الليلة الواحدة أو في بعض ليلة وذلك في مسافة تسير فيها القوافل نحوا من شهرين .. فأمنت السواحل في أيامه السعيدة ". وتعليقا على هذا النص، في صفحته بالفايسبوك، بتاريخ 14 غشت 2019، يرى مؤرخ آسفي الأستاذ ابراهيم كريدية أن " أي من هذه المحارس كانت وظيفته أنه متى رصد سفينة عدو في الأفق البحري كان يشعل النار على سطحه للتنبيه والاستعداد، فيتوالى إشعالها من محرس إلى آخر على طول الساحل الأطلسي والمتوسطي، وبذلك تشتعل النار على كل المحارس رغم طول المسافة، ويتم ذلك في وقت وجيز وقياسي، وهو ليلة واحدة أو في جزء من ليلة، مما يؤدي إلى استنفار المحارس جميعا وإلى أهبتها لمواجهة الخطر القادم من البحر ".
ويستنتج الأستاذ أحمد التوفيق أن " الروايتين معا يأخذان بالمنحى اللغوي في إجلاء مدلول اسم آسفي، ورغم اختلاف الكلمتين فقد كان في بنائهما ومدلولاتهما في واقع ماضي آسفي ما يبرر تداولهما على ألسنة الناس. فربط اسم آسفي بأسفو يأتي من واقع لا اختلاف بشأنه، مفاده أن المدينة الموجودة منذ أحقاب متطاولة كما ذكر ابن خلدون كانت مرفئا تجاريا مهما، وزاد أيضا من أهميتها أنه لم يكن وراء هذا الثغر العامر مدينة جامعة ولا محلة مسورة. ولا شك أن هذا الميناء بأهميته التجارية وبموقعه القصي المتطرف، استوجب من تجاره وعمارته اتخاذ إجراءات من الحيطة والاحتراس، ومن ذلك نصب مشاعل ومنائر، أي أسفو بلغة بربره من المصامدة، فكانوا يرتبون بالشواطئ حراسا، فإذا ظهرت قطعة في البحر يشغلون الأضواء في المنائر إعلاما بالهجوم والاستعداد له، كما كانوا بهذه المشاعل يرشدون السفن ليلا إلى المرسى. وعليه فإن إقامة المشاعل والمنائر كانت واقعا تاريخيا بمدينة آسفي يصح معها ربط أسفو باسم آسفي، وبالتالي إضفاء نوع من المصداقية العلمية على تداول الرواية القائلة بهذا الطرح. ونفس الشيء نصادفه عند ربط اسم آسفي بكلمة " أسيف " فله ما يبرره في الواقع التاريخي لآسفي، ذلك أن تأسيس هذه المدينة كان بأسفل مجرى واد الشعبة القادم من الشرق، ثم إن هذا الواد عرف بسيوله الجارفة المتعاقبة، إذ كان على مر العصور مصدر رعب وقلق السكان ".
الشريف الإدريسي ورحلة الفِتية المُغررين
ويربط الشريف الإدريسي (560ه/1165م) في كتابه المشهور " نزهة المشتاق في اختراق الآفاق " أصل تسمية مدينة آسفي بقصة ثمانية فتية سماهم بالمغررين، أي الإخوة المغامرين أو المخاطرين، تجمع بينهم قرابة العمومة، من مسلمي مدينة لشبونة LIBOA عاصمة البرتغال اليوم، خرجوا من ميناء اشبونة (لشبونة) بالبرتغال لاكتشاف مجاهل المحيط الأطلسي، ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه، وذلك أنهم اجتمعوا فأنشأوا مركبا حمَّالا وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر، ثم دخلوا البحر. وبعد أن واجهوا الكثير من أهوال البحر، وقعوا في أسر أمير إحدى الجزر الذي طوح بهم معصوبي العين على ساحل مجهول، ولما علموا من بعض سكانه الذين فكوا وثاقهم وتحلقوا حولهم مقدار المسافة البعيدة التي تفصلهم عن وطنهم وذويهم، صاح زعيمهم وا أسفي، فسمي هذا المكان منذئذ باسم آسفي. يقول الإدريسي (أصل تسمية المدينة هذه بآسفي يرجع إلى جماعة الفتية الذين غامروا بركوب بحر الظلمات بدافع الكشف والاستطلاع من مدينة اشبونة خلال القرن الرابع الهجري حيث انتهى بهم المطاف إلى بلاد البربر جنوب مراكش، فصاح رئيس البعثة وا أسفي، ومن ذلك أطلق على هذه المنطقة اسم آسفي).
هذه القصة مذكورة بنصها في نزهة المشتاق، كما يمكن الرجوع إليها في نشرة "دي خوي" أو في النشرة الإيطالية (opus géographicum ). وممن نقل القصة عن الإدريسي صاحب الروض المعطار.
إن هذه الرحلة الاستكشافية الأشد غرابة والأكثر شهرة، ظلت ذكرى محفوظة في ذاكرة لشبونة، قد تكون وقعت في زمن الأمويين في الأندلس أو زمن ملوك الطوائف، وربما في عصر المرابطين. وعلى كل حال فإن هؤلاء الفتية استطاعوا العودة إلى لشبونة، كما يؤخذ من سياق كلام الإدريسي، وحدثوا أهلها بأخبار رحلتهم، ولكن مواطنيهم لم يروا فيهم إلا شبابًا مخاطرين مغررين (أو مغربين، من الاتجاه إلى المغرب؟)، حتى عرف الدرب الذي كانوا يسكنونه بمدينة لشبونة بموضع بمقربة الحمَّة بدرب المغرَّرين.
وهذه القضية مرسلة من غير تاريخ، إلا أنه حيث كان الناس عربا واللفظ عربيا، فإن استيلاء العرب على لشبونة لأول الفتح الإسلامي للأندلس كان سنة 92 هجرية، وتخليهم عنها سنة 489 هجرية، فيكون خروجهم لاكتشاف ما وراء المحيط متراوحا بين هذه القرون الأربعة. وينبني على ذلك حيث كانت آسفي أقدم من هذا التاريخ بكثير أن يكون هذا الاسم جديدا لها ولها اسم آخر قديم، لكن يشكل عليه أن كل من ذكرها من المؤرخين والجغرافيين لم يذكرها إلا مقرونة بهذا الاسم (4).. والحقيقة أن كل من ذكر تاريخ بلد باسم جديد يكون من أهم أمره أن يذكر اسمه القديم والحال أنهم لم يذكروه، ويمكن الجواب بأنهم ما كتبوا الجديد إلا بعد مرور أزمنة انتسخ خلالها الاسم القديم ولم يبق معلوما (5).
الرواية العِبرية
الرواية العِبْرية تسعى إلى إثبات الأصل السامي لكلمة " أسفي "، وهي رواية طريفة وغير معروفة عند الكثيرين، وإن كنا نعتبرها أبعد ما يكون في تفسير مدلول اسم آسفي، فإنها مع ذلك تحفل بالعديد من الإشارات القوية الدالة على الوجود اليهودي الموغل في القدم بآسفي. ومؤداها أن آسفي اسم نُحِث من كلمة عِبْرية ورد ذكرها مفصلا عند أرمان أنطونا في دراسته المشهورة عن عبدة، كما ألمح إليها أحمد بوشرب في أطروحته عن الاستعمار البرتغالي بدكالة.
هذه الرواية تذكر أن اسم آسفي ينحدر من كلمة أسف بكسر السين وفتح الفاء العبرية، وعند تحقيق هذه العبارة وجدنا: 1_ فعل أسف (بفتح السين والفاء) ومعناه جمع وحشد. 2_ اسم أسف (بفتح السين وكسر الفاء) ومعناه الجماعة والجمعية والاجتماع والمجلس. ويدفعنا عنوان بحث للأستاذ شمعون ليفي إلى الاعتقاد بأن المقصود بالجماعة هي الطائفة اليهودية التي كانت تستوطن مدينة آسفي (6)، ويزيد من قوة هذا اعتقادنا ما جزم به أرمان أنطونة، حين أكد أن اليهود استوطنوا المدينة في الماضي السحيق، وأنهم في الأصل برابر متهودين (7)، وأن العقيدة اليهودية عمّرت بآسفي أكثر من أي مكان آخر بالمغرب، وأن هذه المدينة احتفظت على الدوام، بساكنة يهودية كانت في كل العصور كبيرة في العدد (8). بل إن الباحث الآسفي المعاصر تيمول، يذهب إلى القول بأن آسفي ظلت زمنا طويلا " مدينة يهودية "، وأن تحويل معظم أهلها إلى الإسلام تطلب عدة قرون من الدعوة المستمرة إلى الدين الجديد (9). وتذهب بعض القرائن إلى دعم خلاصات أنطونة وتيمول، ومنها أن بربر آسفي كانوا جزءا من كيان بورغواطة التي ظهرت في نهاية الربع الأول من القرن الثاني الهجري، وقد امتد سلطانها على بسائط تامسنا وريف البحر المحيط من سلا وأزمور وأنفا وآسفي، والذي يهمنا من هذه الدولة عقيدتها الغريبة، وقد تناولتها دراسات كثيرة، نختار منها أبحاث سلوش وغاستون ودوفران وإبراهيم حركات، فهي تجمع على أن ديانة بورغواطة يهودية في أصلها، وفي كثير من طقوسها (10).
روايات أخرى
وذكر فرانسوا بيرجي رواية ضعيفة مخالفة تماما لكل ما سبق، حيث زعم انتساب اسم آسفي إلى أحد أئمة الفينيقيين، مدعيا أن سكان مدينة صور الفينيقية أنشأوا بآسفي وكالة تجارية في القرن 12 قبل الميلاد، وأسكنوا فيها المهاجرين الكنعانيين الذين طردوا على يد الغزاة العبرانيين، وأطلقوا على هذه المدينة اسم أعظم سيد مقدس ببلد كنعان وهو آسف.
كما أورد المؤرخ عبد العزيز بنعبدالله رواية تقول إنه من المحتمل أن تكون هناك علاقة بين آسفي المغربية ومدينة أسيف التي توجد في الجنوب الشرقي لمدينة بغداد العراقية. وهي نفس العلاقة التي تجمع بين صناعة تقليدية للمدينتين تتمثل في صناعة الفخار والخزف، بنفس الأشكال الهندسية والاستعمالات اليومية المتداولة آنذاك.
الخلاصة:
آسفي مدينة ضاربة في القدم، أنشئت على وادي الشعبة، منبع الطين والخزف الذي اشتهرت به المدينة. ومنذ أقدم العصور، وقبل دخول الإسلام، اعتبرت المدينة ضمن المدن المقدسة المعروفة في العالم القديم. ولا يعرف بالضبط العصر الذي تأسست فيه آسفي، فهي قديمة قدم التاريخ نفسه. ولعل الأحفوريات التي اكتشفت بجبل ايغود شرق المدينة سنة 1962، والمتكونة من بقايا عظمية بشرية وحيوانية وأدوات مختلفة تفيد بأن الإنسان عمّر آسفي قبل خمسين ألف سنة. ولا غرو في ذلك، فالمدينة تضم مجموعة من المآثر التاريخية والقلاع التي تشهد على تاريخها العريق. وكل من تناول تاريخ آسفي من المؤرخين والباحثين، يقر بأن جذور وجودها تضرب عميقا في مجاهل التاريخ. وقد تولد عن ذلك تضارب كبير في الرأي حول أمور تتصل بتأسيس هذه المدينة، ومدلول اسمها والأصل الذي اشتق منه. ومع كل هذا التضارب فقد حظيت آسفي بأهمية بالغة، حتى أن اسمها ورد ضمن أمهات المعاجم التاريخية كمعجم البلدان لياقوت الحموي، وذكرها الرحالة المغربي الشهير بن بطوطة في مذكراته الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة.
هوامش:
* محمد بن أحمد الكانوني العبدي، آسفي وما إليه قديما وحديثا، ص 56، إعداد وإخراج علال ركوك ومحمد بالوز
* هامش ص 30 من كتاب جهة عبدة لأرمان انطونة. ترجمة علال ركوك ومحمد بن الشيخ
* محمد بن أحمد الكانوني العبدي، آسفي وما إليه قديما وحديثا، ص 58، إعداد وإخراج علال ركوك ومحمد بالوز
* نفسه ص 58
* نفسه ص 58
* شمعون ليفي، الجماعة اليهودية لمدينة آسفي، تاريخ إقليم آسفي، مرجع مذكور ص 175
* Armand Antona, P 26
* P 71
* Timoule, Le Maroc à travers les chroniques maritimes, seconde édition, tome 1 , 1989, P. 70
* إبراهيم كريدية، صفحات من تاريخ يهود آسفي، ص 21 و 22


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.