قال أبو محمد القاسم بن عبد البصري قدس الله روحه ونور ضريحه: "اعلم إن كنت معتقدا، وافهم إن كنت منتقدا أن العقائد كالقلائد، قلادة مقدارها يسير، وقلادة تساوي قناطير، وعقيدة ترفع في عليين، وعقيدة هي في قدمي معتقدها مقاطير تحبسه عن الخير وتبعثه في الشر...، ولابد لكل قلب في فؤاد من الانعكاف على شيء من الاعتقاد حقا كان أم باطلا، مستقيما كان أم عاطلا، لأن المكلف كلف تارة مقالا، وتارة فعالا، وتارة اعتقاد جنان، وتارة عملا بالأركان، وإن كان يلزم الجميع، ولا يسعه لشيء من ذلك يُضَيِّع يلزمه أن يأخذ من القول بوافيه، ومن العمل بصافيه، ومن الاعتقاد بشافيه، فيحتمي بالوافي من العز، وبالصافي من الكدر، وبالشافي من المرض، الذي قال عنه: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا}"[عقيدة أبو محمد القاسم بن عبد البصري].
الصحة في التعريف الوارد في دستور منظمة الصحة العالمية هي: "حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرّد انعدام المرض أو العجز"، والصحة النفسية جزء لا يتجزّأ من هذا التعريف. وتعرف الصحة النفسية بمفهومها الإيجابي بأنها: "حالة دائمة نسبياً، يكون فيها الفرد متوافقاً نفسياً (شخصياً وانفعالياً واجتماعياً أي مع نفسه ومع بيئته)، ويشعر بالسعادة مع نفسه، ومع الآخرين، ويكون قادراً على تحقيق ذاته واستغلال قدراته وإمكاناته إلى أقصى حد ممكن، ويكون قادرا على مواجهة مطالب الحياة، وتكون شخصيته متكاملة سويه، ويكون سلوكه عادياً، ويكون حسن الخلق بحيث يعيش في سلامة وسلام". ويعتمد هذا التعريف أن للشخصية أربعة جوانب أساسية هي: الجانب الجسمي، الجانب العقلي، الجانب الاجتماعي، الجانب الانفعالي، وحتى يكون الإنسان صحيحا نفسيا فلا بد من تكامل جميع هذه الجوانب في شخصيته. فهذا المنظور الإيجابي في تعريف الصحة النفسية، يُركز على السلوك الإنساني السوي، ومدى فاعلية الفرد، ومفهومه لذاته، وسر وجوده في الحياة، ويمثل هذا الاتجاه أنصار الاتجاه الإنساني والوجودي، وينظر هذا الاتجاه إلى الصحة النفسية على أنها تبدو في مجموعها شروطا ً تحيط بالوظائف النفسية التي تنطوي عليها الشخصية، وأن الصحة النفسية الكاملة مثلٌ أعلى نسعى كلنا نحوه، وقلما نصل إليه في كل ساعات حياتنا، وذلك لأن لدى كل منا مشكلات عاطفية متعددة "[1]. حقيقة إن الصحة النفسية الكاملة مثلٌ أعلى نسعى كلنا نحوه، لكن تختلف طرق هذا السعي بين الواحد منا والآخر، وبين أمة وأخرى، بين أمة عرفت سر وجودها في هذا الكون، وأخرى متخبطة حيرانة هائمة على وجهها. فنحن أمة الإسلام استجابة ودعوة، تكمن صحتنا النفسية في تحقيق صفة الخيرية التي وصفنا الله عز وجل بها، هذه الخيرية التي تنبني على الإيمان بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا و بالإسلام دينا، فيثمر هذا الإيمان الحلاوة التي يجدها الإنسان في قلبه، و الاطمئنان الروحي، والرضى عن النفس. فإذا نحن آمنَّا باللهِ عز وجل عِشْنَا حالةً اسمُها الصحةُ النفسيةُ، نفسٌ رضيةٌ، مطمئنةٌ، متفائلةٌ، متوازِنةٌ، هذه الصِّفاتُ الراقيةُ هي مِن ثمارِ الإيمانِ.[2] فأول مدارج اكتساب الصحة النفسية هو الاستقامة على منهج الله عز وجل الذي ارتضاه لنا، وهو الدين القيم، والصراط المستقيم، والحبل الممدود بين السماء والأرض الذي يحفظنا من الزيغ والضلال، استقامة في الاعتقاد بالجنان، واستقامة في العمل بالأركان، واستقامة في التخلق بمقامات الإحسان. وبهذه الاستقامة يجد الحلاوة الإيمانية التي يفتقدها؛ و"يشعرُ بمشاعرَ من السعادةِ لا توصفُ، وأنّ مشاعرَ الكآبةِ والضِّيقِ قد اختفَتْ إلى غيرِ رَجْعةٍ، وعندئذٍ يشعرُ أنّ في قلبهِ من الطمأنينةِ والسعادةِ ما لو وُزِّعَتْ على أهلِ بلدٍ لأسْعَدَتْهُم جميعاً...، فإذا أردْتَ نفساً صحيحةً متألّقةً عاليَةَ المعنوياتِ متفائلةً فعليك بالصُّلْحِ مع اللهِ، فإذا اصطلحْتَ معه صلُحَتْ حياتُك كلُّها، لهذا وَرَدَ عن الرسول عليه الصلاةُ والسلامُ: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا"، أيْ إذا اسْتَقَمْتُم فلن تُحصوا الخيراتِ التي تجنونها مِن استقامتِكم"[3]. وفي طريق الإنسان المسلم في استقامته لابد أن تعترضه الأشواك التي تمنعه من السير المستقيم، وتنغص عليه تلك الطمأنينة والسعادة، إنها شوكة النفس الأمارة بالسوء، فعليه مجاهدتها بالتزكية، وشوكة العدو الشيطان الرجيم، وشوكة هذا الرجيم ذات سنين هما الشبهة والشهوة، فهما سلاحاه يقاتل بهما عباد الله، لكن ليضع المؤمن نصب عينيه أنه بسلاحيه لا سبيل له على عباد الله المخلصين إلا من تبعه من الغاوين. وفي هذا السير المستقيم أيضا قد يقع المسلم في المعاصي ويتلبس بها، فيؤنبه ضميره ويجد نفسه غير راضية، وفي هذا يجد الشيطان مدخله في التيئيس من رحمة الله وغفرانه، فعليه أن يقلع عن الذنب، ويجدد التوبة، ويكثر من الاستغفار، ويعتقد في اسم الله التواب والغفار والغفار. فهذا الاعتقاد في أسماء الله الحسنى هو "سر مخزن الصحة النفسية الموفورة التى يتمتع بها أصحابها، وأية نفسية محرومة من هذه العقيدة لن تنتهى إلا بالأمراض أقساها وأعتاها"[4]. فالعقيدة: هي الضابط الأمين الذي يحكم التصرفات، ويوجه السلوك، ويتوقف على مدى انضباطها وإحكامها كل ما يصدر عن النفس من كلمات أو حركات، بل حتى الخلجات التى تساور القلب والمشاعر التي تعمل في جنبات النفس، والهواجس التي تمر في الخيال، هذه كلها تتوقف على هذا الجهاز الحساس. يقول الدكتور عبد الله عزام: "وباختصار: فالعقيدة هي دماغ التصرفات، فإذا تعطل جزء منها أحدث فسادا كبيرا في التصرفات، وانفراجا هائلا عن سوي الصراط. ولذا فقد عني القرآن الكريم ببناء العقيدة، فلا تكاد تخلو أية سورة -مكية كانت أو مدنية- من شد الإنسان بكليته إلى ربه، وربط كل تصرف بهذه العقيدة التي تمثل القاعدة الأساسية لهذا الدين الذي لا يقوم بدونها. وعلى هذا فإن كل الانحرافات التي نعانيها في سلوكنا -أفرادا أو جماعات- راجعة بكليتها إلى الانحراف في التصور العقدي، فالناس في هذه الأيام بحاجة إلى بناء العقيدة من جديد، وإلى تصحيح التصور الاعتقادي، فلا بد من إفراد الله -سبحانه- بالألوهية، ولا بد من أن تستقر عظمة الله عز وجل في الأعماق، وأن يعمر النفوس حبه، ولا مناص من أن تحيا القلوب وهي تستشعر هيبته وجلاله. ويقوم هذا الدين على: 1- حقيقة الألوهية. 2- حقيقة العبودية. 3- الصلة بين العبد وربه. هذه أمور ثلاثة لا بد من استقرارها في النفوس: معرفة الله وقدره، ومعرفة العبد وحده، والصلة بين الخالق والمخلوق.[5]
الهوامش: 1. أصول الصحة النفسية، أحمد عبد الخالق، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، (1993). 2. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة (1/ 54) 3. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة (1/ 205) 4. الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان، ترجمة: ظفر الدين خان، مراجعة وتقديم: د. عبد الصبور شاهين، الطبعة الأولى،(ص: 214). 5. العقيدة وأثرها في بناء الجيل، الدكتور عبد الله عزام، (ص: 10)