سفير عمان يثمن تمسك المغرب بالسلم    مهرجان الذاكرة المشتركة بالناظور يتوج أفلاما من المغرب وبولندا وأوروبا الغربية    توقيف "مولينكس" ونقله إلى طنجة للتحقيق في ملف مرتبط بمحتوى رقمي مثير للجدل    القافلة الجهوية تقديم آليات جديدة متاحة لرواد الأعمال وأصحاب المشاريع في الجهة    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    حوالي 756 ألف مستفيد من دعم مربي الماشية توصلوا بأزيد من 3 ملايير درهم    الحاجب يستقبل محطة جديدة لمعالجة المياه العادمة بجماعة أيت نعمان    إطلاق المنصة الوطنية لرصد وفيات الأمهات والمواليد الجدد لتعزيز الجودة والحكامة في المنظومة الصحية    متابعة الرابور "بوز فلو" في حالة اعتقال وإيداعه السجن المحلي لصفرو    بوريطة يتباحث بالرباط مع نظيره الغاني    ( الحب المر)... فيلم يكشف الوجه الخفي للنرجسية داخل الأسرة المغربية    تفكيك شبكة لترويج المخدرات بطنجة وتوقيف ستة من أفرادها    "الأحرار" يصادق على تصوره للحكم الذاتي تمهيداً لرفعه إلى الملك    تتويج أشرف حكيمي بجائزة أفضل لاعب إفريقي.. إشادة واسعة من قبل وسائل الإعلام الفرنسية    بوريطة يستقبل رئيس الجمعية الوطنية لجمهورية تنزانيا المتحدة    "الأحرار" يضع مقترحات الحكم الذاتي    نبيل باها: "اللاعبون مستعدون لمواجهة البرازيل والفوز بالمباراة"    ملف إسكوبار الصحراء .. النيابة العامة تكشف اختلالات خطيرة في العقود الموثقة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بأداء سلبي    الكاف يتجاهل المدرب محمد وهبي    في مداخلة له خلال الدرس الافتتاحي للجامعة الشعبية بمكناس .. وسيط المملكة: الإنصاف أعلى من القانون حين يُظلم المواطن    المغرب يترأس المجلس الدولي للزيتون    تحقيق إسباني يكشف استعمال النفوذ للحصول على صفقات في المغرب وخلفيات ذكر اسمي اعمارة ورباح    أجهزة قياس السكر المستمر بين الحياة والألم: نداء أسر الأطفال السكريين لإدماجها في التغطية الصحية    الحكومة تقر "تنظيم مهنة العدول"    بايتاس: 756 ألف مربي ماشية استفادوا من دعم بقيمة 3,17 مليار درهم            المغرب يحل ثالثا وفق مؤشر الأداء في مجال التغير المناخي (CCPI)    جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    الفنان المغربي إِلياه والنجم المصري محمد رمضان يجتمعان في أغنية جديدة    السكتيوي يعلن الجمعة لائحة الرديف    في الحاجة إلى فلسفة "لا"    ناسا تكشف عن صور جديدة للمذنب 3I/Atlas القادم من خارج النظام الشمسي    منظمة الصحة العالمية تحذر من الزيادة السريعة في استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية    الإنصاف أخيرا لأشرف حكيمي..    تدشين غرفة التجارة المغربية بإيطاليا في روما    غوغل تطلق أداة جديدة للبحث العلمي    وزارة الاقتصاد والمالية تصدر ميزانية المواطن لسنة 2026    مناورات مشتركة بين قوات المارينز الأميركية ونظيرتها المغربية تختتم في الحسيمة    أمريكا تقدم "خطة السلام" في أوكرانيا    منتخبات ‬وفرق ‬وطنية ‬تواصل ‬التألق ‬وتخطيط ‬متواصل ‬يجعل ‬من ‬كرة ‬القدم ‬رافعة ‬تنموية ‬كبيرة    مونديال 2026.. جزيرة كوراساو الضيف المفاجأة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    أوكسفام: "ثروات الأثرياء" في ارتفاع    كأس ديفيس: المنتخب الايطالي يتأهل لنصف النهاية على حساب نظيره النمساوي    منظمة الصحة تحتاج إلى مليار دولار    معمار النص... نص المعمار    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يعلن عن تشكيلة لجنة التحكيم    لوحة لغوستاف كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يباع في مزاد على الإطلاق    مهرجان الناظور للسينما والذاكرة المشتركة يخلد اسم نور الدين الصايل    الأكاديمية الفرنسية تمنح جائزة أفضل سيرة أدبية لعام 2025 إلى الباحث المغربي مهدي أغويركات لكتابه عن ابن خلدون    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    ارتفاع معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال والمراهقين بواقع الضعف خلال العقدين الماضيين    أطباء يوصون بتقليل "شد الجلد" بعد الجراحة    الإنعاش الميداني يجمع أطباء عسكريين‬    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجن لا يسكن الأبدان .. وهكذا أرى علاقته بالإنسان (2)
نشر في العمق المغربي يوم 26 - 11 - 2016

هل يوجد في القرآن ما يثبت أن الجن يتلبس بجسد الإنسان؟
ضمن المقالة الأولى من هذه السلسلة، وفي معرض حديثي عن الأسباب والدوافع وراء الكتابة في موضوع الجن وعلاقته بالإنسان، قلت ما يلي: "إن انتشار الشعوذة بشكل فظيع في مجتمعاتنا واعتماد الكثيرين منا -مع الأسف- طرقا ووسائل غير علمية ولا صحية للعلاج في وقت يشهد فيه الطب بشتى تخصصاته تقدما باهرا، له علاقة بتصورات الناس الخاطئة حول الجن وعلاقتهم بالإنسان وما مدى تأثيرهم في حياته. وإن أي جهد من أجل تصحيح هذه الصورة ووضع العلاقة بين الجن والإنس في إطارها الصحيح، من شأنه أن يساهم في انخفاض ظاهرة الشعوذة والخرافات ليقبل الناس على الوسائل الطبية العلمية ويعتمدوها في تشخيص وعلاج الظواهر والأعراض الجسدية والنفسية والاجتماعية".
فمن التصورات الخاطئة لدى الكثير من المسلمين حول الجن وعلاقته بالإنسان، في نظري طبعا، هو اعتقاد أكثرية المسلمين أن الجن يمكن أن يسكن جسد الإنسان. هذا التصور ساهم في انتشار ظاهرة ما يسمى بالمسّ. وأصبحت أعداد الذين يؤمنون بأنهم مصابون بمس الجن لا تعدّ ولا تحصى، إذ لا يكاد يخلو بيت من بيوتنا من حالة مسّ أو ربما عدّة حالات! وأصبحت الكثير من الأسر إذا اشتكى منهم أحد يعرضونه على الشيخ الراقي أولا ليتأكد من خلو جسده من الجن، قبل عرضه على الطبيب! فهل هذا التصور صحيح؟ وهل يمكن للجن فعلا أن يسكن جسد الإنسان؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه من خلال هذه المقالات إن شاء الله.
دعوني أمهد للموضوع في البداية بسؤال مهم: نحن الآن مختلفون حول هذا الأمر، وأعني دخول الجن جسد الإنسان. كثيرون يرون ذلك فعلا وآخرون -وأنا منهم- ينكرون. السؤال الذي أريد أن أطرحه هو: من الذي عليه أن يأتي بالأدلة أولا؟ هل المثبتون أم المنكرون؟ إن الذي عليه أن يأتي بالأدلة ليقنع بها الآخرين هم المثبتون. لماذا أقول ذلك؟ لأن الإيمان بالجن وكل ما يتعلق بحياتهم وصفاتهم وأفعالهم من الغيبيات. والأصل في كل ما هو غيب التوقف حتى يأتي دليل بالإثبات. فنحن نؤمن بوجود الجن مثلا، لأن الله أثبت ذلك في القرآن. ونؤمن بأن الشيطان من الجن وبأنه يوسوس في صدور الناس. كما نؤمن كذلك بأن من الجن مؤمنين وكفارا وأبرارا وفجارا... وغيرها من الحقائق التي تتعلق بعالم الجن، إنما نؤمن بها لأن الوحي أثبتها. ولا يجوز إثبات شيء من الغيبيات أو التفصيل فيه دون استناد إلى الوحي. وإثبات أن الجن يدخل جسد الإنسان أيضا من الغيب الذي لا يمكن أن يثبت إلا عن طريق الوحي سواء كان هذا الوحي قرآنا أو وحيا بالمعنى، أي: سنة. ولا بد كذلك من استيفاء هذه الأدلة التي يراد الاستدلال بها الشروط التي وضعها المتخصصون، كالصحة في السند فيما يخص السنة، والوضوح في الدلالة فيما يخص القرآن والسنة معا.
تنقسم أدلة المثبتين إلى قسمين: أدلة شرعية مستوحاة من فهم معين لبعض الآيات والأحاديث ومن مواقف بعض السلف. وأدلة تجريبية مستوحاة من التجارب والوقائع التي تثبت (عندهم) وبما لا يدع مجالا للشك أن الجن يدخل جسد الإنسان.
خلال هذه المقالة وتجنبا للطّول المستفيض، سأحاول مناقشة آية من كتاب الله تعالى فقط. هذه الآية تعتبر أهم وأقوى دليل يعتمد عليه المثبتون، إضافة إلى بعض الأحاديث التي سأوردها وأناقشها في مقالات قادمة إن شاء الله. والآية هي قول الله تعالى: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ" - البقرة:275.
الغريب أن البعض يعتبر الآية الكريمة قطعية في الدلالة وأنها تثبت دخول الجن جسد الإنسان بشكل قطعي وصريح لا يجوز التشكيك فيه أبدا! وهذا هو الخطير في الأمر كما بينت في المقالة الأولى، أن يتحول الظني إلى قطعي والاجتهادي إلى توقيفي. ومن هنا نفهم المواقف المتشنجة والحادة لبعض هؤلاء الذين يثبتون. فالمخالف في نظرهم مخالف فيما لا يجوز الخلاف فيه لأنهم اعتبروا الآية قطعية الدلالة ومن قال بغير قولهم فهو إذا ضال آثم!
لست أدري في الحقيقة على أي أساس علمي تم اعتبار الآية قطعية في الدلالة! فقطعي الدلالة من النصوص كما عرفه الأصوليون هو ما دلَّ على معنى متعيَّن فهمه منه ولا يحتمل تأويلاً ولا مجال لفهم معنى غيره منه. وذلك بعكس الظني الذي يدل على معنى ولكن يحتمل أن يؤول ويُصرف عن هذا المعنى ويراد منه معنى غيره. وباعتبار هذا التعريف فإن الآية الكريمة لا يمكن أن تكون قطعية الدلالة في الموضوع الذي نحن بصدده، لأن ألفاظها تحتمل أكثر من معنى.
ولنأخذ على سبيل المثال مسألة المس التي ذكرها الله هنا والتي يرى هؤلاء أنها تعني دخول الجن جسد الإنسان وتلبسه به، لنقف على كلمتي "مس الشيطان" اللتين وردتا في الآية. فإذا كانت الآية قطعية الدلالة فإن ذلك يعني أن هاتين الكلمين وهاته الجملة لا يمكن أن تعني شيئا آخر غير الذي يقصده هؤلاء. وهذا غير صحيح أبدا، بدليل أن القرآن في موضع آخر استعمل نفس اللفظين ونفس الجملة لإفادة معنى آخر غير تلبس الجني ببدن الإنسان. يقول الله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) ص:41. فإذا كانت الآية قطعية الدلالة ولا يفهم من مس الشيطان غير التلبس والدخول في الجسد، فمعنى ذلك أن سيدنا أيوب عليه السلام كان أيضا مصابا بالمس وكان الشيطان متلبسا بجسده! وهذا طبعا لا يقول به عاقل. فالنتيجة الحتمية أن مس الشيطان لا يعني بالضرورة التلبس والدخول في الجسد، كما يقول الذين يعتبرون الآية نصا قطعيا في المسألة.
مما يؤكد أيضا أن الآية الكريمة ليست صريحة أبدا في إثبات دخول الجن جسد الإنسان، دلالة ألفاظها كل لفظ على حدة. فكلمة المس الواردة في الآية تحتمل أكثر من معنى غير الدخول في الجسد كما بينت. وكلمة الشيطان الواردة هنا لنا معها أيضا وقفة. فالذين يثبتون دخول الجن جسد الإنسان لا يحصرون ذلك في الشياطين من الجن فقط، وإنما يقولون إن المؤمنين من الجن أيضا قد يتلبسون بجسد الآدمي. ولذلك تجد الراقي في الكثر من الأحيان يسأل "الجن الناطق على لسان المصروع" عن ديانته وما إن كان مسلما أم لا.
وحسب الكثير من التجارب فإن هذا الجني الساكن قد يكون مسلما. والسؤال هو: ما دامت مسألة دخول الجن جسد الإنسان ليست خاصة بالشياطين من الجن فقط، فلماذا خص الله الشياطين هنا بالذكر ولم يقل تعالى مثلا: لا يقمومن إلا كما يقوم الذي "يتخبطه الجن من المس"، بدل يتخبطه الشيطان من المس؟ ربما يجيب البعض على هذا السؤال بالتالي: لقد تم استعمال لفظ الشيطان وإن كان المقصود جنس الجن، لأن حالات المس تحصل في الغالب من الشياطين لذلك استعمل لفظ الشيطان على جهة التغليب! وهنا أقول: إن كان المقصود بلفظ الشيطان هنا فقط الشياطين من الجن غير المؤمنين منهم، فقد سقط الاستدلال بالآية. لأن المس يحصل من الشياطين ومن غيرهم. وما دام الله خص الشياطين فلا بد أن المقصود بالمس شيء آخر غير التلبس بالبدن الذي يحصل من الشياطين ومن غيرهم. وإن كان المقصود عموم الجن وإنما استعمل لفظ الشيطان على جهة التغليب كما يقول البعض، فقد سقطت قطعية الدلالة عن الآية الكريمة، لأن لفظ الشيطان الوارد في الآية أصبح محتملا لأكثر من معنى. ومن شروط القطعي أن لا يفيد إلا معنى واحدا!
من الألفاظ الواردة في الآية والتي تنفي قطعية دلالتها في إثبات الظاهرة كذلك: لفظا القيام والتخبط، حيث يقول الله تعلى: "لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان"، فهل المراد بلفظ القيام هنا: القيام في الدنيا أم القيام يوم البعث؟ وهل المراد قيام معنوي أي: قيام النفس والروح؟ أم قيام حسي أي: قيام الجسد؟ نفس الشيء بالنسبة للفظ التخبط، فإذا كان المراد من لفظ التخبط هو الاهتزاز والعشوائية والاضطراب في الحركة كما يقول اللغويون، فيبقى السؤال: عن أي تخبط يتحدث الله تعالى؟ هل عن تخبط في حركة الجسد وأعضائه كما يحدث لمرضى الصرع الذين قد يسقطون أرضا وتضطرب حركات أجسامهم بشكل لا إرادي؟ أم عن تخبط في الفكر والعقل تقل معه قدرات الإنسان العقلية والفكرية ويفقد على إثره تركيزه وربما وعيه أضا؟ أم عن تخبط يصيب النفس البشرية نتيجة استسلامها لغواية الشيطان، فيفقد الشخص صوابه ولا يعود يميز على إثر هذا التخبط بين ضلال وهداية ولا بين حق وباطل مع حضور كامل القوى العقلية والجسدية؟ تماما كما وصف الله بعض الناس في القرآن الكريم حيث قال جل شانه: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) الأعراف: 146. إن الذي أريد أن أصل إليه هو أن التخبط المشار إليه في الآية والناتج عن مس الشيطان ليس بالضرورة ذلك التخبط الذي يصيب المصروع كما يدعي الذين يرون أن الآية نص قطعي في إثبات ظاهرة المس. كما أن المس المشار إليه أيضا ليس بالضرورة ذلك المس الحسي الذي يصيب الجسد، وإنما قد يراد بالمس مس الوسوسة الذي يؤثر على النفس ولا علاقة له بالجسد إطلاقا. ولتأكيد ما أقول أورد آية أخرى من كتاب الله عز وجل تطرقت أيضا لموضوع استسلام الإنسان لكيد الشيطان، لكن بألفاظ مختلفة عن ألفاظ الآية التي ذكر فيها المس. يقول الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) الأعراف: 175-176. ففي هاتين الآيتين يبين الله تعالى أن اتباع الشيطان والانسياق وراء غوايته أدى بالإنسان إلى الخلود إلى الأرض، والذي يعني اللصوق بها ولزومها. ولا يقول عاقل بأن المقصود بالخلود هنا خلود مادي حسي يعني خلود جسد الإنسان إلى لأرض والتصاقه بها! إن المقصود بالخلود إلى الأرض هنا انحدار النفس والانسياق وراء شهواتها وأهوائها. ولتأكيد هذا المعنى، عطف الله تعالى في الآية اتباع الهوى على الخلود إلى الأرض. وذكر الله في الآيتين كذلك لفظ الرفع حيث قال تعالى: "ولو شئنا لرفعناه بها" ولا يقول عاقل أيضا إن الرفع هنا رفع مادي أي إن اتباع الآيات والالتزام بها يرفع جسد صاحبه! إن الرفع المقصود هنا هو رفع ضد الخلود المذكود سابقا، وهو سمو الروح والنفس بالإيمان وبما صلح من الأعمال.
وخلاصة ما أفهمه من الآية الكريمة (والله أعلى وأعلم) هو التالي: إن المقصود بالمس المذكور في الأية الأولى هو مس الوسوة والغواية. وإن المقصود بالتخبط الناتج عن هذا المس هو ما أشار إليه الله تعالى في الآية الأخرى بقوله: (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا) وهو أيضا ما أشار إليه جل شأنه في الآية الأخيرة بقوله تعالى: (أخلد إلى الأرض) فالتخبط تخبط في النفس والبصيرة وفي تعاملها مع هداية الله. وعلى ضوء هذا نفهم أيضا معنى القيام المذكور في الآية (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) فالقيام هنا لا يختلف عن الرفع الذي ذكره الله في الآية الآخيرة، أي: أن أكل الربا والقول بأنه مثل البيع دليل على تخبط الإنسان وخلوده إلى الأرض كحال من استسلم للشيطان ووسوسته، ولا يقوم آكل الربا القائل إنها مثل البيع من هذه السقطة الفظيعة إلأ كما يقوم من استسلم لوسوسة الشيطان. فكلاهما اضطربت رؤيتهما للحق والصواب. أحدهما يقول إنما البيع مثل الربا لأنه قد يكون أعماه حب المال، والآخر إن ير سبيل الرشد لا يتخذه سبيلا وإن ير سبيل الغي يتخذه سبيلا لأنه أعماه اتباع الشيطان.
ومما يؤكد هذا المفهوم، أن الله تعالى ضرب نفس المثل في سورة أخرى من سور القرآن الكريم للمرتدين عن الدين وشبههم بمن أضلته الشياطين وأعمته عن الحقيقة وأبعدته عن الهداية فقال تعالى: (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام:71. فلفظ استهوته هنا معناه أضلته والحيرة هي التخبط. وهما نفس المعنيين الواردين في الآية محور النقاش.
إضافة إلى كل ما سبق، فهناك أمر آخر استوقفني، له علاقة بالمراد بمس الشيطان الوارد في الآية. إن الآية الكريمة وردت في سياق التحذير من أكل الربا، وأكل الربا كما نعلم كبيرة من أكبر الذنوب في الإسلام. ويكفي في خطورة الربا أن الله تعالى قال لمن لمن ينتهوا عن أكله: (فاذنوا بحرب من الله ورسوله). هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الصرع أو المس الذي شبه الله آكل الربا بالمصاب به (والذي يرى البعض أن الآية الكريمة تعنيه وتثبته) هذا المس، الإصابة به ليست معصية ولا ذنبا. فالمس كما ينظر إليه المؤمنون به هو ابتلاء ومرض قد يكون المصاب به مؤمنا مأجورا خاصة إذا صبر واحتسب، كحالة المرأة التي كانت تصرع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها إن لها الجنة إن صبرت على صرعها. السؤال الذي أريد أن أطرحه على الذين يفسرون المس في الآية على أنه التلبس بالجسد هو: هل من المعقول أن يشبه الله تعالى مرتكب معصية من أكبر الكبائر بعبد مصاب مبتلى قد يكون برّا مؤمنا؟ هل من المعقول أن يشبه الله أكل الربا الذي قد يدخل صاحبه النار بالصرع الذي قد يدخل صاحبه الجنة كما في حالة المرأة المذكورة قصتها في الصحيحين؟ لكم واسع النظر!
في الختام وبناء على ما سبق أقول: إن الآية الكريمة (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) التي وقفت عندها من خلال هذه المقالة هي الدليل الوحيد من القرآن الذي يستند إليه المثبتون، وهي بالنسبة إليهم أهم دليل، كما ذكرت. وقد بينت بما يسر الله من حجج وبراهين أن الآية ليست دليلا في إثبات المس الذي هو تلبس الجن ببدن الإنسان. وللقارئ الكريم في الأخير الحق في الاقتناع بما كتبت أو رفضه.
في المقالة القادمة سأحاول إن شاء الله مناقشة الأحاديث النبوية التي يعتبرها المثبتون أدلة إلى جانب الآية الكريمة. أستودعكم الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.