الحكومة تراجع مدونة الشغل و تتجه نحو التأطير القانوني للعمل عن بعد    صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء تقيم بباكو حفل شاي على شرف شخصيات نسائية أذربيجانية من عالم الثقافة والفنون    بعد عام .. "الاستقلال" يترقب اختيار بركة الأربعة المبشرين باللجنة التنفيذية    البرلمان يناقش رئيس الحكومة حول إصلاح وتطوير المنظومة التعليمية    ترامب: الاتفاق التجاري مع لندن شامل    أشرف حكيمي يدوّن اسمه في التاريخ ويصبح المدافع الأكثر تأثيرًا هجوميًا بدوري الأبطال    محكمة الاستئناف بالرباط تُخفض عقوبة النقيب محمد زيان    امطار رعدية مرتقبة بمنطقة الريف والواجهة المتوسطية    مصرع شخص في حادثة سير بين مراكش وورزازات    مجلس عمالة طنجة أصيلة يعقد دورة استثنائية ويصادق على منح دعم لاتحاد طنجة ب1.4 مليارا    إيقاف شخصين يشتبه ارتباطهما بشبكة تنشط في الاتجار الدولي للأقراص المهلوسة وحجز 1170 قرص طبي مخدر    بوريطة: الملك محمد السادس يعتبر الفضاء الإفريقي الأطلسي رافعة للتنمية والاستقرار    الدخان الأسود يتصاعد من الفاتيكان.. الكرادلة لم يتوصلوا لاختيار البابا الجديد    توقعات بإنتاج 4800 طن من الورد العطري هذا الموسم    المملكة المتحدة تجدد تأكيد التزامها بتعميق الشراكة مع المغرب    أبريل 2025 ثاني أكثر الشهور حرارة عالميا    وداديون يحتفون بحلول الذكرى ال88 لتأسيس النادي    "كان" الشباب... المنتخب المغربي ينتظر وصيف المجموعة الأولى لمواجهته في ربع النهائي    منصات المخزون والاحتياطات الأولية.. بنيات جهوية موجهة للنشر السريع للإغاثة في حال وقوع كوارث    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    أداء إيجابي في تداولات بورصة البيضاء    مهندس سابق ب"غوغل": غزة تشهد أول "إبادة جماعية مدعومة بالذكاء الاصطناعي"    باكستان تعلن إسقاطها "25 طائرة مسيرة إسرائيلية الصنع" أطلقتها الهند    ارتفاع أسعار الذهب بعد تحذير المركزي الأمريكي من الضبابية الاقتصادية    تعزيزا للسيولة.. بورصة الدار البيضاء تستعد لإطلاق سوق جديدة للمشتقات المالية    محاكمة ناشطيْن من "حراك الماء" بفجيج    لجنة: زيادة مرتقبة للأطباء الداخليين    السيد ماهر مقابلة نموذج رياضي مشرف للناشطين في المجال الإنساني    الذكرى ال22 لميلاد ولي العهد الأمير مولاي الحسن: مناسبة لتجديد آصرة التلاحم المكين بين العرش والشعب    الأميرة للا حسناء تزور بباكو المؤسسة التعليمية 'المجمع التربوي 132–134'    ديكلان رايس بعد خسارة آرسنال ضد باريس سان جيرمان: "بذلنا قصارى جهدنا.. وسنعود أقوى"    كيوسك الخميس | خارطة طريق لإحداث 76 ألف منصب شغل    ماكرون يستقبل الشرع ويسعى لإنهاء العقوبات الأوروبية على سوريا    صادرات المغرب من الأفوكادو تثير قلق المزارعين الإسبان ومطالب بتدخل الاتحاد الأوروبي تلوح في الأفق    فنانون مغاربة يباركون للأمير مولاي الحسن عيد ميلاده ال22    الغربة والذياب الجائعة: بين المتوسط والشراسة    بطولة انجلترا: الإصابة تبعد ماديسون عن توتنهام حتى نهاية الموسم    13 قتيلا في الهند جراء قصف باكستاني    إسرائيل تهدد طهران ب "نموذج غزة"    الوداد يسخر الأموال للإطاحة بالجيش    سان جيرمان يقصي أرسنال ويمر لنهائي رابطة الأبطال    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    إحباط محاولة جديدة للهجرة السرية على سواحل إقليم الجديدة    منتدى التعاون الصيني الإفريقي: كيف أرسى أسس شراكة استراتيجية؟    ارتفاع أسهم شركة "تشنغدو" الصينية بعد تفوق مقاتلاتها في اشتباك جوي بين باكستان والهند    مكناس تبدأ في بناء محطة قطار حديثة بتكلفة 177 مليون درهم    استهلك المخدرات داخل سيارتك ولن تُعاقبك الشرطة.. قرار رسمي يشعل الجدل في إسبانيا    باكو.. الأميرة للا حسناء تزور المؤسسة التعليمية "المجمع التربوي 132–134"    دراسة علمية تكشف قدرة التين المغربي على الوقاية من السرطان وأمراض القلب    ديزي دروس يكتسح "الطوندونس" المغربي بآخر أعماله الفنية    لأول مرة في مليلية.. فيلم ناطق بالريفية يُعرض في مهرجان سينمائي رسمي    من المليار إلى المليون .. لمجرد يتراجع    تشتت الانتباه لدى الأطفال…يستوجب وعيا وتشخيصا مبكرا    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حملة مقاطعة البضائع الإستهلاكية.. الجيل الجديد من الحركات الإحتجاجية
نشر في العمق المغربي يوم 09 - 05 - 2018

المقاطعة هي سلاح للنضال في إطار اقتصاد يتمحور حول الاستهلاك، لقد ولى الزمن الذي كان فيه الإنتاج هو محور الاقتصاد، و الذي كان فيه المنتج هو الذي يحدد أسعار المنتوجات نظرا لقلة العرض الذي يطرحه في السوق، مقابل الطلب الكبير و المتزايد على المنتوج. فمع التطور الصناعي و التكنولوجي الهائل الذي عرفه العالم صار الاستهلاك هو المتحكم في الاقتصاد، بحكم حجم العرض الكبير للمنتوجات في السوق الذي تجاوز حجم الطلب بشكل كبير، و إذا كان الإضراب عن العمل في المقاولة هو الآلية الفعالة في الاحتجاج خلال مرحلة تحكم الإنتاج في الاقتصاد، فإن المقاطعة هي الوسيلة الفعالة في الاحتجاج، خلال هذه المرحلة التي صار فيها الاستهلاك هو المتحكم و الموجه للاقتصاد، و لذا فقد صارت النقابات كمؤسسة مدنية لتأطير الإحتجاج غير كافية إن لم نقل متجاوزة، لصالح جمعيات حماية المستهلك.
أسلوب نضالي جديد في سياق اقتصادي و اجتماعي جديد:
و في المغرب، بعدما استطاعت الدولة، على مدى ستة عقود من الزمن، أن تقضي، إما منعا أو قمعا أو تمييعا أو تضييقا، على كل الوسائل و المؤسسات المدنية و السياسية التي أفرزها المجتمع، من أحزاب و نقابات و هيئات حقوقية و ثقافية و جمعيات حماية المستهلك و صحافة مستقلة، حيث لم تترك للمواطن المغربي أي مؤسسة مدنية مستلقة للإحتماء بها إلا و تمّ إفسادها و تمييعها، بما يُغْدقُ عليها من ريع و امتيازات ودعم، أو منعها بكل بالحيل القانونية و المحاكمات، أو قمعها بالعصا الغليظة، حتى صار المواطن المغربي أعزلا بدون وسائل دفاع، مجردّا من كل وسائل الحماية الإجتماعية المدنية، حيث تُرِكَ وجها لوجه مع اللوبيات الاقتصادية المحمية سياسيا، تطارده و تنغص عليه معيشته بالغلاء الفاحش و الضرائب الثقيلة.
و بعدما كانت اللوبيات الاقتصادية، المسيطرة على كل مصادر الثروة بالمغرب و المحتكرة لكل موارده الاقتصادية، تتوارى خلف الهيئات السياسية التي شكلتها على شكل أحزاب إدارية، و التي كانت تشارك بها بطريقة غير مباشرة في كل الحكومات المتعاقبة بالمغرب منذ الاستقلال، خرجت هذه اللوبيات حاليا إلى العلن، و بوجه مكشوف، تريد التحكم المباشر في القرار السياسي الحكومي، فدخلت بأشخاصها إلى الحكومة عبر بوابة "التكنوقراط"، فارضة سيطرتها على أهم الوزارات الحيوية، و تتخذ كل القرارات التي لا تخدم إلا مصالحها الخاصة، ضاربة عرض الحائط بمصالح الأغلبية الساحقة من الشعب، فانتقلت إلى سلب جيوب المواطنين بالأسعار الحارقة للمواد الاستهلاكية الأساسية، بعد ما استنزفت و طيلة عقود من الزمن كل مواردهم الإقتصادية. و لم يعد يملك المواطن المستهلك سوى مفاتح بطنه و أزرار جيبه، الذي تختلسه شركات البورجوازية الرّثة، التي تستغل حاجته لمواد أساسية في المعيشة لنهب جيبه، إلى أن اهتدى إلى المقاومة الإجابية، بعدما استنفذ كل أشكال المقاومة السلبية( اللامبالاة – العزوف ..)، و في الوقت الذي كانت فيه البطالة مستفحلة و الأجور جامدة، ابتكر المستهلكون المغاربة تحت ضغط الحاجة، مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي و انتشارها الواسع، أنجع وسيلة و أرقى أداة لمواجهة هذا الظلم الاقتصادي و الجور الإجتماعي، وسيلة لا يملك أحد القوة على إجبارهم على عدم استعمالها، لأنها من صميم حقوقهم الطبيعية و نوع من المقاومة الإجابية، ألا و هي مقاطعة منتجات شركات اللوبيات الاقتصادية و سلع الرأسمالية الريعية بعدم اقتناءها و لو كلفهم ذلك الصوم و الجوع و العطش.
و عليه فالمغاربة لن ينتظروا مستقبلا لا النقابات و لا الأحزاب السياسية، و لن يحتاجوا إليها كي تتسول من الحكومة و الباطرونا حوارا اجتماعيا سيزيفيا يخرج بزيادات هزيلة و مضحكة في الأجور، فتكفي الدعوة لمقاطعة ثلاث سلع أساسية لمدة شهر أو شهرين لتسجد الباطرونا قبل أن تركع الحكومة، و يتم فرض و تخفيظ الأسعار، و يتحقق الهدف الذي يمكن أن تطالب به النقابات لمدة سنوات و تدخل من أجله في الإضرابات و الاحتجاجات، في ظرف شهر أو شهرين من المقاطعة الكاملة المنظمة الواعية.
لقد كان بالإمكان أن يكون تحرير الأسعار و رفع دعم الدولة عن المواد الاستهلاكية الأساسية في صالح المستهلك المغربي و في صالح ميزانية الدّولة، و في صالح الاقتصاد المغربي، لو فعلا تَوفَّرت شروط سوق ليبيرالية تنافسية، لان تحرير الأسعار في النهاية لا يعني سوى نزع ثدي المال العام من فم الكارطيلات الريعية، التي ألفت أن تمتص أموال المغاربة من صندوق المقاصة مباشرة، أي من ميزانية الدولة و المال العالم، و بعد تحرير الأسعار من طرف حكومة بنكيران و رَفْع الدعم عنها، و هذه خطوة إصلاحية مهمة، و تمّ إعداد القوانين المؤطرة لمجلس المنافسة الذي كان من المفروض أن يقوم بمهمة دركي السوق، و الذي لم يتم تفعيله، و استغلت شركات الريع التجاري تجميد إخراج هذا المجلس في صيغته الدستورية الجديدة إلى حيز الوجود، فانتقلت لامتصاص ما فقدته من أموال الريع بإصلاح صندوق المقاصة الى امتصاصه من جيوب المواطنين المستهلكين مباشرة برفع الأسعار و حصحصة السوق فيما بينها، و هذا ما رفضه المستهلكون المغاربة فأطلقوا حملة المقاطعة بشكل منظم و مركز على الشركات التي تحتكر السوق و تحدد أسعاره في كل قطاع.
و إذا كانت المقاطعة تعني الإمساك عن الشيء بعد استنفاد كل الطرق و الوسائل للوصول إليه و الحصول عليه، فإنها سلاح المعدمين و المقهورين. إنّها أسلوب نضالي راقي. و مقاطعة المنتجات بعدم اقتناءها و الإمساك عن استهلاكها في الدّول غير الديموقراطية هي سلاح من تم تجريده من كل وسائل الدفاع المدني عن نفسه، لذا يجب النظر إليها كبداية فعل تراكمي و تمرين نضالي بيداغوجي له ما بعده، أسلوب نضالي جديد انطلق من العالم الافتراضي، لم يألفه الرأسمالي الريعي في المغرب الذي لا ينظر إلى المستهلكين المغاربة سوى كبقر حلوب، يحلبه بعد جلبه بالإشهارات الرخيصة.
آليات نضالية جديدة:
المقاطعة سلوك نضالي راقي و جديد ، لم ينطلق من مقرات النقابات و الأحزاب السياسية، و لا من مقرات جمعيات حماية المستهلك، و غير مرتبطة بوسائل الإعلام المعروفة. و لم ينتظر قرارات المكاتب السياسية و التنفيذية، و غير معتاد حتى عند الكثير من النقابيين و السياسيين، و ممن يَعْتَبِرونَ أنفسهم من أرباب النضال، و من أساتذة التنظير للنضال، و من سدنة السفسطة السياسية، الذين لازالوا حبيسي النظرة التقليدية- لما قبل الأنترنيت- للنضال و للأساليب الإحتجاجية، و لذلك تراهم تائهين، لا يدرون ما يفعلون، من قوة المفاجأة، فصاروا يصرخون في وجه الحملة منشغلين بالكشف عمن أطلقها و عن أهدافها، و مهمومين بمعرفة المستفيد المحتمل منها سياسيا، أكثر من اهتمامهم بما سيستفيده فقراء المغرب من نجاح الحملة، بتخفيظ الأسعار و من الجودة المنتوجات، و مركّزين على التدقيق في هوية المنخرطين في الحملة أكثر من التفاتهم إلى ما ستخسره الرأسمالية الريعية في هذه الحملة، لذلك اصطفّ العديد منهم إلى جانب هذه الأخيرة في مواجهة الحملة.
و قد أثارت حملة المقاطعة هذه في بداية انطلاقها الكثير من الشكوك، و تبادل الاتهامات بين الأطراف السياسية و التيارات الإيديولوجية حول من كان وراء إطلاقها، على اعتبار أنها أسلوب نضالي جديد غير مألوف، فاجأ جميع القوى السياسية و الإيديولوجية التقليدية المعروفة في الساحة السياسية و الإيديولوجية بالمغرب، و التي تعوّدت على الصّيغ النضالية التقليدية "الواقعية" و آلياتها التعبوية، التي تقوم على تشكيل لجن تنسيقية و تعبوية، و على عقد اجتماعات تحضيرية و توزيع للمنشورات و البلاغات، و على تحديد لمواعد الانطلاق و فضاءاته، مما يجعل الهوية السياسية و الشخصية للمسؤولين على هذه الصيغ النضالية معروفة، فإن حملة المقاطعة هذه، كأسلوب نضالي جديد خرج من العالم الافتراضي ليؤثر في العالم الواقعي، يخضع لميكانيزمات التواصل في العالم الافتراضي، المختلفة تماما للآليات التعبوية في العالم "الواقعي".
فمعظم الحملات التعبوية في وسائل التواصل الإجتماعي غالبا ما تقوم على آلية " كرة الثلج" التي تتدحرج و تكبرو تزداد سرعتها و قوتها تدريجيا، فيمكن أن يكون صاحب المبادرة في حملة نضالية أو تعبوية بالعالم الافتراضي إنسان نكرة، لا معرفة له بالأبعاد السياسية و الاجتماعية و الدولية لفكرة معّينة أو مبادرة قام بإطلاقها، و يبقى الوضع الإجتماعي و الإقتصادي للبلد، و سياقه السياسي هو الذي يساهم في إنجاح حملة معينة و اتساعها أو يعمل على عرقلتها و محاصرتها، لتبقى القوى السياسية و الفاعلون الإجتماعيون و الإقتصاديون منفعلين و متفاعلين معها، كلّ حسب موقعه في المشهد السياسي و في الوضع الإجتماعي و الإقتصادي، و حسب موقفه منهما.
التداعيات السياسية للمقاطعة:
و عليه فوضعية الانسداد و الاحتقان و الركود التي يعيشه الوضع السياسي و الإقتصادي و الاجتماعي التي يعرفها المغرب، و بعد إفشال تشكيل حكومة بنكيران بعد انتخابات 7 أكتوبر2016، و عدم وجود أي بديل سياسي أو اجتماعي في الأفق، جعلت المجتمع المغربي يغلي و مستعد لتلقف أي مبادرة نضالية جدية تدفع في اتجاه تخفيف الأزمة الاجتماعية، و إذا كان حراك الريف، رغم طابعه الجهوي، أول رد فعل اجتماعي على عمق الأزمة و استفحالها، الذي كان لوسائل التواصل الإجتماعي دورا كبيرا في الزخم النضالي الذي عرفته فعالياته، و تمّت بمواجهاته بالاعتقالات و المحاكمات، فإن الشعب قد ابتكر أسلوبا جديدا وراقيا و قليل التكلفة و التضحية، و هو مقاطعة استهلاك منتوجات الشركات الكبرى المحتكرة لإنتاج و توزيع السلع الاستهلاكية الأساسية، و التي توجد في ملكية الماسكين بالقرار السياسي في البلاد.
و لذلك فمن الوهم أن يَنْسِبَ تنظيم سياسي معين إطلاق حملة المقاطعة لنفسه، كما من السّداجة أن يتم اتهام طرف سياسي بكونه يقف وراء إطلاق حملة المقاطعة هاته، فهي تتجاوز الإمكانيات التعبوية و التنظيمية لأي حزب أو جماعة أو الأحزاب السياسية مجتمعة، بل تتجاوز حتى إمكانيات التحشيد لدى الدولة نفسها. و كون طرف سياسي معين أو تنظيم نقابي يمكن أن يستفيد من التداعيات السياسية للحملة، لا يعني بالضرورة أنه هو الذي أطلقها. و الذي جعل بعض الأطراف السياسية قد تستفيد أو تستثمر نتائج المقاطعة سياسيا هو موقعها الحالي في المشهد السياسي و نشاطه السياسي في ظل هذا الوضع، ليس كونها هي التي أطلقت الحملة سريا أو لكون أعضاءها منخرطين بقوة فيها. و هذا ما لم تنتبه إليه بعض القوى السياسية، و خاصة جزء من اليسار، الذي تفاجأ بانطلاق حملة المقاطعة ، و ظل يوهم نفسه أنها ستكون محدودة بدون عمق شعبي، بل سار البعض منه يتصدى لها، واضعا نفسه في صف أرباب الشركات و المقاولات التي يقاطع المواطنون بضائعها. و رغم أن لا طرف سياسي أو إيديولوجي يستطيع أن يدعي أنه أطلق حملة المقاطعة و لا قيادتها و لا توجيهها، و لكن هذا لا يمنع القوى السياسية المتموقعة موضوعيا في صف الشعب من أن تستفيد سياسيا من التداعيات السياسية للمقاطعة، كما لا يحول في نفس الوقت دون أن تخسر القوى السياسية و الإيديولوجية التي وقفت في وجه الحملة أو اصطفت إلى جانب كارطيلات الريع و الرأسمالية الرثة، التي تنهب جيوب المواطنين بالأسعار الحارقة.
و إذا قلنا بأن حملة المقاطعة تمرين بيداغوجي له ما بعده، فهذا يعني أن من خلال سيتدّرب المواطن المغربي على مهارة نضالية جديدة، ستعيد إليه الثقة في نفسه، و ستجعله محور كل الرهانات الأقتصادية و الإجتماعية و السياسية، و المقاطعة لها ما بعدها، على اعتبار أنها رسمت منعطفا جديدا شبيها و امتدادا للمنعطف الذي رسمته حركة 20 فبراير 2011، من حيث ما سيترتّب عنها من تداعيات سياسية و اقتصادية و اجتماعية.
و لا أحد يستطيع أن ينفي بأنّ عزيز أخنوش، و منذ الإعلان عن نتائج انتخابات 7 أكتوبر 2016، قد انطلق في إعادة بناء مشروع تحكّم سياسي جديد تحت يافطة حزب التجمع الوطني للأحرار، كبديل عن مشروع حزب البام الذي يقوده إلياس العماري، بعد انسحاب فؤاد عالي الهمة منه، و بعد الفشل الذريع الذي تعرض له في تلك الإنتخابات. و انطلق الفصل الأول للمشروع التحكّمي لعزيز أخنوش بعملية البلوكاج السياسي الذي دام حوالي ستة أشهر، وانتهى بمنع عبد الإله بنكيران من تشكيل الحكومة و عزله سياسيا، ليدخل في فترة كمون باندلاع حراك الريف، الذي أحدث "زلزالا سياسيا" أوقف المشروع السياسي لأخنوش بشكل مؤقّت، إلى أعلن الملك على فشل "النموذج التنموي" للدولة، فسارع عزيز أخنوش إلى حمل مشعل "نموذج تنموي جديد" يكون حزبه "التجمع الوطني للأحرار" قاطرته السياسية، و يشكل "الإتحاد العام لمقاولات المغرب"، بقيادة مريم بن صالح، قاطرته الإقتصادية، فشرع عزيز أخنوش في حملة إعلامية واسعة، عبر كل جهات المغرب، و في كل وسائل الإعلام الرسمية و الخاصة، حملة تواصل لا تختلف في شيء عن أية حملة انتخابية، لانتخابات سابقة لأوانها و غير معلن عنها، و الترويج لمشروع حزبه الجديد "مسار الثقة"، باعتبار أحد آليات تنزيل "المشروع التنموي الجديد"، إلى فاجأه انطلاق حملة المقاطعة، في 20 أبريل 2018، لسلع ثلاث من أكبر الشركات في المغرب، المحتكرة للإنتاج و التوزيع في ثلاث قطاعات استهلاكية أساسية، و منها شركة أفريقيا التي توجد في ملكية عزيز أخنوش، و شركة سيدي علي الموجودة في ملكية مريم بن صالح رئيسة "الإتحاد العام لمقاولات المغرب" إلى جانب شركة سنطرال- دانون، فكانت حملة المقاطعة في بعدها السياسي عبارة عن احتجاج المغاربة عن الجمع بين الاقتصاد و السلطة( اقتصاد الريع)، و تعبيرا عن رفضهم لأي "مشروع تنموي جديد" يديره أرباب شركات تحتكر معظم الموارد الإقتصادية بالمغرب. و عليه، فإذا كانت حركة 20 فبرايير 2011 قد أعطبت سياسيا مشروع الهمة- العماري التحكمي سياسيا( حزب البام)، قبل أن يجهز عليه بنكيران، فإن حركة مقاطعة 20 أبريل 2018، قد أعطبت بدرورها مشروع أخنوش- بن صالح التحكمي اقتصاديا( التجمع الوطني للأحرار)، و ينتظر من سيجهز عليه.
و ختاما، ليس غريبا و لا مفاجئا لمن له أبسط اطلاع على خفايا الصحافة المغربية، جرائد ورقية و مواقع إليكترونية، أن يلاحظ الغياب التام لتغطية فعاليات حملة المقاطعة التي يخوضها المغاربة ضد منتوجات الشركات التي استهدفتها، فباستثناء مواقع إلكترونية معدودة و بعض الجرائد الورقية، فإنّ معظم وسائل الإعلام الرسمية و "المستقلة" قد " ضربت الطم" و سرطت لسانها، الذي اعتادت أن تلتقط به حتى التوافه من الأخبار و السواخف من الأحداث و الكثير من كشف العورات، هذه الصحافة لم تستطع تجاوز نقل بعض الأخبار الجانبية للمقاطعة، مثل اعتقال سائق طاكسي يحرض زملاء في الحرفة على المقاطعة، و نقل مثل هذا الخبر ليس من قبيل إخبار المواطنين المقاطعين، بل في رسالة ضمنية لتهديدهم و بث الرعب في نفوسهم، بأن مصيرهم مثل مصير ذلك السائق الذي اعتقل، إذا ما شاركوا في تحريض الناس على مقاطعة منتوجات الشركات المعنية.
و إذا كانت الإستقلالية التي تدّعيها معظم المنابر الإعلامية بالمغرب، و التي لا تعني بها في الحقيقة سوى "الإستقلالية" عن الأحزاب و التنظيمات السياسية، على اعتبار أن الصحافة في المغرب قد نشأت نشأة حزبية صرفة، فإن ذلك لم يمنعها من الارتهان للرأسمال بصفة عامة، و السقوط في أحضان الرأسمال الريعي بصفة خاصة، بما يغدق عليها من إشهارات أو دعم مباشر. و لقد كشفت حملة المقاطعة هذه على جزء كبير من هذا الإرتهان و التبعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.