في كل بلدان العالم، تطير الثقافة على جناحين متفردين هما (الصحافة ودور النشر) حتى يبقى الهاجس الثقافي محلقا... لا بد لهذه المؤسسات من تأدية دورها المتأتي من العملية الإبداعية المستمرة باستمرار دوران ماكينة الطباعة.. لتمضي همسا من (أفاق عربية) إلى شوارع البتاويين حيث تتمترس المطابع الحديثة بطباعتها الفاخرة لتنتج لنا (علب الكارتون) الزاهية بلون المنح والمساعدات من الدول المانحة... وتستقر في أزقة (الكرادة) بحثا عن الكتب المدرسية، التي صارت تطبع في الداخل، لتوفر لنا العملة الصعبة وتشغل الأيدي العاملة... فيما يبقى الكتاب الإبداعي يلهث متوسلا، دور النشر الهزيلة، لتتعاطف معه، بعد أن راجت كتب الطالع والبخت ويوميات بريمر الباحث عن الذهب في الجزيرة المفقودة ليداوي وصل المكتبات العتيدة... ويظل الأديب يبحث عن خرقة يمسح بها الغبار الذي نمى على رفوف الكتب في مكتبات ذهب طلاء أسمائها.. وبقيت واقفة تتطلع عبر شارع المتنبي المنكوب بفواجع الزمن الأغبر.... بينما تلوح قباب دار الشؤون الثقافية بانزوائها المستمر قرب بساتين الصليخ، تذكرنا بالموشحات الأندلسية... وابن زيدون الولهان بحب ولادة بنت المستكفي، يتمتم حالما مع موظفي الدار ب (شفيق الكمالي) يعطيهم درسا في (وطن مد على الأفق جناحا...) وتتكدس إصداراتهم في المخازن- لا بيع ولا شراء- لتشكوا المؤسسة بعدها من الخسارة المحققة، ولكن لأبأس من طبع دواوين الشعر والمجاميع القصصية للمقربين، فلهم حظوة في بلاط السلطان... وكتبهم ليست بخسارة، أما البقية فعليهم انتظار (فرمانات) تصدر من الوالي ليتحقق من صدق نواياهم.. إن طبيعة عمل دور النشر الأهلية في العراق على بؤسها، تخالف أنظمة الشرق والغرب، فلا صوت يعلو على صوت (التوريق)، شأنها شأن العملية السياسية، فهي تخضع لمقاييس وأحجام وأصناف ما أنزل الله بها من سلطان... ويعجز الأديب المسكين من البحث واللهث وراء سراب عقيم ... لأن أفقر من ولد على هذه الأرض هو الإنسان المبدع , لكونه اختصار لجملة الازدراء الشائعة: - عمي يا ثقافة... خلي نشبع خبز... لكن الخبز، عند الخباز، والخباز يريد فلوس... وهذه المعضلة الحقيقية، إذا أردت أن تطبع كتابا فعليك بيع أثاث البيت... لأنها السلعة البائرة في بلد الحضارات... ومن يتصدق عليك بعد طبع الكتاب...؟؟!!! فمن الأفضل البحث عن (لجوء أنساني) في الدول المتمرسة بحقوق الحيوان - ناهيك عن الإنسان- لأن الطموح حينما يعجز... يتبخر ويصبح سبخ لا نفع له... ويصير المبدع مجرد رقم في قائمة طويلة للباحثين عن كسرة خبز، لبلد ملايين الشعراء المجهولين ومئات القصاصين المنتحرين على أبواب مدن الغربة، وعشرات القنوات الفضائية تنعق ليل نهار عن دوامة لا تنتهي... لتنزوي الرغبات بلا اكتراث، فليس من سبب يدعو لأن يصل الصوت الشاكي أبعد من (باب المعظم) أو بالقرب من (ساحة الأندلس) حيث الرفيق (...... ) ورفاقه يحتسون على موائد الاتحاد العام للأدباء المنكر.. عله يهدى فورة الفوضى المنتشرة في الأرجاء ... أما الفقراء.. يعلقون أحلامهم على طائرة الورق، ويلهون بمتعة الصبيان، حينما تذهب طائراتهم لأبعد مدى، ويفكر احدهم بترك الخيط الممسك به حتى تمضي أوراقه خلف الحدود... ويصرخ بعنف وغضب: - أنا عراقي ... ابحث عن كسرة خبز....!!!!!