رئيس الحكومة يجري مباحثات مع وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي    مهنيو الإنتاج السمعي البصري يتهيؤون "بالكاد" لاستخدام الذكاء الاصطناعي    بعد فضائح فساد.. الحكومة الإسبانية تضع اتحاد الكرة "تحت الوصاية"    بشكل رسمي.. تشافي يواصل قيادة برشلونة    البطولة الوطنية (الدورة ال27)..الجيش الملكي من أجل توسيع الفارق في الصدارة ونقاط ثمينة في صراع البقاء    بلاغ القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية        بورصة الدار البيضاء تنهي تداولات الخميس على وقع الأخضر    الادعاء الإسباني يدعو إلى إغلاق التحقيق في حق زوجة رئيس الوزراء    تشجيعا لجهودهم.. تتويج منتجي أفضل المنتوجات المجالية بمعرض الفلاحة بمكناس    الوزير جازولي يدعو المستثمرين الألمان إلى اغتنام الفرص التي يتيحها المغرب    الحكومة تقر بفشل سياسية استيراد أضاحي العيد    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    "اتصالات المغرب".. عدد الزبناء ديالها فات 77 مليون بزيادة وصلات ل2,7 فالمية    بعد خسارته ب 10 دون مقابل.. المنتخب الجزائري لكرة اليد يعلن انسحابه من البطولة العربية    اتحاد العاصمة الجزائري يحط الرحال بمطار وجدة    تراجع حركة المسافرين بمطار الحسيمة خلال شهر مارس الماضي    الزيادة العامة بالأجور تستثني الأطباء والأساتذة ومصدر حكومي يكشف الأسباب    مضامين "التربية الجنسية" في تدريب مؤطري المخيمات تثير الجدل بالمغرب    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي : إصدار 2905 تراخيص إلى غاية 23 أبريل الجاري    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    تتويج المغربي إلياس حجري بلقب القارىء العالمي لتلاوة القرآن الكريم    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    سيمو السدراتي يعلن الاعتزال    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطابات الهوية العربية في عصر الآلة
تاريخ الطباعة العربية: وبواكير جدل التّغيير

قد لا نتذكر!!! ولكن صاحب لحظة اختراع أو تقبل الآلة (قديما) إيثارات فكرية عربية-إسلامية تناظر وتجادل و تساءل قضية التغيير، لماذا التغيير، مسار التغيير و ما هو حجم جرعة التغيير المناسبة؟
ولما لآلة الطباعة العربية من أسبقية تاريخية كأداة مغيّرة فعّالة سبقت غيرها من الآلات و بفعل وصول منتجاتها من العملات النقدية، الرسائل والكتب إلى أيادي الناس في المساجد، الكنائس، المدارس، الكتاتيب والمنازل فقد كانت أول آلة ساهمت بتوعية الجماهير في المجتمع العربي-المسلم بعصر التمدّن عليه ستكون هي الآلة التي يتمحور البحث حولها.
المقالة لا تركز على الآلة كحدث مادي علمي في المجتمع لضآلة المادة في هذا الجانب في مشوار النهضة العربية، بل هي تتطرق إلى البحث في الآلة كحدث خطابي غير مادي مثل أن تكون حدث ديني يتناوله علماء الدين، كحدث ثقافي يتناوله أهل الثقافة، كحدث سياسي يتناوله رجال السياسة، كحدث اقتصادي يتناوله النخبة.
ولكون خطاب الآلة منبر تعبيري فهو موعّي لكل جماعة (دينية أو تيار ديني، ثقافي، سياسي أو اقتصادي) بخصوصيته وعليه سترصد هذه المقالة مدى توغل خطاب الآلة إلى أعماق هوية المعرفة وهوية الإنسان الذي يدور في فلكها.
هوية المعرفة ما قبل الآلة (الشّفاهيّة والذاكرة، الكتاتيب وجماهيرية محو الأمية، الخط وارتباطه بالنخبة)
بعد نزول الآية القرآنية "إقرأ باسم ربك الذي خلق" فطن العربي المسلم إلى حتمية ارتباطه بالقراءة. والقراءة تعني وجود الكاتب، المكتوب و القارئ. وبدأ التحول من ثقافة الشفاهية المعتمدة على أدوات الذاكرة، الرواية والاستماع إلى ثقافة التدوين المرتبطة مع حراك النبي (صلى الله عليه) الكريم وأصحابه (رضي الله) في عملية تدوين القرآن. سرعان ما ظهرت "الكتاتيب". والكتاتيب دُوْر محو الأمية استخدمت القرآن العظيم ككتاب يتعلم الصبي والصبية القراءة والكتابة ودينه من خلاله. بعد عملية محو الأمية ظهرت حوانيت "النّسخ" وهى دكاكين متخصصة في نسخ، تجليد، بيع، وتأجير الكتب لتلبية حاجة المتعلمين. وعلى هامش صناعة النّسْخ تطورت صناعة الورق، الحبر، والأقلام القصبية. يمكن للورّاق أن ينسخ ما معدله 75 صفحة في اليوم، مع أن هذا يبطأ من سرعة نسخ الكتب فهو أيضا عامل من عوامل غلائها. ارتبطت الكتابة بالكتاتيب ولكن هناك طبقة الخطاطين وعلينا أن نميز بين الكاتب والخطاط. كما أن الخط العربي ليس فوق علاقات القوة ودينامكية التغيير وبكل اختصار ومنعا للخروج عن الموضوع علي أن أبين أن كل بروز لنوع خط من الخطوط العربية ارتبط ارتباطا وثيقا بالتيار الذي تبناه، وكان جزأ من خطابهم ومشكل لهويتهم ووعيهم الجماعي. واستمرار الخطاب المرتبط بنوع الخط هو علامة على فاعلية تلك الجماعة في المجتمع وانقطاعه دلالة على أفولهم. ولاستمرار هوية نوع الخط عبر الأجيال ألفت كل جماعة كتب تبقي على وجودهم. و تحت ذريعة جودة النّسخ وضع الخطاطون في كتب الخط معايير جمالية توعّي النّاسخ والقارئ بالمقبولات والمرفوضات الحسيّة والفنيّة لهوية ذاك الخط أي هوية الجماعة. كما أرتبط نجاح الجماعة بإقناع السلطان من ربط هوية الجغرافيا بخط ما. فعرفت بلاد بخط دون آخر. مثل الخط المغربي، الأندلسي الفارسي.ومن ثم توطدت هذه المعاير وتأكد بقائهم من خلال عنصر التبجيل في الذهن العربي.
القرن 12م والظهور الأول للآلة في دمشق وتشكيل الوعي العربي في وسط خطابات اقتصادية، دينية وسياسية
وقعت خزانة الديار الشامية تحت ضغط تمويل المقاومة ضد الغزو الصليبي مما دفع دمشق إلى ابتداع نظام مصرفي جديد مرتبط مع الآلة. حيث قررت دمشق طباعة النقود الورقية ومقايضتها مع تجار الشام مقابل ما يملكون من ذهب وفضة لتتمكن الدولة من تمويل حروبها ضد الغزاة. طورت العبقرية الدمشقية نظام الطباعة الآلية المعتمد على قوالب خشبية وطبعت النقود الورقية بدقة تجاوزت تفاوت الإنتاج اليدوي وضمنت سرعة الإنتاج للأعداد كبير ( ) المطلوبة. فطبع أهل دمشق نقود ورقية تسمى "القراطيس السود" أو "العادلية" ( ) وذلك في زمن السلطان نور الدين زنكي (1118م - 1174م). تجربة العرب المبكرة للتعامل مع الآلة لم يثر قضية التراث-المعاصرة بل أثارت أسئلة تدور حول مشكلة التضخم المالي. فقد رصد المقدسي ( ) انعقاد مؤتمر بين التجار والسلطان نور الدين، دارت محاوره حول تراجع قيمة عملة "القراطيس" أمام قطع الدنانير المعدنية، فطلبوا من السلطان إلغاء التعامل ب القراطيس ولكنه رفض لما له من تأثير على قوة الدولة المالية. استمر خطاب تظلم التجار وبسبب غياب مؤسسة مالية تنظم سعر "القراطيس" في سوق دمشق تحولت القضية المالية إلى قضية دينية. حينها أبدى الشيخ ابن اليونيني (نسبة إلى "يونين" قرية إلى الشمال من بعلبك) تخوفه من الظلم الذي يقع بجراء تقلب قيمة عملة "القراطيس" على الناس. وفي زمن الجهاد الإسلامي لم يسهل على الحكام المؤمنون بقيم الإسلام مخالفة الإسلام. فرضخ سلاطين دمشق لمخاوف الشيخ اليونيني، وهو شخصية موقرة عندهم ( )، وألغيت العملة.
ساهم دعم الدولة للطباعة الآلية توسيع نطاق تلمس حدث الآلة عند كل بيت وفرد في المجتمع الدمشقي. وفهم العربي الآلة من خلال عدة محاور متنوعة وصلت إلى وعيه من خلال خطاب مالي، ديني وسياسي. ويبقى الواضح في الخطابات الآنفة هو غياب مسألة تحريم الآلة أو ربطها بآفة تحطيم التراث أو قيم الماضي.

مباشرة بعد إلغاء دمشق لآلة الطباعة تحولت الآلة إلى مشروع فردي و تضاءل حضورها الاجتماعي. ما يدعم عدم رواج الطباعة في العالم الإسلامي هو عثور علماء الآثار على أعداد قليلة فقط من نصوص لحوالي خمسين كتابا تم طباعتها بواسطة نظام الطباعة بالقوالب الخشبية. وآخر ما عثر عليه هو كتاب ديني مطبوع يعود إلى عام 1350 م وقد عثر عليه قرب مدينة "الفيوم" المصرية ( ).

رفض الآلة بخطاب منع قطع رزق الخطاطين وتأسيس مطابع الأقليات اليهودية بخطاب التسامح
بعد عدة قرون، اخترع الصائغ الألماني "يوهان غوتنبرغ" طريقة الطباعة بالأحرف المنفصلة أو المتحركة باستخدام النحاس و الفولاذ في عام 1450م و مازج بينها وبيان آلة عصر العنب "Wine Press" فتولدت مطبعة كتب "Book Printing Press". بعد 35 عاما من تاريخ ظهور أول مطبعة، أي في عام 1485، أثير في بلاط السلطان بايزيد الثاني العثماني (1447- 1512) موضوع إدخال الآلة في صلب الثقافة الإسلامية من خلال استيراد المطابع من أوروبا. ولكن أبدت مؤسسة المشيخة الإسلامية ( ) العثمانية (تأسست 1425م) تخوفها من تشييد المطابع العربية بحجة أن المطابع أداة يمكن استعمالها لتحريف القرآن الكريم. الغريب في الفتوى أنها لم تسمح بطباعة الكتب الأخرى وكأنما المصحف الشريف غطاء لمنع شيء آخر. يذكر التاريخ أن فتوى الفقهاء العثمانيين كانت تتخوف من إخراج الآلة لقطاع اليدويين من الخطاطين خارج الطلب حيث ستهمشهم الآلة. بمعنى أن التحريم دار حول ما هو أفضل: صناعة توظف عدد أكبر من الشعب، أم صناعة توظف عدد أقل من الأتراك؟ تحت غطاء خطاب قطع الرزق وتحريف المصحف فهم الأتراك معنى الآلة فأصدر السلطان "فرمان" (أمر) يمنع إدخال تقنية المطابع باللغة العربية والتّركية في جميع أرجاء السلطنة. وخلال عقود قنّنَ العثمانيون عقوبة الإعدام لمن يطبع من المسلمين الكتب باللغة العربية أو التّركية وثبّتوا ذلك بإصدار فتوى من المشيخة تكفر من يقدم على الطباعة.
في تلك الأثناء برز خطاب فتح الأذرع في الإمبراطورية العثمانية للترحيب بالعرب واليهود الفارين أو المطرودين من إسبانيا. إسبانيا التي طبقت محاكم التفتيش الدينية (Spanish Inquisition) على العرب واليهود منذ 1478 م إلى عام 1789م.
كان أحد الأسبان الفارين من محاكم التفتيش يهودي اسمه "صموئيل بن نهمياس". دخل السيد صموئيل في عام 1493 على السلطان بايزيد الثاني وأقنعه بإعطاء اليهود حق تشييد المطابع من باب حفظ دينهم وصيانة هويتهم عن الذوبان. وتحت ذريعة خطاب التسامح فهم التركي دوافع أجازة السلطان للرعايا العثمانيين من أتباع الديانة اليهودية من الأسبان (السفارديين) إقامة مطابع تطبع باللغات التي يتحدثون بها وهي: العبرية، واليونانية، واللاتينية، والإسبانية. على الفور أسس السيد صموئيل أول مطبعة في العالم الإسلامي وطبع التوراة بالعبرية مع تفسيرها في عام 1494م، وطبع كتابٌ في قواعد اللغة العبريّة عام 1495م ( ). أزداد عدد مطابع اليهود حتى بلغت ثلاث، وطبعت كتب بعدة لغات في عهد السلطان بايزيد الثاني بلغت تسعة عشر كتابًا. على نهج الاستثناء لليهود سمح العثمانيون المتسامحون للأرمن من تأسيس مطبعة بلغتهم وذلك عام 1565 في مدينة اسطنبول.
المطابع العربية الأوربية حمّسها خطاب التواصل الجماهيري مع العرب على الطباعة
على العكس من عقلية رجل الدين المسلم، تقبلت عقلية رجل الدين والمستشرق الأوروبي اختراع المطابع والذي وظّفَه لنشر تعاليم المسيحية ولنشر معارف المسلمين بالعربية (لغة النخبة) لتنوير أوروبا. وفي آخر سنة من بابويّتِه، فطن البابا بولس الثاني Pope Julius II 1443 –1513)) إلى الإمكانية الجبارة للكتب كواسطة اتصال جماهيرية مع العرب المسيحيين. بعزيمة مثل هذا الخطاب أمر البابا مطبعة مدينة "فانو" الإيطالية طباعة "أول" كتاب ظهر باللغة العربية في أوروبا وهو كتاب "صلاة السواعي". توفى البابا بولس الثاني قبل إتمام الطباعة ( ). فواصل البابا ليون العاشر (1475–1521 Pope Leo X) المشروع، وعندما جهز الكتاب في عام 1514م، ولضمان ولائهم للمؤسسة البابويّة، أمر بتوزيعه حصريا على العرب من الروم الأرثوذكس الشرقيين. أراد البابا ليون مع الملك الفرنسي فرانكو الأول (king François I ،1494-1547) استعراض تفوق وقدرات الآلة الأوربية (التي تطبع الكتب ليست فقط بسرعة بل أيضا بجودة) على العرب المتفاخرين بيدويّة اليد التي تخط المخطوطات. فأمر في عام 1516 بطباعة كتاب "مزامير داود" وقد طبع ضمن ما طبع 50 نسخة فاخرة أهداها القادة العرب من أمراء مسيحيين ومسلمين ( ).
شعر العرب المسيحيون بأهمية تيسير نقل المعرفة من خلال الكتب الرخيصة ولتوطيد استقلالية محلية فأنشئوا أول مطبعة عربية في مدينة حمص على يد رجل من آل دباس ثم نشر فيها عام 1706 كتاب الإنجيل مزينا بصورة الانجليين الأربعة، وبعد ذلك قامت مطبعة دير الشوير بلبنان وكان باكورة مطبوعاتها كتاب (ميزان الزمان) سنة 1734.
سمحت فتاوى روما باستشعار الآلة وبتقدير دورها على تخفيض تكلفة نقل المعرفة إلى عامة الناس. سمح هذا التفهم المبكر من ارتباط الطباعة العربية بالمسيحيين العرب ومن خلالهم بدأت الكتب العربية تنتشر.
"1716 م" عام التّحليل
ساهمت فتوى مفتي الإمبراطورية العثماني زمن السلطان أحمد الثالث (1673- 1736) شيخ الإسلام عبدالله أفندي سنة "1716 م" بإلغاء عقبة الحاجز الديني من أمام العقل المسلم بعد أن أجاز المطابع ( ). حصل هذا بعد مناقشات قاد مجهودها التنويري إبراهيم مُتَفرّقة (1674 – 1745) مع المفتي. اقتنع المفتي، فأجاز استخدام المطبعة لطباعة كتب الحكمة واللغة والتاريخ والطب والهيئة على أن تتعهد المطابع بعدم طباعة كتب الفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام. وعندما لاحظت مؤسسة المشيخة العثمانية انتشار الكتب بين الإسطنبوليين بسبب رخص أسعارها أصدروا فتوى أخرى تجيز طبع الكتب الدينية وآذنوا بطبع وتجليد القرآن الكريم.
"1820 م" بداية خطاب التنوير العربي الإسلامي المدعوم من قبل السلطة
لم تستنهض فتوى الشيخ عبدالله أفندي المبيحة للمطابع الهمم العربية الإسلامية بنقل تقنية الطباعة إلى العرب، فالبناء الثقافي الذي ينتمي إليه الراغبون في إبقاء الوضع الثقافي كما هو كان الفاعل الأقوى في المجتمع من تلك الأبنيّة الثقافية الراغبة بتطور العالم الإسلامي. نفوذ نخبة "اللاتغيريين" الواسع مضافا إليه غياب سلطان متَنَور أدى إلى إقباع مَلَكة التفكير العلمي ورغبة البحث التطبيقي عند المسلمين خلف قيود متخيلة تخيلها خطاب. رغم ذلك دخلت المطبعة العربية لأول مرة مصر عندما استعمرها نابليون في عام 1798 ( ). استخدمها نابليون لطبع إرشاداته لجنده ولتوزيع تحذيراته على الشعب المصري من مغبّة عصيان أوامره. وفي عام 1801 رحل الفرنسيون ومعهم المطبعة. هنا، أستيقظ المسلمون على حجم قوة تقنية الآلة الأوروبية العسكرية، وعلى سعة براعتهم الإدارية. أدرك العرب أن ممالكهم لن تدوم إلا بامتلاك ناصية القوة التي يمتلكها الأوروبيون. صدمة استعمار مصر نقلت ولأول مرة مهمة الرحلات العلمية من نطاق مجهود الأفراد إلى مسئولية السلطة. فقامت حكومتا مصر وإيران (التي كانت تراقب بقلق ما حصل في مصر) تبعثان خيرة تلاميذهما إلى أوروبا لنقل المعارف ومن ضمنها المطابع.
استوعبت كل من مصر وإيران مدى ارتباط المطابع بالتبشير المسيحي، فبعثت إيران السيد ميرزا صالح شيرازي (ت بعد1841) إلى بريطانيا. تعلم السيد ميرزا سياسة التملق من خلال المشاركة في لقاءات التسامح الدينية مع المسيحيين البريطانيين. كما أنخرط في دروس خاصة لتعلم الكياسة "الأتكيت" الإنكليزي وأذواق ملابسهم ومأكلهم و فنونهم كما أجاد الإنكليزية بطلاقة. وعاد إلى إيران مع مطبعة عربيةفارسية إلى "تبريز" في عام 1820. على صعيد الجبهة المصرية أدرك "محمد على"، أيضا، مدى ارتباط صناعة المطابع بالتبشير المسيحي، فأوفد مسيحيا إلى إيطاليا في عام 1815 لجلب المطبعة مع تقنية تشغيلها، وهو السيد "نيقولا مسابكى البيروتي". وعندما عاد، أسس السيد مسابكي أفندي مطبعة في "القاهرة" وهى مطبعة "بولاق" التي افتتحت في عام 1820. كما أسس المسلمون في عام 1820 في مدينة "لكناو" الهندية مطبعتهم، والتي بالإضافة إلى اللغات الأخرى تطبع بالأحرف العربية ( ).
التأثير الحضاري للمطابع بعد "1820 م" وتغيير مؤسسات المعرفة في العالم العربي
لقد كانت مطابع "القاهرة"، "تبريز" و "لكناو" بداية التاريخ الحقيقي للطباعة في العالم العربي والمسلم. فما بدأت المطابع عملها، حتى تلتها مطابع أخرى كثيرة. أدت المطابع إلى رخص أسعار الكتب، فقاد ذلك عملية تبدّل ثوري في نظام المدارس، وصار لكل تلميذ كتابه، وأصبح ممكنا للمدارس أن تعتمد على الكتب المدرسية المطبوعة، مما ساهم في تغير نظام المدارس، النواة الأولى لظهور المدارس الحديثة. بعد عام 1820 انكسر ولأول مرة حكر وذوق النخبة المعظّم للمخطوطة لقيمة جمالها الخطي والمغيب خلف خطاب الجمال طبقة الكتاتيب وأهمية انتشار الكتب جماهيريّا. أتاح ذلك تساوى قدرة الأقل مع الأوفر حظا على الوصول إلى الكتب، منابع القوة المعرفية. بحسب ذلك، اتسعت طبقة المثقفين التي مثلت ركيزة أساسية في تحديث المجتمعات العربية المسلمة. لم تقتصر انجازات هذه المرحلة عند مجال تأليف الكتب والترجمات بل تطورت إلى حراك ينقل معرفة الآلات وعلومها الهندسية إلى العالم العربي مما أدخله في ديناميكية حضارية ذات إيقاع جديد. كما أدى انتشار المطابع إلى ظهور جنس الصحف والمجلات التي تعالج مشاكل العربي الزمكانيّه مما رفعت من مقدار وعيه وقدرته النقدية للأحداث المعاصرة له. هكذا ساهمت المطابع بتحرير الشعوب العربية من حكر سيادة اتجاه الرأي الواحد، وأصبح ممكنا للثقافات المُهمّشة ذات الرأي الآخر (مخالف أو مختلف) من دخول الساحة الثقافية، مما وعّى العربي بحجم تشعب مجتمعاته وبتعدد هوياته. مشوار جدل التغيير العربي الإسلامي في عصر الآلة مشوار ثري بتنوع معالجاته لشئونه من منظور سياسي، ديني، اجتماعي ومالي والملفت هو غياب جدلية التراث – المعاصرة عن مسار آلة الطباعة. وكما ولّدت الآلة خطابات غير مادية متنوعة ساهمت في تكوين هوية معرفية مرتبطة بالآلة وبهوية الإنسان الذي يدور في فلك الآلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.