8 مدن مغربية في قلب تغييرات أمنية جديدة.. تعيين رئيس جديد للفرقة الجنائية بالناظور    مخاطر الحرب الإسرائيلية الإيرانية تعجل بارتفاع سعر النفط وتفاقم المضاربات    "الماط" يبلغ نصف نهائي الكأس    نتائج الباكلوريا المرضية بجهة الشرق جاءت نتيجة عدة عوامل..    ترامب ينفتح على وساطة بوتين    الوداد يضم مدافعا برازيليا ويلتقي سفير المغرب بأمريكا    مقتل رئيس الاستخبارات في الحرس الثوري الإيراني    نجلاء موزي تمثل المغرب في بكين بعد فوزها بالنسخة ال24 لمسابقة "جسر اللغة الصينية"    أفعى تلدغ شابا بالحسيمة.. حالته خطيرة ونقل على عجل إلى فاس    الوكالة الوطنية للمياه والغابات تطلق خرائط يومية لتحديد مناطق خطر حرائق الغابات    المهرجان الدولي للفيلم بالداخلة يحتفي بشخصيات بارزة من عالم الفن السابع    المغرب يحتفي بيوم إفريقيا في لاس بالماس على خلفية التعريف بالتراث    مسافرون يتفاجؤون بفرض 10 كلغ كحد أقصى لحقيبتين يدويتين بمطار العروي    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية وتساقط برد.. الأرصاد تحذر من طقس غير مستقر بعدد من أقاليم المملكة    "العدالة والتنمية" يدق ناقوس الخطر إزاء تفاقم المديونية ويحذر من اختلالات جديدة في إعادة تشكيل القطيع    انتخاب سعاد لبراهمة رئيسة جديدة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان.. وهذه لائحة المكتب المركزي    عزيزة داودة يكتب: موريتانيا في مواجهة التحديات الأمنية والدبلوماسية وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في الساحل    هزيمة جمال بن صديق امام جزائري في نزال "كلوري 100"    حب الملوك بصفرو : 101 سنة من الاحتفاء بالكرز والتراث المغربي الأصيل    البوجدايني: الداخلة تكرس نفسها كوجهة سينمائية واعدة في القارة الإفريقية    "أرباب كريمات" ينادون بالتصدي لأعطاب قطاع سيارات الأجرة في المغرب    إيران تعلن اعتقال "عميلين للموساد"    المغاربة على موعد مع حر شديد .. والأرصاد الجوية تبسط الأسباب والتدابير    برادة يكشف نتائج "الكفاءة المهنية"    التعادل مع إنتر ميامي يحزن الأهلي    انطلاق كأس العالم للأندية في نسختها الجديدة مواجهة نارية تجمع الأهلي بانتر ميامي    مقتل 7 أشخاص بتحطم مروحية هندية في الهملايا    تسريب بيانات حساسة يفتح عين "دركي البورصة" على اختلالات خطيرة    بعد غيابه لقرن من الزمان.. كزناية تحتضن مهرجان التبوريدة    ريدوان وبيتبول يبدعان في أغنية مونديال الأندية    فقدان حاسة السمع يرفع خطر الإصابة بالخرف    "أزطا أمازيغ" تطالب بترسيم فعلي للأمازيغية ووقف التمييز    روتردام .. إطلاق رصاص على منزل والشرطة تفتح تحقيقًا (صور)    المغرب وكأس إفريقيا: ما الذي ينقص المنتخب الوطني ليحسم اللقب القاري؟    فرينش مونتانا يشعل حفل افتتاح مونديال الأندية بأمريكا بإطلالة بقميص المنتخب المغربي بخريطة المغرب كاملة    الرئيس الصيني يعيد نسج خيوط طريق الحرير: دينامية صينية جديدة في قلب آسيا الوسطى    المؤتمر الجهوي للاتحاد العام للفلاحين لجهة الدار البيضاء سطات بالجديدة    إيران تقصف معهد وايزمان الإسرائيلي للعلوم    الدار البيضاء.. توقيف شخص متورط في سرقة بالعنف باستخدام دراجة نارية    المغرب يعزز موقعه في سباق الطاقة النظيفة: اتفاقية استراتيجية مع شركة صينية لإنتاج مكوّنات بطاريات السيارات الكهربائية    ما الأنظمة الدفاعية التي تستخدمها إسرائيل في أي تصعيد؟    الصين تطلق قمرا صناعيا لرصد الكوارث الطبيعية    ماذا يفعل تحطُّم الطائرة بجسم الإنسان؟    قصة "حصان طروادة" المعتمَد حديثاً في المملكة المتحدة لعلاج سرطان خلايا البلازما    الحجاج يواصلون رمي الجمرات في أيام التشريق، والسلطات تدعو المتعجّلين للبقاء في المخيمات    فريدة خينتي تطالب وزير الداخلية بإحداث سوق عصري نموذجي بجماعة بني أنصار    الحج 2025: السوريون يغادرون من دمشق لا المنافي بعد 12 عاماً من الشتات    بنهاشم يثمن تحضيرات نادي الوداد    من حكيمي إلى بونو .. 31 أسداً مغربياً يشعلون ملاعب مونديال الأندية    16 دولة تدق ناقوس الخطر لمواجهة التغيرات المناخية على خلفية مؤتمر "كوب 30"    الولايات المتحدة تُعد قائمة حظر سفر جديدة تشمل 36 دولة بينها ثلاث دول عربية    بورصة البيضاء .. أداء أسبوعي على وقع الانخفاض    مهنيو و فعاليات الصيد البحري بالجديدة يعترضون على مقترحات كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري        السبحة.. هدية الحجاج التي تتجاوز قيمتها المادية إلى رمزية روحية خالدة    قانون ومخطط وطني لمواجهة ظاهرة الحيوانات الضالة بالمغرب    تفشي الكلاب الضالة في الناظور: مخطط وطني لمواجهة الخطر الصحي المتزايد    إمارة المؤمنين لا يمكن تفويضها أبدا: إعفاء واليي مراكش وفاس بسبب خروقات دستورية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع أكتاڤيو باث -Octavio Paz
نشر في طنجة الأدبية يوم 27 - 08 - 2011


أوكتافيو باث:
"إنني عند مدخل نفق،هذه الجمل تخرق الزمن.
لربما إنني ما يتمناه عند مخرج النفق.
إنني أتكلم بعيون مغمضة"
الكاتب والشاعر العالمي، "أوكتاڤيو باث" من مواليد مدينة مكسيكو، سنة 1914م. وهو ينحدر من أم إسبانية ذات جذور أندلسية، وأب مكسيكي. وإذا كان جده هو أول من أثار مسألة هوية السكان الأصليين من الهنود، بكتاباته الروائية، فإن الأب الذي كان يشغل منصب محامي، سيلعب هو الآخر دورا هاما في الثورة المكسيكية. هذه الأخيرة التي كان يقودها الفلاح المزارع "إيميليانو صاباطا"، والتي كان الأب فيها، وصيا صحفيا وسياسيا له.
ولقد قضى نشأته كما طفولته كمغترب في أمريكا الشمالية، وساهم بدوره في الحركات العمالية اليسارية. وفي سنة 1931م أسس مجلة "براندال" و"دفاتر وادي مكسيكو" سنة 1933م. وفي هذه الفترة بالذات بدأ بنشر أول أعماله الشعرية "لونا سيلڤستر" و"جذور الإنسان". ولقد كان الرجل يجمع سحر القلم إلى فعل المقاومة، بحيث أنه شارك في الحرب الأهلية الإسبانية، حيث تواجد مع كل من "رفائيل ألبيرتي" و"بابلو نيرودا" و"ميݣيل هيرنانديز" و"لوي صرنودا" الذي ستربطه به صداقة حميمة، لن تنتهي إلا بموت الكاتب. وبعودته إلى المكسيك، سينخرط في السلك السياسي وسيساهم في المجلة العمالية "الشعبية"، وكما سيشغل مناصب دبلوماسية لبلده في الخارج .كذلك لن يظل مقيدا بكتاباته النضالية، بل عرف تأثرا بمدارس أخرى، نذكر من بينها السريالية على سبيل المثال. كما لاقى وجوه أدبية عدة، نذكر من بين هؤلاء: "أندريه بروتون" و"جورج شحاده" و"هنري ميشو" وجيل "سوبرڤيل". ولقد تنقل عدة مرات من أمريكا إلى فرنسا، ومنها إلى المكسيك، مخلدا آثارا أدبية خالدة باللغة الإسبانية. وهو من هذه الناحية، قد يعتبر الأب الروحي لكل من "لوي بورخيس" و"ݣارسيا ماركيز". ولقد اعترفت الأسرة الإنسانية العالمية بآثاره الإنسانية الجبارة، فكرمته بجائزة نوبيل العالمية سنة 1990م. وتوفي بعدها بثمانية سنين، مخلفا للإنسانية أعمالا أدبية متعددة المشارب، في قمة النزاهة، نذكر من بينها على سبيل المثال: القوس والربابة، وحجر الشمس، والمنحدر الشرقي، ومتاهة العزلة عن الهوية المكسيكية. وهكذا برحيل "أوكتافيو باث"، تكون الأسرة الإنسانية قد فقدت فيه الكاتب والشاعر والمفكر الإنساني العالمي.
من وحي الترجمة
لعل كلمة إضافية حول الترجمة، هي أنسب ما يمكن أن نقدمه للقارئ الكريم حول هذه المطولة "الشّمْسِية"، التي قمنا بنقلها من اللغة الفرنسية، إلى العربية وذلك بعد التحقق من الأصل الإسباني. وهذه ليست أول مرة نعرض فيها للترجمة كتجربة أدبية، لها خصوصيتها الفنية، كما لها فائدتها اللغوية الثمينة. لقد قمنا بمثل هذا العمل، حين قمنا بترجمة الأعمال الشعرية ل"فديريكو ݣارسيا لوركا"، وكذلك الأعمال الشعرية "لماريا رينه ريلكه" ولآخرين.
وما نريد ،أن ننبه إليه، أو التأكيد عليه في هذه التجربة التَّرْجُماتِيّة الجديدة، وهو أننا حين ممارستنا لهذا التمرين العويص، قد لاقينا بعض الصعوبات في نقل بعض المصطلحات من المصادر اللاتينية إلى العربية، الشيء الذي اضطرنا إلى نحت مفردات عربية، اعتبارا للقياس العربي، من أجل الوصول والنفوذ العميق إلى شفافية المعنى المطلوب. وإذا كانت الكتابات النثرية أكثر طوعية، وأكثر مطاطية، في ميدان النقل من لغة إلى أخرى، فإن الشأن هو غير ذلك، حين يتعلق الأمر بالترجمة الشعرية. خصوصا وأن الشعر لا يترجم. فما العمل إذن، إذا كان الشعر يخرج عن دائرة الإمكان للترجمة الشعرية؟ حسب اعتبارنا وتقويمنا لهذه المسألة، فإن الجواب يكمن في مدى قدرة المترجم، على التحكم في اللغتين: المترجمة والمترجم إليها. ومتى ما كانت درجة معرفته باللغتين عالية ودقيقة، متى ما جاءت ترجمته في الواقع، كإعادة كتابة للنص الأصلي، وبمعنى آخر، محاولة إخراجه في حلة إبداعية جديدة. ومن هنا، يمكن أن نعتبر الترجمة، فنا له مقوماته، وله أدواته، وآلياته، وحرمته المعرفية المقدسة، فعلى الداخل إلى حرمه أن يراعي هذه الشروط، وهذه المبادئ، كيما لا يخل بميزان نزاهة الكلمات الأسمى. ودور المترجم أخيرا، في هذه المحاولة، يبقى هو الخلفية المرجعية الأساسية لتقعيد النص، خصوصا وأنه يستوجب على المترجم في هذه الأثناء، أن يعتمد على ثقافته في اللغتين من جهة، وأن يميز بين التصورين للعالم، المعتمدين في رؤية كل منهما، ومن جهة أخرى على قدرته الخيالية، كما التصورية، والإبداعية الشخصية، في حفظه على جوهر النص المعني، ولغته الشاعرية.
المُطَوّلَةُ الشّمْسِيّة
لقد ارتأينا، لما يتمتع به هذا النص الشعري، من غناء ثقافي كبير، أن نقدم له بهذه الاستهلالية التوضيحية، كيما نمهد للقارئ الكريم، العبور إلى متاهاته الساحرة. ولا نقصد بهذا، تقديما لعرض تحليلي كامل، أو ما شابه ذلك، لهذه المطولة الشمسية الواردة أدناه. إن بحثا من هذا القبيل، نتركه لمن يشاء، ولمن له الرغبة في المزيد من الإطلاع، إلى الرجوع للمصادر النقدية، والمراجع التي وثقناها في آخر هذه الترجمة. وباختصار، إننا حتى لا نذهب بجمالية متعة النص، سنكتفي بذكر أسباب تسمية النص، وظروف نشأته، وبعض المعلومات الهامة المتعلقة به، تاركين للقارئ تتمة المغامرة الاستطلاعية بنفسه، وبوسائله الخاصة به.
إن هذه المطولة الشعرية، التي قد ندعوها تارة "بالحجرية" وطورا "بالشمسية"، أو بهما معا " الحجرية الشمسية"، تعد في نظر المهتمين بالأدبيات "الاسبانية / الأمريكية" نشيدا خالدا، يجري كينبوع للخلاص، في رغبات الحب وحرقه. واسم هذه المطولة الشعرية "حجر الشمس"، مشتق من التقويم الحجري لشعب "الأزتيك – 1428 - 1521"، الذي كان مستوطنا بالمكسيك الحالي، والذي تقوضت إمبراطوريته على يد الغزاة الإسبان، وخصوصا السفاح "كُرْتيز". بما معناه تقويمهم الذي نسخوه نقشا على حجر شبه مدور (انظر الصورة أعلاه). هذا التقويم الذي يعرف عندهم بأنه لا بداية له ولا نهاية. بل هو تجسيدا لرمز الحياة في سيولتها، والحركة الدائرية لعجلة الحياة. وليس من قبيل المصادفة أن الكاتب افتتح مطولته الشمسية بهذا الرمز التالي " 4 olin " الذي يعني في التقويم الأزتيكي "الحركة" واختتمها ب الرمز التالي " 4 إيهيكاتل"، والذي يعني هو الآخر في التقويم الذي ذكرناه "الريح"، مما يشير إلى نهاية دورة زمنية وبداية أخرى.
وهذه المطولة الشمسية، تعد من أجمل وأغنى ما وصل إليه "أوكتافيو باث" في سرحاته الشاعرية الإبداعية. وهي تنطلق، كما قال أحد النقاد بخصوصها "، من رحلة البحث عن الذات، ومحاولة معرفتها، كمبدأ أساسي لكل شيء". وفكرة العودة الأبدية، إلى ربط الإنسان بذاكرته البدائية. إنها في الواقع "أوديسا" حديثة معاصرة لنا. تنبعث راحلة بنا من القلق الوجودي إلى الرغبات، فالشهوات الجنسية، فالملل، فالتذمر والاستياء والمصالحة الأخيرة مع الذات في نهاية الرحلة. بحث عن النصف الآخر من الذات، الذي يتمثل في الأنثى، التي بغيرها يفقد هذا العالم، أو إذا صح التعبير، هذه التجربة الوجودية معناها. وفي هذا السياق، نتحسس في هذه المطولة الشمسية، هذه اللغة التي تترفع شيئا فشيئا، لغاية محاذاة والتحرش بحدود المجهول. هذه اللغة التي تتصف عند الصوفيين، بلغة الإشارات عوضا من العبارات، والتلميح في محل التصريح والنوح في مقام البوح.
وهذه السيمفونية "الأوكتاڤية" التي تقارب أبياتها الستة مائة بيت، تعج بما لا يعد ولا يحصى من الأسماء والنعوت لرموز وشخصيات تاريخية. فمن "أغاممنون" و"سقراط" لغاية "أبراهم لنكلن"، أو "روبيس بيير" تتوالى الوجوه، والأحداث، وكأن كاتبنا أبى إلا أن تكون مطولته الشمسية هذه، شاملة وكاملة للتجربة البشرية منذ بدايتها، وبعبارة أدق "ملحمة الملاحم".
وننبه بأن هذه التجربة "التّرْجُماتِيّة"، تأتي مكلمة لمحاولات أخرى اطلعنا عليها، من بينها الترجمة التي حررها "هنري فريد صعب"، و"رقية صالح" وعبنا على بعضها، عدم مراعاتها للسياق الزمني، الذي ورد فيه البيت الشعري الأصلي، كأن يرد مثلا بصيغة الماضي، ويقوم المترجم بتحويله إلى زمن مضارع، الشيء الذي يفقده بناؤه الفكري. على كل حال، إنها محاولة اجتهاد من جانبنا، وتتمة لمجهودات الآخرين، محبة منا في إغناء مكتبتنا العربية بألفاظ ومصطلحات مستجدة. ونكتفي بهذا القدر، تاركين للقارئ الكريم، متعة الرحلة في هذا النص الشاعري الملحمي.
حَجَرُ الشَّمْس


حَجَرُ الشّمْس يتواجد معروضا في المتحف الأناسي لمدينة مكسيكو
حَجَرُ الشَّمْس

- أولين 4 -
صَفْصافٌ باكٍ، مِنْ بِِلَّوْرِ وحَوْرَةُ ماءٍ قاتِم،
انْبِجاسٌ مائِيٌّ عالٍ تُقَوّسُهُ الرّيح،
شَجَرَةٌ مُحْكَمَة الزَّرْعِ ولَكِنْ راقْصَة
مُنْعَطَفُ نَهْرٍ يَلْتَوي،
يَتَقَدّم، يَتَأَخّر، ويَتّخِذ لَهُ طَريقًا دائِريًّا
ويَصِلُ دائِمًا:
سَيْرٌ هادِئ
لِنَجْمٍ أَو لِرَبيعٍ غَيْر مُسْتَعْجَل،
ماءٌ مُغْمَض الُجفون،
يَنْبَجِسُ لامِعًا طِوالَ اللّيْل بِالنُّبُوّءات
حُضورٌ إِجْماعي مُتَمَوِّجْ،
مَوْجَةٌ بَعدَ مَوْجَةٍ لِغايَةِ تَغْطِيَة الكُلّ،
جَلالٌ أَخْضَرٌ بِلا غَسَقٍ،
كما انْبِهاراتُ ألأَجْنِحَة،
حينَ تَتَفَتّحُ في وَسَطِ السَّماء،
---
انْسِياحٌ بَينَ كَثافةٍ لِأَيّامٍ مُسْتَقْبَلِيّة
ووميضٌ مَشْؤومٌ لِلشّقاءِ مِثلَ طائِر
قَد راحَ ُمصَلِّبًا لِلْغابَة بِغِنائِه
والتّباشيرُ الوَشيكَةَ الوُقوع
بَيْنَ الأَغْصان الُمحْتَضِرَة،
ساعاتُ ضِياء تَقْضُمُها العَصافيرُ مُنْذُ مُدّة،
نُذُرٌ تَفِرّ مِن اليَد،
---
حُضورٌ مِثْل غِناءٍ مُفاجِئ،
مِثْل ريحٍ مُغَنّيَةٍ في حَريق،
نَظَرٌ يَشُدّ إِلَيْه بِشَكْل مُعَلَّق
العالَمُ بِبِحارِه وجِبالِه،
جُرُم مِن الضِّياء مُصَفّى بِعَقيق،
سيقانٌ مِن الضِّياء، بَطْنٌ مِن الضّياء، خُلْجان،
صَخْرَةٌ شَمْسِيّة، جِسْمٌ بِلَوْنِ السّحاب،
لَوْنُ نَهارٍ سَريعٍ، مُتَوَثِّب،
تشِعّ السَاعَةُ وتَتّخِذُ لها جَسدًا،
العالَمُ، نَعَمْ، إِنّه مَرْئِيّ بِجِسْمِك،
إِنّهُ شَفّافٌ بِفَضْلِ شَفّافِيَتِك،
---
أَمْضي بَيْنَ قيسارِياتٍ الرّنين،
أَنْسابُ بَيْنَ الحَضراتِ الُمصَوِّتَة،
أَمْضي عَبْرَ الشّفافِيّات مِثْل أَعْمى،
انْعِكاسٌ يَمْحوني، وأولَدُ في آخَر،
يا غاباتَ الأَعْمِدَة المَسْحورَة !
أَنْفُذُ مِن تَحْتِ أَقْواسِ الضّياء
إلى مَمَرّات خَريفٍ شاحِبٍ وشَفّاف،
---
أَمْضي عَبْرِ جَسَدك كَما عَبْرَ العالَم،
بَطْنُكِ ساحَةٌ مُشْمِسَة،
ونَهْداكِ كَنيسَتان حَيْثُ يُحْتَفَلُ
بالدّمِ وغَرائِبِه الُمتَزاوِيَة،
ونَظَراتي تُغَطّيكِ مِْثلَ لَبْلاب،
إِنّكِ مَدينَةٌ يُحاصِرُها البَحْر،
سورٌ يُقسمُهُ الضّياء
إلى قِسْمَيْن بِلَونِ الِمشْمِش،
مَكانٌ لِلْمِلْحِ، مِن صُخورٍ وطُيور
مَبْهورًا تَحْتَ قانونِ الظّهيرَة
---
مُكْتَسِيَةً بِلَوْن رَغَباتي
مِثلَ فِكْري تَمْشينَ عارِيَةً،
أَمْضي عَبْرَ عُيونِك كما عَبر الماء،
تَشْربُ النّمورُ أَحْلامَ هذه العُيون،
يَحْتَرِقُ الضُّرَيْس في هذا اللّهَب،
أَمْضي عَبْرَ جَبينكِ كما عَبرَ القَمَر،
مِثْلَ السّحابِ عَبْرَ فِكْرِك،
أَمْضي عَبْرَ بَطْنِك كما عَبرَ أَحلامِك،

---
جُبَّتُكِ مِن الذُّرَة الصّفْراء تَتَوَهّجُ وتُغَنّي،
جُبّتُكِ البِلّوْرِيّة، جُبّتُكِ المائِيَة،
شِفاهُكِ، شَعَرُك، عَيْناك،
طِوالَ اللّيْلِ أَنْتِ مَطَرٌ، واليَومَ كُلّه،
تَفْتَحينَ صَدْري بِأَصابِعَكِ المائِيَة،
وتُغْمِضينَ عَيْني بِثَغرِكِ المائي،
على عِظامي أَنْتِ مَطَر، وفي صَدْري،
شَجَرَةٌ سائِلَة تَحْفِرُ لها جُذورًا مِنْ ماء،
---
أَمْضي عَبْرَ مَفاتِنِكِ كَما عَبْرَ نَهْر،
أَمْضي عَبْرَ جَسَدُكِ كَما عَبْرَ غابَة،
كَما عَبْرَ مَمَرّ ضَيّق في الجَبَل
الذي يَنْتَهي بِهاوِيَة قاسِيَة
أَمْضي عَبْر أَفْكارِك الَمشْحوذَة،
وعِنْدَ مَخْرجِ جَبينِك الأَبْيَض
يَنْكَسِرُ ظِلّي الُمَتَسَرِّع،
أَقْطِفُ شَذَراتي الواحِدَة بَعْدَ الأُخْرى
وأُتابِعُ بِلا جَسَدٍ، أَبْحَثُ مُتَحَسِّسًا ...
---
مَمَرّاتٌ بِلا نِهايَة لِلذّاكِرَة،
أَبْوابٌ مَفْتوحَة على صالَةٍ فارِغَة
حَيْثُ تَتَعَفّن كُلُّ "الأَصْياف"،
جَواهِرُ الظمأ تَتَوَهّج في الأَعْماق،
وَجْهٌ مُغْمى عَلَيْه بِمُجَرّد ما أَتَذَكَّرُه
يَدٌ تَتَشَتّتُ بِمُجَرّد ما أُلامِسُها،
شَعَرُ العَناكِبِ في ضَوْضاء
على بَسماتٍ، تَعود إلى سِنينَ لا تُحْصى،
---
عِنْدَ مَخْرَجِ جَبيني أَبْحَثُ،
أَبْحَثُ دونَ جَدْوى، أَبْحَثُ لِلّحْظَة،
وَجْهٌ لِلْبَرْق والرَّعْد
جارٍ بَيْنَ الأَشْجارِ اللّيْلِيّة،
وَجْهُ مَطَرٍ في حَديقَة مِن الظُّلْمَة،
ماءٌ لازِجٌ يَتَسَرّبُ إلى جانِبي،
---
أَبْحَثُ غَيْرَ واجِدٍ، أَكْتُبُ وَجْهًا لِوَجْه،
لا أَحَدَ، يَسْقُطُ النّهار، تَسْقُطُ السّنَة،
وأَسْقُطُ في اللّحْظَة، أَسْقُطُ في الأَعْماق،
طَريقٌ غَيرَ مَرْئِيّ على مَرايا
يُكَرّرُ صورَتي المُنْكَسِرَة،
أَمْشي مُنْذُ أَيّام، لَحَظات مَعْبورَة،
أَمْشي على أَفْكارِ ظِلّي،
أَمْشي عَلى ظِلّي بَحْثًا عَن لَحْظَة،
---
أَبْحَثُ عَن تَوْقيتٍ حَيٍّ مِثْلَ عُصْفور،
أَبْحَثُ عَن الشّمْسِ مُنْذُ الخامِسَة مَساء
مُكَيّفَة بِجُدْرانِ لَبِناتٍ حَمْراء:
السّاعَةُ تَنْضُجُ عَناقيدُها
وحينَ تَتَفَتّحُ تَخْرُجُ فَتَيات
مِنْ مَفاصِلِها المُوَرّدَة ويَنْتَشِرْن
بَيْنَ مَمَرّات ساحَةِ الثّانَوِيّة
عالِيَة مِثْلَ خَريفٍ كانَتْ تَمْشي
مَلْفوفَةً بِالضّياء تَحْتَ الشُّرْفَة المُقَوّسَة
والفَضاءُ مِن حَوْلِها يَكْسوها
بِبشرَة أَكْثَرَ ذَهبًا وشَفّافِيَة
---
نَمِرٌ بِلَوْنِ الضّياء، أَيِّلٌ أَسْمَر
في نَواحي اللّيْل،
لَمَحْتُ فَتاةً مائِلَة
على شُرُفاتٍ خَضْراء مِن الَمطَر،
وَجْهٌ يافِعٌ لا يُحْصى،
نَسيتُ اسِمكِ، "ميلوسينا"،
"لورا"، "إزابيلا"، "بِرْسِفون"، "مارية"،
لَكِ كُلّ الأَوْجُه ولا أَحَدَ مِنْها،
أَنْتِ كُلّ السّاعاتِ ولا واحِدَة مِنْها،
تُشْبِهينَ الشّجَر والسُّحُب،
أَنْتِ كُلّ العَصافير وكَوْكَب،
تُشْبِهينَ حَدَّ السّيْف
وقَدَحُ دَمِ الجَلاّد،
لَبْلابٌ يَتَقَدّم سائِرًا،
يَتَغَشّى ويَقْلَعُ جُذورَ الرّوح
ويُقَسِّمُها مِن تِلْقاءِ نَفْسِها ،
---
كِتابَةٌ نارِيةٌ على حَجَرٍ كَريم،
صَدْعٌ في الصّخْرَة، مَلِكَةُ الحَيّات،
عَمودُ بُخار، وعَيْنُ في جُلْمود،
مَلْهى قَمَرِيّ، ذِرْوَةُ النُّسور،
بَذْرَةُ "يانسون"، شَوْكَةٌ ضَئيلَة
وقاتِلَة، تُعْطي آلامًا خالِدَة،
راعَيَةَ الأَوْدِيَة التّحْمائِيَة
وحارِسَةً لِوادي الأَمْوات،
عارِشَةُ مُدَلاّة على حافَةِ الهاوِيَة،
نَبْتَةٌ مُتَسَلِّقَة، عُشْبَةٌ سامَّة،
زَهْرَةُ البَعْث، عِنَبُ الحَياة،
سَيّدَةُ النّايِ والبَرْق،
سَطْحٌ مِنَ الياسَمين، مِلْحٌ في الجُرْح،
باقَةُ وُرودٍ لِلْمَعْدومِ بِالرّصاص،
ثَلْجٌ في أَغُسْطُس،
قَمَرٌ لمِنِصَةّ الإِعْدام،
كِتابَةُ البَحْرِ على حَجَرِ البَزَلْت،
كِتابَةُ الرّيح في الصّحْراء،
وَصِيّةُ الشّمْس، رُمّانَةٌ، سُنْبُلَة
---
وجه مُلْتَهِب، وَجْهٌ مُفْتَرَس،
وجْه شابٍّ مُضْطَهَد
سَنَواتٌ شَبَحِيّة، أَيّامٌ دائِرِيّة
التي تُشْرِفُ على نَفْسِ السّاحة،
وعَلى نَفْسِ الجُدار،
تَحْتَرِقٌ اللّحْظَة
ويُصْبِحونَ وَجْهًا واحِدًا
أَوْجُهُ اللّهَبِ المُتعاقِبَة،
كُلّ الأَسْماءِ هي اسْمٌ واحِدٌ
كُلُّ الأَوْجُهِ هي وَجْهٌ واحِد
كُلُّ القُرون هِي لَحْظَةٌ واحِدَة
ومِنْ أَجْلِ قُرونٍ وقُرون
زَوْجُ عُيونٍ يَغْلَقُ المَمَرّ إلى المُسْتَْقَبل
---
لا شَيْءَ أَمامي، لا شَيْءَ سِوى لَحْظَة
مُشْتَراة هذه اللّيْلَة في مُقابِلِ حُلُم
وَحْدَة صُوَرٍ مَحلومَة
مَنْحوتَة بِشِدّة ضِدّ الحُلُم
مَنْزوعَة مِن لا شَيْء هَذه اللّيْلَة،
عِنْدَ طَرَفِ السّاعِدِ، مَرْفوعَة حَرْفًا حَرْفًا
بَيْنَما الزّمَنُ يَرْتَمي في الخارِج
ويَلْطِمُ على أَبْوابِ روحي
هذا العالَمُ بِتَوْقيتِه الدَّمَويّ،
---
لَحْظَةٌ، لَحْظَةٌ واحِدَة فَقَط، بَيْنما المُدُن،
الأَسْماءُ، الأَذْواقُ، المُعاش
تَتَشَتّت على جَبينِك الأَعْمى،
بَيْنَما جاذِبِيّةُ اللّيْل
تَحْتَقِرُ فِكْري وهَيْكَلي العَظْمي،
ودَمي يَدورُ أَكْثَرَ هُدوءًا
وأَسْناني تَتَعَفّن وعُيوني تَتَكَدّر
والأَيّامُ والسِّنين
تُكَدِّسُ أَهْوالَها الفارِغَة
---
في حينِ يَطْوي الزَّمَنُ مِرْوَحَتَه
وأَن لا شَيء خَلْفَ هذه الصُّوَر
تَتَحَطّمُ اللّحْظَة وتَطْفو،
مُطَوّقَة بِالمَوْت، مُهَدّدَة
باللَّيْل وتَثاؤباتِه الحِدادِيَة،
مُهَدّدٌ بِصَخَبِ
المَوْتِ الحَيَويّ والُمَقَنّع
تَتَحَطّمُ اللّحْظَةُ وتَتَداخَل
مِثْلَ قَبْضَةٍ تَشْتَدّ، مثلَ فاكِهَة تَنْضَج
نَحْوَ الدّاخِل مِن تِلْقاءِ نَفْسِه
وهُوَ نَفْسُه يَتَشارَبُ ويَتَناثَرُ
اللّحْظَة الشّفافِيَة تَنْغَلِق
وتَنْضَج نَحْو الدّاخِل، تَدْفَع بالجُذور،
تَنْمو في داخلي، تَشْغَلُني كُلّيا،
ووُرَيْقاتُها الهاذِيَة تُنْفيني،
أَفْكاري وَحْدَها هِي طُيورُها
يَدورُ زِئْبَقُها في شَراييني
شَجَرَةٌ ذِهْنِيّة، فاكِهَة بِطَعْمِ الزّمَن،
---
آه مِنَ الحَياة المُتَبَقّيَة لِلْعَيْش
والتي عيشَتْ مِنْ قَبْلُ
الزّمَنُ الذي يَعودُ في مارِيَةٍ واحِدَة
ويَنْسَحِبُ دونَما أَنْ يُديرَ وَجْهَهُ،
الذي حَدَثَ لَيْسَ وإنّما قَد بَدَأَ يَكون
ويَرْتَمي بِهُدوء
في لَحْظَةٍ أُخْرى تَتَلاشى:
---
في وَجْهِ مَساءٍ مِنْ مِلْحِ البارودِ وحِجارَة
مُسَلَّحٌ بِخَناجِرَ لا مَرْئِيّة
بِحُمْرِةِ كِتابَةٍ لا تُفَكُّ رُموزُها
إِنّكِ تَكْتُبينَ على جِلْدي وهَذِهِ الجِراح،
مِثْلَ لِباسٍ مِنْ لَهَبٍ تُغَطّيني
إِنّني أَحْتَرِقُ مِنْ دونِ اسْتِنْفاذٍ لِوُقودي،
أَبْحَثُ عَن الماءِ ولَيْسَ في عَيْنَيْكِ ماء،
إِنّها مِنْ حِجارَة
ونَهْداكِ، بَطْنُكِ، وَرَكَيْكِ
إِنّها مِن حِجارَة، فَمُكِ لَهُ طَعْمِ التُّراب،
فَمُكِ لَهُ طَعْمَ الزّمَنِ المَسْموم،
وجِسْمُكِ لَه طَعْمَ بِئْرٍ مَحْكومٍ عَلَيْها،
مُرورٌ لمِرَايا تُرَدِّدُها
عُيونُ المُتَعَطِّش،
مُرورُ الذي يَعودُ دائِمًا إلى نُقْطَةِ انْطِلاقِه،
وتَقودُني، أَعْمى، بِاليَد
عَبْرَ هذه القيسارِياتِ العَنيدَة
لِغايَةِ وَسَطِ الدّائِرَة وتَنْبَعِثين
مِثْلَ لَمْحَةٍ تَتَسَمّرُ إرَبا،
مِثْلَ ضَوْءٍ مَسْلوخٍ، فاتِنٍ
مِثْلَ مِشْنَقَة الَمْحكومِ عَلَيْه،
مَرِنَة مِثْلَ السّوْط
ورَشيقَة مِثْلَ سِلاحِ القَمَرِ الشّقيق
وكَلِماتُكِ الحادّة تَحْفُرُ صَدْري،
وتُقْفِرُني وتُفْرِغُني
وواحِدَةً واحِدَةً، تَنْزَعينَ ذِكْرياتي،
لَقَدْ نَسيتُ اسْمي، أَصْدقائي
يُزَمْجِرونَ بَيْنَ الخَنازيرِ حَيْثُ تَتَعَفّن
مَأْكولَة مِن طَرَف الشّمْسِ في خَنْدَق
---
لا شَيْءَ فيّ سِوى جُرْحٌ عَريض
تَجَوّفٌ لا أَحَدَ يَتَفَقّدُه أَبدا
حاضِرٌ بِلا نَوافِذ، فِكْر
يَعودُ، يَتَرَدّدُ، يَنْعَكِسُ
ويَضيعُ في نَفْسِ شَفّافِيَتِه،
وعْيٌ مُخْتَرَقٌ مِنْ طَرَفِ عَيْن
تَتَمَرّى في نَظَرِها لِنَفْسِها لِغايَةِ الغَرَق
مِنَ الصَّفاء:
أَنا قَد رَأَيْتُ القِشْرَة الرّهيبَة،
"ميلوسينا"، تَتَلألأ، مُخْضَرّة، عِنْدَ الفَجْر،
لقََد كُنْتِ تَنامينَ مَلْفوفَة في أَغْطِيَة السّرير
وعِنْدَ الصّحْوِ صَرَخْتِ مِثْلَ عُصْفور
وسَقَطْتِ بِلا نِهايَة، مُنْكَسِرَة وبَيْضاء
لا شَيْءَ بَقِيَ مِنْكِ، لا شَيْءَ سِوى صُراخُك
وعِنْدَ نِهايَةِ القُرون أَكْتَشِفُ نَفْسي
بِسُعالٍ ونَظَرٍ ضَعيف،
خالِطًا لِصُوَر قَديمَة:
لا يوجَدُ أَحَدٌ، إِنّكَ لا أَحَد،
جَبَلٌ مِنَ الرّمادِ ومِكْنَسَة،
سِكّينٌ بِهِ ثَلْمَة ومِنْفَضَةُ ريش،
جِلْدَةٌ مَشْدودٌَة إلى بِضْعَةِ أَعْظُم
عُنْقودٌ قَد يَبِسَ، وثَقَبٌ أَسْوَد
وفي أَعْمَقِ الثّقَبِ عَيْنَيْن
لِطِفْلَةٍ غَرقَتْ مُنْذُ أَلْفَ سَنَة،
---
نَظَراتٌ مَدْفونَةٌ في بِئْر
نَظَراتٌ تَرانا مُنْذُ بِدايَةِ الزّمَن،
نَظَرٌ صَبِيُّ لِأُمٍّ عَجوز
التي تَرى في الإبْنِ الأَكْبَرِ أَبًا شابٍّا،
نَظَرٌ أُمٍّ لِلْبِنْتِ الوَحيدَة
التي تَرى في الأَبِ الأَكْبَرِ ابْنًا طِفْلاً
نَظراتٌ تُبْصِرُنا مِنْ أَعْماقِ الحَياة
والتي هِيَ مَكائِد المَوْتِ
أيْنَ هُو العَكْسُ: السّقوطُ في هَذه العُيون
هَلْ مَعْناهُ العَوْدَةُ إلى الحَياة الحَقيقِيّة؟
---
سُقوطٌ، عَوْدَةٌ، أَنْ أَحْلُمَ بي وأَنْ تَحْلُمَ بي
عُيونٌ مُسْتَقْبَلِيّة أُخْرى، حَياةٌ أَخْرى
سُحُبٌ أُخْرى، والمَوْتُ بِمَوْتٍ آخَر
- هذه اللّيْلَة تَكْفيني، وهذِه اللَّحْظَة
التي لا تَنْتَهي مِنَ الاِنْفِتاح والاِنْكِشافِ لي
حَيْثُ كُنْتُ، مَنْ كُنْتُ، وما اسْمُك؟
وكَيْفَ أَنا أُسَمّى:
هَلْ بِإِمْكاني تَشْييدَ مُخَطّط؟
مِن أَجْلِ الصّيْفِ، وكُلّ الأَصْياف،
"لكْريسْتوفْر سْتريتْ" قَبْلَ عَشْرِ سِنين،
ومَعَ "فيليس" التي كانَ لَها غَمّازَتَيْنِ،
حَيْثُ يَشْرِبُ الدّوريّ فيهِما الضِّياء؟
وعلى ساحَةِ الإِصْلاح كانَت "كارْمين" تَقول لي:
إِنّ الهَواءَ لا يَزِنُ شَيْئًا، هُنا دائِمًا أُكْتوبَر"
أو أَنّها قالَتْ هذا لِآخرَ نَسيتُه
أو أَما أَكونُ قَدْ ابْتَكَرْتُهُ وأَن لا أَحَدَ قالَه لي؟
أَوْ مَشَيْتُ يا تُرى في سَماء "Oaxaca "
ضَخْمٌ وأَخْضَر قاتِمٌ مِثلَ شَجَرَة،
مُتَكَلّمًا لِوَحْدي مِثْلَ ريحٍ َمْجنونَة
وبالوُصولِ إلى غُرْفَتي – الغُرْفَة دائِمًا -
أَلَمْ تَتَعَرّفْ عَلَيّ المَرايا؟
فَمِنْ فُنْدُقِ "فَرْنيه" رَأَيْنا الفَجْر
يَرْقُصُ مَعَ أَشْجارِ الكِسْتْناء:
"إنَّ الوَقْتَ جِدّ مُتَأَخّر"
قُلْتِِ وأَنْتِ تَتَمَشّطين،
وأَنا أَما رَأَيْتِ بُقَعًا عَلى الجِدار
دونَما أَنْ أَنْبُس بِكَلِمَة؟
أما صَعَدْنا مَعًا إلى البُرْج؟
أما رَأَيْنا سُقوطَ المَساءِ مِنْ الشّاهِق الصّخْري؟
أما أَكَلْنا العِنَبَ في "بيدار"؟
أما اشْتَرْينا "الجارْدينْيا" في "بَيْروتَه؟"
أَسْماءٌ، أَماكِن، شارعٌ بَعْدَ الآخر،
وجوهٌ، أَسْواقٌ، شَوارِعٌ،
مَحَطّاتٌ، مَراحٍ للٍسّياراتِ، غُرَفٌ وحيدَة،
بُقَعٌ على الجِدار، أَحَدٌ ما يَتَمَشّط،
أَحَدٌ ما يُغَنّي إلى جانِبي، أَحَدٌ ما يَرْتَدي ثِيابَه،
غُرَفٌ، أَماكِنٌ، شَوارِع، أَسْماءٌ، غُرَف،
---
مَدْريد، 1937 ،
النِّساءُ عِنْدَ ساحَةِ "المَلاك"
يُدَرْدِشْنَ ويُغَنّينَ مَع أَطْفالِهِنّ
وصَوّتَتِ الإنْذاراتُ فَماجَ الصُّراخ
ورَكَعَتِ البُيوتُ في الغَبَرَة،
أَبْراجٌ مُذابَة، جِباهٌ مَنْحوتَة
وإعْصارُ المُحَرِّكات، تَصَوَّر:
تَعَرّا الاثْنانِ وتَحابا
مِنْ أَجْلِ الدّفاعِ عَنْ قِسْْمَتِنا مِن الأَبَدِيّة
حِصّتُنا مِنَ الزّمَنِ، ومِنَ الفِرْدَوْس،
لِمْسّ جُذورنا والْتِحافنا،
اسْتِرْجاعِ إرِثِنا المُنْتَزَع
مِنْ طَرَفِ لُصوصِ حَياة، لأَلْفِ قَرْنٍ مِنْ قَبْلُ
الاثْنان نَزَعا ثِيابَهُما وتَبادَلا القُبَل
لأَنّ العُرْيَ المُعانِقَ لِنَفْسِه
يَقْفِزُ مِن على الزّمَنِ وهُوَ مَنيع
لا شَيْءَ يَمَسّهُ، يَعودُ إلى البَدْء
لا تَواجُدَ مِنْكَ ولا مِنّي،
لا غَدًا، لا أَمْسَ ولا أَسْماء،
الحَقيقَة لاثْنَيْن
في جَسَدٍ واحِدٍ وروحٍ واحِدَة
أَيّها الإِنْسانُ الكامِلُ ...
غُرَفٌ في انْحِراف
بَيْنَ مُدُنٍ تَمْشي شاقولِيّا
غُرَفٌ وشَوارِعٌ، أَسْماءٌ مِثْلَ جِراح
والغُرْفَةُ ذاتُ النّافِذَة
التي تُشْرِفُ على الغُرَفِ الأُخْرى
بِنَفْسِ الوَرَقِ الباهِتِ والمُصْفَرّ
حَيْثُ رَجُلٌٌ لابِس قمَيصًا يَقْرَأُ الجَريدَة
حَيْثُ تَعْبُرُ مِن جَديد امْرَأَةٌ، الغُرْفَةَ الوَضيئَة
التي تَزورُها أَغْصانٌ مُشْمِشَةٌ،
الغُرْفَةُ الأُخْرى: في الخارِجِ المَطَرِ دائِمًا
وثَمّةَ ساحَةٌ صَغيرَةٌ وثَلاثَةُ أَطْفالٍ مُؤَكْسَدين
الغُرَفُ هي سُفُنٌ تَتَهادى
في خَليجٍ مِنَ الضّوْءِ، حَيْثُ الغَوّاصات:
الصَّمْتُ يَتَفَسّحُ إلى أَمْواجِ خَضْراء
وكُلّ ما نَلْمَسُه يُصْبِحُ فُسفورِيّا،
أَضْرِحَةٌ رَفيعَة، وقَد أُعِدّتْ مِن قَبْل
صُوَرٌ شَخْصِيّة، وأُعِدّت الزّرابي أَيْضا،
مَخابِئ، خَلايا، مَغاوِر مَسْحورَة
"مَطائِر" وغُرَفٌ مُرَقّمَة،
الكُلّ قَد تَحَوّل، كُلّ شَيء أَقْلَعَ مُحَلّقًا،
كُلّ ناتِئَة هي غَمامَة،
كُلّ باب يَطُلّ على البَحْر،
على الحُقول، عَلى الهَواء،
كُلّ طاولَة هي وَليمَة،
وكُلّها مُنْغَلِقَة على نَفْسِها كَما الأَصْداف
الزّمَنُ يُحاصِرُهُم عَبَثًا،
لا يوجَدُ زَمَنٌ، لا، ولا جِدار: الفَضاءُ، الفَضاء،
افْتَح يَدَه، واخْتَر لَكَ هذا الغِنى،
اقْطَع الفَواكِه، تَناوَل شِريحَة مِن الحَياة،
تَمَدّدْ عِنْدَ قَدَمِ الشّجَرة، اشْرَب الماء !
---
كُلُّ شَيْءٍ يَتَحَوّل ويُصْبِحُ مُقَدّسًا،
إِنّهُ مَرْكَزُ العالَم في كُلّ غُرْفَة،
إِنّها اللّيْلَةُ الأولى، اليَوْمُ الأَوّل،
يولَدُ العالَمُ حينَ يَتبادَلُ القُبَلَ اثْنان،
قَطْرَةُ ضَوْءٍ وُلِدَتْ مِن مَفاصِلَ شَفّافَة
تَتَفَتّحُ الغُرْفَةُ مِثْلَ فاكِهَة
أو تَنْفَجِر مِثْلَ كَوْكَبٍ صَموت
والقَوانينُ قد قَضَمَتْها الجُرْذان،
وشَبابيكُ البَنوك والسُّجون،
شَبابيك مِن وَرَق،
وقِضْبانٌ حَديدِيّةٌ مُسَيّجَة،
الطّوابِع والأَشْواك والقَوارِص،
القِسْمُ الأُحادي الصَّوْتِ لِلأَسْلِحَة،
العَقْرَبُ المَعْسولُ يَحْمِلُ طاقَيِة،
النّمِرُ ذو القُبّعَة المُسْتَديرَة، رَئيسًا، للِنّادي
لِنادي ِالنّباتيّين للِصّليبِ الأَحْمَر
الحمار مُرَبّي، التِّمْساحُ قد أَصْبَحَ مُنْقِذًا لِلْبَشَرِيّة،
أَبًا للِشّعوب، السّيِّد، القِرْش، مُهَنْدِسُ المُسْتَقْبَل،
خِنْزيرٌ بِبَزّةٍ نٍظامِيّة،
ابنُ الكَنيسَة المُقَدّس
الذي يَغْسِلُ طاقَمَ الأسْنان السّوْداء
بالماءِ المُبارَكِ ويَتّخِذُ دُروسًا
في الإنْجْليزِيّة وفي الدّيمُقْراطِيّة،
الحَواجِزُ المُسْتَتِرَة، الأَقْنِعَة المُتَعَفّنَة
التي تَقْسِمُ إِنْسانَ الإنْسان،
ضِدَّ إِنْسانِ إِنْسانِه
إنّها تَتَساقَط
في لَحْظَة واحِدَة هائِلَة،
ونَلْمَحُ مِن خِلالِها
وحَْدَتُنا الضّائِعَة،
حالَةُ الضّيْق لِلْبَشَر،
حالَةُ العَظَمَة لِلْبَشَر
واقْتِسامُ الخُبْزِ، الشّمْسُ، المَوْت
حالَةُ النِّسْيان الرّهيب لِلْبَشَر،
---
أنْ تُحِبَّ هو أَنْ تُقاتِل،
إذا اثنانِ تَبادَلا القُبَل
يَتَبَدّلُ العالَم، ويوحي بِالرّغَبات،
الفِكْرَةُ المُجَسّدَة،
تَنْمو الأَجْنِحَة
على ظَهْرِ العَبْد،
العالَمُ واقِعِيّ ومَحْسوس،
والخَمْرُ خَمْر،
ويَسْتَرْجِعُ الخُبْزُ طَعْمَ الخُبْز، والماءُ ماء،
أَنْ تُحِبّ هو أَن تُقاتِل، أَنْ تَفْتَحَ الأَبْواب،
وأَنْ تَكُفّ أَخيرًا أَنْ تَكونَ شَبَحًا بِرَقَم تَسْجيل
مَحْكومًا بِالمُؤَبّد إلى السّلاسِل
من طَرَفِ سَيّدٍ لا وَجْهَ لَه
العالَمُ يَتَغَيّر
إذا اثنانِ تَبادلا النّظَرَ وتَعارَفا،
أنْ تُحِبّ هو أن تَتَعَرّى مِن الأَسْماء:
دَعْني أكونَ مومِسًا لَكَ، إنّها كَلِمات
"هيلوييز"، ولَكِنّهُ خَضَعَ لِلْقَوانين،
واتّخَذَها كَزَوْجَة
ومُكافَأَة لَه
أُخْصِيَ في نِهايَةِ الأَمْر؛
الجَريمَة كانَت سَتَكونُ أَفْضَل
العُشّاقُ المُنْتَحِرين،
ارْتِكابُ المَحارِم
عِنْدَ الإِخْوَة مِثْل مِرْآتين
مولَعَتَيْن بالشّبَه فيهما
الأَفْضَلُ أَكْل الخُبْزِ المُسَمَّم،
الزِّنى في أَسِرّةٍ مِن رَماد،
الغَرامِياتُ الشّرِسَة، الهَذَيان،
اللّبْلابُ المَسْموم،
اللّوطي الذي يَحْمِلُ قُرُنْفُلَة عِنْدَ العُرْوَة، بُصاق،
الأفْضَلُ أَنْ تُرْجَمَ
في السّاحاتِ العُمُومِيّة
مِن أَنْ تَتْرُكَ تَقَلّبَ عَجَلَةِ القَدَر
التي تَعْصِرُ جَوْهَرَ الحَياة لِغايَة اللُّبّ
تَتَبَدّلُ الأَبَدِيّةُ إلى ساعاتٍ جَوْفاء،
والدّقائِقُ إلى سُجون
والزّمَنُ إلى عُمْلَة نُحاسِيّة وبَرازٌ مُجَرّد
---
العِفّةُ أَفْضَلُ،
زَهْرَةٌ لا مَرْئِيّة
تَتَهادى في سيقان الصّمْت
هذِه الجَوْهَرَةُ الصّعْبَة لِلْقِدّيسين
التي تُصَفّي الشّهَوات، وتُشْفي غَليلَ الزّمَن،
أَعْراسٌ لِلطّمَأْنينَة والحَرَكَة،
تُغَنّي العُزْلَةُ في تُوَيْجَتِها،
كُلّ ساعَةٍ هي بَتَلَة مِن البِلّوْر،
يَتَعَرّى العالَمُ مِن مَجازِرِه
وفي مَرْكَزِه، مُتَذَبْذِبَة وشَفّافَة،
ذاكَ الذي نُسَمّيهِ إلاهاً، المَخْلوقُ بِلا اِسْم،
يَتَأَمّل نَفْسَهُ في لا شَيْء، المَخْلوقُ بِلا وَجْه
يَتَجَلّى خارِجًا مِن نَفْسِه، شَمْسٌ مِنْ بَيْنَ الشّموس،
امْتِلاءٌ مِن بَيْنَ الحُضور والأَسْماء
---
أُتابِعُ هَذياني، غُرَفٌ، شَوارِع،
أَمْشي خَبْطَ عَشْواءَ عَبْرَ مَمَرّات الزّمَن
وأَرْتَقي وأَنْزِل دَرَجاتها وجُدْرانِها،
أَتَحَسّسُ ولا أَتَحَرّكُ،
أعودُ من حَيْثُ ابْتَدَأْتُ،
أَبْحَثُ عَن وَجْهِك،
أَمْشي عَبْرَ شَوارِعَ نَفْسي
تَحْتَ شَمْسٍ بِلا سِنّ وأَنْتِ إلى جانِبي
تَمْشينَ مِثْلَ شَجَرَة، مِثْلَ نَهْر
تَمْشينَ وتُكَلّمينَني مِثْلَ نَهْر
تَنْمينَ مِثْلَ سُنْبُلَة بَيْنَ يَدي،
تَرْتَعِشينَ مِثْلَ سِنْجابٍ بَيْنَ يَدي،
تَطيرينَ مِثْلَ أَلْفِ طائِر،
ضحْكَتُكِ قد غَطّتْني بِالزّبَد،
رَأْسُكِ كَوْكَبٌ جِدّ صَغير بَيْنَ يَدي،
يَخْضَرُّ العالَمُ إذا ما ابْتَسَمَت
وأَنْتِ تَأْكُلينَ بُرْتُقالَة
يَتَغَيّرُ العالَم
إذا اثنانِ، في دَوْخَةٍ ومُتعانِقان،
سَقَطا في الرّبيع: يَنْزِلُ المَساء
تَنْدَفِعُ الأَشْجارُ، الفَضاء
وَحْدَه الفَضاء نورٌ وصَمْتٌ، وَحْدَه الفَضاء،
يَتَفَتّحُ في نَظَرِ جُؤْجُؤ العَيْن،
تَمُرّ قَبيلَةُ الغُيومُ البَيْضاء،
الجَسَدُ يَقْطَعُ حِبالَ مَرْكَبِه،
تَنْدَفِعُ الرّوح،
نَفْقِدُ أَسْماءَنا ونَطْفو
في انْحِدار بَيْنَ الأَزْرَقِ والأَخْضَر
زَمَنٌ مُطْلَقٌ حَيْثُ لا شَيءَ يَحْدُث
لا شيءَ سِوى مُرورَهُ السَّعيد
---
لا شَيءَ يَحْدُث، تَصْمُتين، تُرَمّشين بِجُفونِك
( سكوت: مَلاكٌ قَد عَبَرَ في هَذه اللّحْظَة
كَبيرٌ مِثْلَ حَياة مائَة شَمْس)،
لا شيءَ يَحْدُث، فَقَطْ هذا التّرْميش؟
- والوَليمَةُ، الصّحْراء، الجَريمَة الأولى
فَكّ حِمار، الصّخَبُ الكَثيف
والنّظْرَةُ الجاحِدَة لِلْمَيّت
وساقِطًا في المِساحَةِ المُرَمّدَة،
"أغامَمْنون" وخُوارُه الهائِل
وصُراخُ "كاساندرا" المُرَدَّد
أَكْثَرَ قُوّة مِن صُراخِ الأَمْواج
سُقْراطُ مُقَيّدًا (الشّمْسُ تولَد، تَموتُ، تَسْتَيْقِظ :
"كريتون" ديكٌ لِ"إسْكولاب"،
وهأَنَذا قَد شفيتُ إلى الأَبَد)؛
ابنُ آوى الذي تَخَلّى عَن مَكانِه بَينَ الأَنْقاض
من "نينوى"، الظّلّ الذي رَأى "بْروتس"
قَبْلَ المَعْرَكَة، "مكتزوما"
في فِراشِ شَوْكٍ أَرّقَه،
السّفَرُ في الطّريق الكَبير نَحْوَ المَوْت
- السّفَرُ غَيرَ المُتناهي، ولَكِن مَرْوِيّا
مِن قَبْلِ "روبس بيير" دَقيقَة بَعْدَ دَقيقَة،
فَكّه المَكْسور بَيْنَ الأيادي-
"شروكا" في بِرْميلِه الكَبير مِثْلَ عَرْشٍ قاني
والخُطُواتُ المحْصِيّة
ل"لنكولن" وهو خارجٌ مِنَ المَسْرَح،
دَوْرُ "تروتسكي" وهذا النّحيب
للخَنازير، "مادير" ونَظْرَته
التي لا أَحَدَ أَجابَ عَلَيْها: لماذا يَقْتلونَني؟
الشَّتائِمُ، التّأَوّهات، صَمْت
المُجْرِمُ، القِدّيس، الشّيطان الشّقِي،
مَقْبَرَةُ جُمَلٍ ونَوادِر
التي تُفَتِّشُها كِلابُ البَلاغَة،
الحَيوانُ الذي يَموت، وهو يُدْرِكُ ذاكَ
مَعْرِفَةٌ مُشْتَرَكَة، لا جَدْوى مِنْها، صَخَبٌ غامِض
للِصّخْرَةِ التي تَسْقُط، الجَرسُ الرّوتيني
لِلْعِظام المَسْحوقَة في المَعْرَكَة
وفَمُ النّبيّ المُزْبِد
وصُراخُه وصُراخُ الجَلاّد
وصُراخُ الضّحِيَّة ...
إنّها شُعَلٌ هي العُيون
وشُعَلٌ ما تَراه،
الشُّعْلَةُ أُذُنٌ، والجرْسُ شُعْلَة،
جَمْرَةٌ هي الشِّفاهُ واللّسانُ جَذْوَة،
اللّمْسُ وما يَلْمَسُه، الفِكْرُ والمُفَكَّر،
شُعْلَةُ ذاكَ الذي يُفَكِّر،
كُلُّ شَيْءٍ اسْتُهْلِكَ، والكَوْنُ شُعْلَة
يَحْرِقُ حَتى هذا الذي لا يُساوي شَيْئًا
والذي لَيْسَ شَيْئًا
وإلاّ "مُفاكَرة" في الشُّعَل، وأَخيرًا الدُّخان:
لَيْس ثَمّةَ لا جَلاّد ولا ضَحِيّة ...
والضّجيجُ
في مَساءِ الجُمُعَة
الذي يَتَغَطّى بِالعَلامات، الصّمْت
الذي يَقولُ بِلا قَوْلٍ، لا يَقولُ شَيْئا؟
إنّهُ لا شَيْء صُراخُ النّاس؟
لا شيءَ يَحْدُثُ حينَ يَمُرُّ الزّمَن؟
---
-لا شَيْءَ يَحْدُث،
وَحْدَها تَرْميشَةُ عَيْنُ شَمْس،
حَرَكَةٌ بالكاد، لا شَيء،
لَيْسَ هُنالِكَ من خَلاص،
لا يَرْجِعُ إلى الوَراءِ،الزَّمَنُ،
الأمْواتُ يَظَلّونَ مُثَبّتينَ في مَوْتِهِم
ولَنْ يَسْتطيعوا أَن يَموتوا بِمَوْت آخَر
لا يُمَسّون، ومُسَمّرون في حَرَكَتِهِم،
مُنْذُ وَحْدَتِهِم، مُنْذُ مَوْتِهِم
بِدونِ تَعْليقٍ لِلأَجَل
يَنْظُرون إِلَيْنا دونَما أَن يَنْظرونا
مَوْتُهُم تِمْثالٌ لِحَياتِهِم،
أَنْ أَبَدًا قَد كُنْتُ لا شَيْء أَبَدًا،
كُلّ دَقيقَة هي لا شَيءَ أَبَدًا،
مَلِكٌ شَبَح يَسوسُ دَقّات قَلْبِه
وحَرَكَتُكَ النّهائِيّة، قِناعُكَ القاسي
مُفْرَغٌ على وَجْهِكَ المُتَبَدّل:
إنّنا نَصْبُ حَياة
غَريبَةٌ ولَيْسَتْ مُعاشَة، بِالكاد حَياتُنا
- الحَياة، مُنْذُ مَتى كانَتْ حَياتُنا؟
مُنْذُ مَتى نَحْنُ ما نَحْنُ عَلَيْه؟
إنّنا لَم نَنْظُر لِبَعْضِنا قَطّ، أبَدًا لَم نَكُنْ
وَجْهًا لِوَجْهِ وإلاّ دَوْخَةٌ وفَراغ،
تَقْطيبٌ في المِرْآة، قَرَفٌ وقَيْء،
أَبَدًا لم تَكُن الحَياةُ مِلْكُنا، إنّها لِلآخَرين،
الحَياةُ لَيْسَت مِلْكًا لأحَد، إِنّنا كُلّنا،الحياة
- خُبْزُ الشّمْسِ لِلآخَرين،
أَنا آخرٌ حينَ أَكونُ، أَفعالي
تَكونُ أَكْثَرُ لي إذا كانَتْ أَيْضًا لِلآخَرين،
مِن أَجْلِ أَنْ أَكون يَلْزَمُني أَنْ أَكونَ آخر،
أنْ أَخْرُجَ مِن نَفْسي، وأَبْحَثُ عَنّي بَيْنَ الآخَرين،
الآخرين الذين لَيْسوا إذا أَنا لم أوجَد،
الآخرين الذين يَمْنَحونَني الوُجودَ التّام،
أنا لَسْتُ، لَيْسَ ثَمّة مِن "أنا"، دائِمًا نَحْنُ آخرين،
الحَياةُ آخَر، دائِمًا هُنالِكَ، أَشَدّ بُعْدا،
خارجًا عَنْكَ، عَنّي، دائِمًا عِنْدَ الأُفُق،
حَياةُ تُحَرّفُنا وتَسْتَلِبُنا،
حَياةٌ تَبْتَكِرُ لَنا وَجْهًا تُعَفِّنُه،
جوعٌ لِلْكَيْنونَة، أَيّها المَوْتُ، خُبْزُ الجَميع،
---

"هيلوييز"، "برسيفون"، "مارية"،
أَظْهِري أَخيرًا وَجْهَكِ حتى أَرى
سَحْنَتي الحَقيقِيّة، التي هيَ لِلآخَرين،
سَحْنَتي لِهَذه "النّحْنُ" دائِمًا لِلْجَميع،
سَحْنَةٌ لِلشّجَرَة والخَبّاز،
للسّائِقِ والغَمامَة والبِحار،
سَحْنَةٌ للِشّمْسِ والنّهْرِ، ل"بيير" و"بول"،
سَحْنَةٌ لِلْمُتَفَرِّد الجَماعي،
أَيْقِظْني، نَعَمْ، أولَد:
حَياةٌ ومَوْتٌ
يُوَقِّعانِ عَهْدًا فيكَ، سَيّدَةُ اللّيْلُ،
بُرْج صَفاء، مَلِكَةُ الفَجْر،
عَذْراءٌ قَمَرِيّة، أُمٌّ لِلْماء الأُمّ،
جَسَدُ العالَم، دارُ المَوْت،
إنّني أَسْقُطُ بِلا انْتِهاءٍ مُنْذُ وِلادَتي،
أَسْقُطُ في نَفْسي دونَما مَساسٌ بِالعُمْق
آويني في عَيْنَيْكِ، جَمّعي الغَبَرَة
المُبَعْثَرَة وصالِحي رَمادي،
قَيِّدي عِظامي المُجَزّأَة، انْفخي على كِياني،
ادْفنيني في أَرْضِك،
صَمْتُ سَلامِكِ نَحِوَ الفِكْر
الثّائِر ضِدّ نَفْسِه؛
افْتَحي يَدَك،
سَيِّدَةَ الحَصاداتِ التي هِي الأَيّام،
اليَوْمُ خالِدٌ، يَطْلَعُ، يَنْمو،
لَقَدْ جاءَ إلى الوُجودِ ولا يَكُفّ أَبدًا،
كُلّ يَوْمٍ هُوَ لِلْوِلادَة، كُلّ إِشْراقَةُ نَهار
هيَ ميلادٌ وَأْصْحو،
نَصْحو جَميعًا، تَنْهَضُ الشّمْسُ وَجْهًا لِلشّمْسِ،
يَسْتَيْقِظُ "جان" بِسَحْنَتِه ل"جان" سَحْنَةً لِلْجَميع،
بابُ الكائِن، أَيْقَظيني، انْهَضْ ...
اتْرُكْني أَرى وَجْهَ هذا النّهار،
اتْرُكْني أَرى وَجْهَ هَذه اللّيْلَة،
كُلّ شَيْء يَتَواصَلُ روحًا ويَتَحَوّلُ
قَوْس دَم، قَنَطَرَةٌ لِدَقّات القَلْبِ،
خُذْني إلى الجِهَةِ الأُخْرى لِهذِه اللّيْلَة،
هُناكَ حَيْثُ أنا أَنْتِ فَإِنّنا نَحْنُ أَنْفُسُنا،
في كُلّيّة الأَسْماء المُتعانِقَة
بابٌ لِلْكائِن، افْتَحْ كائِنَكَ، اسْتَيْقِظ،
وتَعَلّم أَن تَكونَ أَيْضًا، خُذْ قالبًا لِسَحْنَتِك،
اشْتَغِلْ على أَحْرُفِك، كُنْ وَجْهًا
مِن أَجْلِ أَن تَرى وَجْهي ويَراكَ،
مِنْ أَجْلِ رُؤْيَة الحَياة حتى في المَوْتِ،
وَجْهُ البَحْرِ، الخُبْزُ، الحَجَرُ والنّافورَة،
مَنْبَعٌ يُذيبُ وُجوهَنا
في الوَجْهِ بِلا اسْم،
في الكائِنِ بِلا وَجْه،
حُضورٌ لا يوصَفُ مِنْ بَيْنِ الحُضور ...
---
أٌُريدُ أَنْ أُتابِعَ، الذّهابَ بَعيدًا، ولا أَسْتَطيع:
تَنْدَفِعُ اللّحْظَةُ في آخَر وآخَر،
نِمْتُ أَحْلامًا لِحِجارَةٍ لَم أَحْلُم بِها
وفي آخِرِ السّنينَ كَما الحِجارَة
سَمِعْتُ دَمي المَسْمومِ يُغَنّي،
مَعَ إحْياءٍ للِضّياء كانَ البَحْرُ يُغَنّي،
واحِدَةٌ بَعْدَ الأُخْرى هَوَتْ الجُدْران
كُلّ الأَبْوابِ كانَت تَنْهار
والشّمْسُ تَدْخُلُ كَإِعْصارٍ عَبْرَ جَبيني،
تَفَتَّحُ رُموشُ أَجْفاني المُغْمَضَة،
وتَنْزَعُ لِصاقَ كائِني مِن غِلافِه،
تَنْزَعُني مِنّي، تَفْصِلُني عَن نَوْم خَشِنٍ
بِقُرونٍ مِن الحِجارَة
وسِحْرُه المِرْآتي يَسْتَعيدُ حَياتَه
صَفْصافٌ باكٍ مِنْ بِِلَّوْرِ، وحورةُ ماءٍ قاتِم،
انْبِجاسٌ مائِيٌّ عالٍ تُقَوّسُهُ الرّيح،
شَجَرَةٌ مُحْكَمَة الزَّرْعِ ولَكِنْ راقْصَة
مُنْعَطَفُ نَهْرٍ يَلْتَوي،
يَتَقَدّم، يَتَأَخّر، ويَتّخِذ لَهُ طَريقًا دائِريًّا
ويَصِلُ دائِمًا:
- إيهيكاتل 4 –
4 EHECATL

Mexique, 1957 - Octavio Paz
حققت النص الوارد أعلاه:
Juliette Schweisg
- تمت الترجمة وتحقيقها، بقلم فؤاد اليزيد السني – 24-08-2011 -


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.