حُزن الإعلاميين، مغاربة وعرب، يكون كبيرا عند إقفال أية وسيلة إعلامية عربية، لكن حزنهم يكون أكبر عندما يتابعون بكثير من الحسرة جريدة "السفير" اللبنانية وهي تتكفن وتتشهد لتلفظ أنفاسها في أخر يوم من سنة 2016.. فتحية للزملاء الذين حملوا "السفير" بواسطة أقلامهم وجعلوا منها عبر أربعة عقود ويزيد منيرا فريدا من حيث العطاء المتعدد والبذل المتجدد.. ماتت "السفير" بأيام قليلة قبل أن تكتب :" عندما يفضي الربيع العربي إلى بعض الصور الكاريكاتورية، وعندما يصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وعندما تصبح فلسطين القضية والشعار والعلَم والعنوان مجرد صراع عقاري أو صراع على منصب بين متنازل وعميل، وعندما تنتفي الحدود بين العرب ليس لمصلحة وحدتهم بل لأجل تقسيمهم وجعلهم مجرد طوائف ومذاهب وعشائر، عندما نعتاد في صباحاتنا ومساءاتنا على صور الإرهاب والتكفير والموت المجاني، آنذاك يصبح تقهقر السياسة والاقتصاد والثقافة.. والصحافة من البديهيات". ماتت "السفير" العريقة تحت وطأة الثورة الرقمية في وقت تمر فيه الصحافة اليومية العربية بكاملها بأزمة خانقة لها من الانعكاسات ما يجعل البعض يتساءل اليوم إن لم تكن الصحافة الورقية باتت شيئا من الماضي في عصر طغى عليه الإنترنيت والصحافة المجانية. وقد حاولت "السفير" قدر المستطاع، شأنها شأن نظيراتها في الوطن العربي وباقي أنحاء العالم، التكيف مع توزيع في منتهى التراجع، وعائدات إعلانات في تقلص مستمر، وتكاليف متصاعدة إلى حد أن الإعلاميين في كل أنحاء المعمور لا يخفون قلقهم من "زوال تدريجي" للكثير من الجرائد بسبب الإنترنيت. وتتخوف بعض الدوائر الإعلامية من أن يشجع تراجع المبيعات لجوء عدد من العناوين العريقة إلى الأوساط المالية النافدة كمتنفس اقتصادي ضروري بعد أن أحكم عدد من رجال الأعمال سيطرتهم على العشرات من العناوين الصحفية الهامة. قبل الثورة الرقمية كان شراء الصحف قليل عدديا، حيث القارئ لم يكن يدرك بالشكل الكافي مهمة الصحافة ودورها كرادع للتسلط وحارس للحقوق. وعندما جاءت الثورة الرقمية تنفس القارئ العربي الصعداء حيث الأخبار والمعلومات باتت "فابور" مجانية، فغرف منها دون أن يلتفت إلى الفارق بين الخبر الصحيح مصدرا وإسنادا والخبر الضعيف خالي المصدر الذي يزداد ضعفا بعد كل نقلة من موقع إلى موقع آخر. ولم يعد القارئ يرى الفرق بين صحيفة عريقة وازنة موزونة، وموقع إخباري فردي، بل لم يعد يرى أية منفعة إخبارية من صحيفة ورقية مادام الإنترنت يوفر له المعلومة "فابور" وبدون أدنى مشقة. ثم إن بعض هذه المواقع الفردية التي لا سلطة عليها ولا رقيب، تتخذ من الشعبوية سندا لها بل تعتز بشعبويتها وتتفاخر بها، معتقدة أن الشعب (القارئ) بحاجة دائمة إلى أقراص ديماغوجية لتنشيط جانبه العاطفي والمخيالي، فتعمد إلى تكرار نفس الخطاب الشعبوي القائم على التجريم والتخوين، وقد أعطت لنفسها كامل الصلاحية في محاسبة الجميع وهي فوق الناس جميعا. مثل هاته المواقع يحلو لها أن تشرح للقارئ الوقائع والأحداث لا من زاوية المعالجة الهادئة القائمة على التوعية والتنوير، ولكن بنيّة شحنه وتأجيج مشاعره من خلال المعادلة الوهمية التي يقيمونها بين الجلاد (النخبة) والضحية (الشعب) بحيث يصبح كل من يملك ذرة قرار أو ذرة تمثيلية في هذا البلد، محتالا إلى أن يثبت لهم براءته. وفاة "السفير" ومعها الكثير من الصحف العربية العريقة ينذر إذن بضياع وشيك لركائز الإعلام، بعد أن بات كل قارئ يعتبر نفسه "منبراً إعلاميا" بمجرد قراءة "خبر يلائم أهواءه" فينقله وينشره ويزيد من اضطراب الصورة الإخبارية. سبب ثاني في إغلاق الكثير من الصحف قد يكون أشد ضراوة من الصحف المجانية، ويتمثل في: الصحف المجانية التي بينما كانت في بداية نشأتها تقتصر على أخبار قصيرة أغلبها من النوع الطريف، مرفقة بنشرات إعلانية وخدمات تسويقية متنوعة، أصبحت اليوم تمارس جاذبية قوية على القراء من خلال التطرق، وبقدر كبير من الاحترافية، لمختلف مجالات العمل المهني من سياسة واقتصاد وثقافة ومواضيع اجتماعية مختلفة ارتقت من خلالها، نشرا وتوزيعا، إلى مصاف أعرق الصحف تجربة ونفوذا. ويرى الكثيرون في ظاهرة تراجع الإقبال على معظم كبريات الصحف اليومية والأسبوعية، إنذارا حقيقيا لمجالس إدارة الصحف المدعوة اليوم إلى إعادة ترتيب بيتها عبر فتح نوافذ إضافية تجلب ليس فقط الدخل المادي للجريدة، بل أيضا القراء الذين اكتشفوا أن تصفح الجرائد المجانية وجرائد العالم عبر الإنترنت أفضل وأسهل من شرائها. ويتساءل البعض إن لم تكن الصحافة المكتوبة باتت وسيلة إعلام من العصر المنطوي في المجتمعات المتطورة.