مصطفى الكثيري يستحضر دروس التاريخ ويؤكد على التلاحم الوطني الذاكرة الوطنية أساس المناعة الجماعية
من بين محطات التاريخ التي تسطّر بالمداد الغليظ، يظل يوم الرابع عشر من غشت محفورا في الذاكرة الوطنية كموعد تتجدد فيه روح البيعة والوفاء، وتتعالى فيه أصوات الانتماء، وتترسخ فيه معاني الوحدة. هو يوم وادي الذهب، اليوم الذي اختار فيه أبناء الصحراء أن يضعوا أيديهم في يد العرش العلوي المجيد، معلنين للعالم أجمع أن المغرب ليس حدودا مرسومة على الخرائط، بل هو عهد متجدد بين ملك وشعب، وهوية تمتد من طنجة إلى الكويرة. إن الذكرى السادسة والأربعين لاسترجاع هذا الإقليم ليست مجرد استرجاع لحدث مضى، بل هي استحضار لجوهر المشروع الوطني، مشروع الدفاع عن السيادة، وحماية الوحدة الترابية، وبناء مغرب متماسك وقوي في وجه التحديات الإقليمية والدولية. ففي عالم يموج بالصراعات والانقسامات، يظل المغرب يقدم نموذجا خاصا في كيفية تحويل النصر السياسي إلى ورش تنموي، وكيفية جعل الذاكرة التاريخية رافعة للتماسك الوطني، لا مجرد سرد للبطولات. لقد كان الرابع عشر من غشت 1979 أكثر من محطة في مسلسل التحرير؛ كان إعلانا عن قدرة المغرب على هزم مناورات خصومه، وعن إصراره على جعل الصحراء فضاءً للوحدة لا ساحة للصراع. ومنذ ذلك الحين، توالت المبادرات الملكية التي أعطت للأقاليم الجنوبية بعدها الاستراتيجي، وجعلتها واجهة للتنمية ومركز إشعاع إقليمي، في الوقت الذي واصل فيه خصوم الوحدة الارتهان لخطابات متجاوزة ومشاريع وهمية لا تجد سندا لا في التاريخ ولا في الشرعية الدولية. اليوم، بعد ستة وأربعين عاما، تتجدد معاني هذا الحدث في ظل التحولات الكبرى التي يعرفها العالم. فالمغرب، بقيادة جلالة الملك محمد السادس، لم يكتف باسترجاع أرض، بل عمل على كسب رهانات التنمية والاندماج الإقليمي، معززا حضوره الإفريقي والدولي، ومؤكدا أن قضية الصحراء ليست فقط قضية حدود، بل قضية مصير وأفق استراتيجي لمغرب يسعى إلى أن يكون فاعلا أساسيا في فضائه المغاربي والإفريقي. إن تخليد ذكرى وادي الذهب هو دعوة إلى قراءة التاريخ بمنظار السياسة الراهنة، كيف تحولت البيعة إلى تعاقد سياسي واجتماعي يربط الصحراء بباقي ربوع الوطن، وكيف أصبح الدفاع عن الوحدة الترابية جزءا من المشروع التنموي والدبلوماسي للمغرب. إنها مناسبة لتأكيد أن المغاربة، على اختلاف مواقعهم، يجددون العهد بأن الوحدة الترابية خط أحمر لا يقبل المساومة، وبأن التنمية خيار استراتيجي لا رجعة فيه. وهكذا، يطل الرابع عشر من غشت من جديد، لا ليحكي ما كان فقط، بل ليؤكد ما هو كائن وما سيكون، وطن موحد، قوي، يسير بخطى ثابتة نحو المستقبل، مستندا إلى تاريخه العريق، ومسلحا بإجماع شعبي وشرعية تاريخية ودبلوماسية متجددة.