أول مصنع من نوعه خارج القارة الآسيوية .. المغرب يدخل عصر البطاريات الخضراء باستثمار 20 مليار درهم    "الفناير".. الفن الجاد والتطور المتواصل أساس الاستمرارية في زمن التحديات الرقمية        أسبوع دامٍ في المدن المغربية.. مصرع 23 شخصًا وإصابة أزيد من 2800 في حوادث سير    تطورات مأساة طنجة.. وفاة الشخص الذي أضرم النار في جسده بعد خلاف تجاري    ابتلاع كيس يحتوي على مخدرات يودي بحياة موقوف بطنجة خلال تدخل أمني    انقلاب شاحنة على الطريق الوطنية رقم 2 باقليم الحسيمة يخلف اصابات    رئيس الحكومة يترأس اجتماع مجلس الرقابة للقرض الفلاحي للمغرب    بعد وفاة مؤسسه بنعيسى... موسم أصيلة الثقافي الدولي يواصل مسيرته بصيغة صيفية حافلة بالفنون    انطلاق أول عملية توريق للديون المتعثرة وأخرى قيد الإعداد    ارتفاع حصيلة شهداء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 56 ألفا و156 منذ بدء الحرب    إيران تؤكد أن منشآتها النووية "تضررت بشدة" جراء الهجمات الأميركية    مبادرة مدنية ترفض حرمان الجمعيات من التبليغ عن الفساد وتعتبره دوسا على الدستور والالتزامات الدولية للمغرب    الملك محمد السادس يهنئ أمير قطر بذكرى توليه الحكم    نشرة إنذارية: موجة حر مع الشركي من الأربعاء إلى الاثنين بعدد من مناطق المملكة    ولد الرشيد: الأقاليم الجنوبية أصبحت منصة اقتصادية إستراتيجية تربط بين إفريقيا وأمريكا اللاتينية    اجتماع بوزارة الداخلية لتحديد معايير استخراج أسماء المدعوين لأداء الخدمة العسكرية برسم الفوج المقبل للمجندين    السياحة المغربية تحقق أداء قويا في 2025 بارتفاع العائدات وعدد السياح    دراسة تحذر: انتكاسات كبيرة في برامج التلقيح تعرض الأطفال لخطر الأمراض القاتلة        كأس العالم للأندية.. طاقم تحكيم كندي بقيادة درو فيشر يدير مباراة العين الإماراتي والوداد الرياضي    موجة حرّ شديدة تضرب مناطق بالمغرب    طنجة.. كلب يهاجم فتاة وسائق يدهس شابا ويلوذ بالفرار    ربط "أخضر" بين إسبانيا والمغرب.. بواخر كهربائية دون انبعاثات تبدأ الإبحار في 2027    المنتخب المغربي النسوي يبدأ تحضيراته استعدادا لكأس أمم إفريقيا        بنكراد: معظم المحتجين في 20 فبراير بمجرد ما عرضت عليهم المناصب ذهبوا لها وانفضوا    بكين.. مؤتمر يستكشف أوجه التعاون الصيني – المغربي في قطاع السياحة    هولوغرام "العندليب" يجر إدارة مهرجان "موازين" إلى ردهات المحاكم    الرباط.. انعقاد الاجتماع ال74 للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء العدل العرب    مع استمرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران جيش الاحتلال يواصل استهداف غزة واتصالات لوقف الحرب وسط وعود جديدة لترامب    عودة الدواجن البرازيلية إلى الأسواق المغربية بعد زوال المخاطر الصحية    بسبب أزمة مالية خانقة.. معاقبة نادي أولمبيك ليون الفرنسي بالهبوط للدرجة الثانية    استقالة "قاضية الفضيحة" تُعيد محاكمة مارادونا إلى نقطة الصفر    أكاديمية المملكة تنظم تظاهرة دولية    النقابة الوطنية للعاملين بالتعليم العالي تجدد تمسكها بالوحدة النقابية وتدعو إلى الإضراب يوم 2 يوليوز    مقتل 6 من جنود اسرائيليين في قطاع غزة    إيران تنظم السبت جنازة قادة وعلماء    مجلس النواب الأميركي يرفض مبادرة لعزل ترامب    الجواهري: الإبقاء على سعر الفائدة الرئيسي بسبب تصاعد حالة اللايقين العالمية    جدول أعمال دورة يوليوز يكشف إفلاس مجلس جهة سوس ماسة وافتقاده للرؤية التنموية.. وأشنكلي يصدم رؤساء جماعات    كأس العالم للأندية 2025.. تعادل بوكا جونيورز الأرجنتيني وأوكلاند سيتي النيوزلندي (1-1)    ترامب يؤكد مجددا أن المواقع النووية في إيران "دمرت بالكامل"    كأس العالم للأندية لكرة القدم.. فلامنجو البرازيلي يتعادل مع لوس أنجلوس الأمريكي (1-1)    ثلاثية تشيلسي تقصي الترجي التونسي    أموال الناظور تمول مدنا أخرى.. أين الأبناك من تنمية المنطقة ودعم الرياضة والثقافة كما أرادها جلالة الملك؟    مجموعة بريكس تدعو إلى "كسر حلقة العنف" في الشرق الأوسط    والي بنك المغرب يدعو الحكومة إلى إنجاح برامج تمويل المقاولات الصغرى    الرجاء ينال المركز الثالث بكأس التميز    مؤسسة أحمد الوكيلي تطمح إلى إخراج "الآلة" من النخبوية الموسيقية    بعد غياب طويل.. عودة الإعلامية لمياء بحرالدين للساحة الإعلامية بشكل جديد    دراسة تكشف ارتفاع معدلات الإصابة بالتهاب المفاصل حول العالم    قهوة بالأعشاب الطبية تثير فضول زوار معرض الصين – جنوب آسيا في كونمينغ    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الماكرو والميكرو سرد
قراءة في نصوص سمية البوغافرية1
نشر في العلم يوم 05 - 04 - 2013


ميدوزا وحكاية تحويل
هي مفارقة صارخة أن نقرأ لكاتب رواية في نحو ثلاثمائة صفحة أو أكثر، وفي نفس الوقت نقرأ له مينيقصة في أربعة أسطر أو خمسة أسطر. وهي مفارقة مطلوبة وضرورية في هذه المرحلة، يفرضها التعامل مع الأزمنة الراهنة. فالنمط الأول يحتاج إلى وقت ممتد وإلى كتابة موسعة وشاملة ومتفرعة ومنزاحة. ويحتاجه القارئ الذي يعتبر هذا النمط باذخا بسرده وشخصياته وأحداثه، يحتاج لوقت مناسب لابد أن يتوفر، وهو لديه نافذة واسعة ومشرعة على العالم، ينظر إليه، من خلاله، ببصره وبصيرته المجردين. وأيضا هو في حاجة إلى نمط يقرأه في لحظة مركزة، خاطفة، أكلة سريعة، أثناء عمله أو استراحته، يريد نمطا يمثل كوة ضيقة، ينظر من خلالها إلى العالم، لكنها كوة بزجاج مكبر، تجعل النص لصيقا بالذاكرة ملحا على تشغيل التأمل لأكثر من يوم... وإذا كان النمط الأول يجعل هذا القارئ يفكر ويتأمل ويتفاعل ويتمتع، اعتمادا على عطاء الكاتب وتوسيع مادته حيث لا يحتاج القارئ لمجهود إضافي في إعادة بناء النص السردي وتوسيعه، فإن النمط الثاني يركز التفكير ويصفي التأمل ويستفز التخييل ويكثف القدرة على الخلق والإنتاج الممتعين أيضا، فتضغط كل كلمة وكل جملة، ضمن هذا النمط، في اتجاه التفكير والتأمل وإنتاج الدلالة وإعادة تشكيل القصة.
خلال هذه المفارقة أقف عند نماذج من الكتابات في كلا النمطين، وأبدأ ببعض نصوص الكاتبة المغربية سمية البوغافرية من خلال روايتها «زليخة»2، ومجموعتها القصصية «أقواس»3. وقد صدرت للكاتبة مجموعتان قصصيتان هما، «أجنحة صغيرة»4 و»رقص على الجمر»5، قبل تلك الرواية، وبعد الرواية صدرت مجموعة «أقواس»، بميثاق «قصص قصيرة جدا». وأقف في هذه المجموعة عند مينيقصتين، الأولى بعنوان «منفضة» والثانية، «تجهم ينذر بعاصفة».
«زليخة» اسم علم، يشير إلى أن الرواية تتتبع شخصية نسائية، بهذا تتقاطع، مثلا، مع رواية «عزوزة» للمبدعة المغربية الزهرة رميج، فعزوزة أيضا اسم علم لشخصية نسائية، شخصية قوية متمردة تواجه بعض العادات والتقاليد الضاغطة على المرأة، وكذلك شخصية «زليخة»، واجهت وتمردت، وأحبت زوجها وأحبها مثل عزوزة، ثم عانت من زوجها كما في عزوزة، وهي كذلك تشير إلى بعض ما اهتمت به رواية «عزوزة» من الثقافة الشعبية، غير أنهما يختلفان اختلافا شاسعا في البناء السردي وتشكيل الشخصيات والفضاءات والأزمنة أيضا... و»زليخة» تتقاطع كذلك مع رواية «جنوب الروح» خاصة في هجرة الشخصية الأصل، حمزة في «زليخة» والفرسيوي في «جنوب الروح»، هروبا من الحروب بين قبائل الريف ليؤسس الأول قرية زاهية، هي «بوحمزة»، ويؤسس الثاني قرية أكثر ازدهارا هي بومندرا... وتتقاطع في توظيف عبارات أمازيغية خلال الصفحات الأولى، مع «الخبز الحافي» للمرحوم محمد شكري. غير أنها تقاطعات جزئية، لأن البناء الأساسي والتيمات والدلالات جد مختلفة... فزليخة، لها جسدها الخاص الموشوم بإبداعية خاصة بسمية البوغافرية، كما أن للروايات المذكورة كياناتها المميزة، كيانات معقدة وعميقة وممتعة ومثيرة للتأمل.
«زليخة»، رواية شخصية
تتتبع، أساسا، شخصية زليخة منذ طفولتها الأولى، وهي تتشرب العنف المسلط على المرأة في القرية، عنف الثقافة السائدة، عنف يمارسه الرجل وتمارسه المرأة على نفسها وعلى بنات جنسها. عنف يزرع الرعب في الطفلة من خلال الشخصية الأسطورية «حمزة» ومن خلال شخصية جدتها المتسلطة. هو عنف شكل نفسية زليخة وهيأها للتمرد. الطفلة التي تمتعت بالطبيعة الطبيعية في قريتها ترعى معزتها وتتعلم الحروف في صخرة تكتب عليها بقطعة فحم.. زليخة تتأمل في صمت معاملة الأسرة للطفل وللطفلة، فالطفل هو المحور والقطب، والطفلة هي الضعف والإخضاع والصمت بل هي عورة. وهي تنتقل من القرية إلى المدينة، وتفرض انتماءها للمدرسة ثم ترفض الزواج المبكر بطريقتها الخاصة الساخرة، ثم وهي تتزوج برغبتها وتنجب وتربي... زليخة وقد تعلمت في البيت وفي المدرسة وفي بيت الخياطة، شكلت شخصيتها وهويتها الخاصتين... حين نصل مرحلة الشيخوخة من حياتها نجدها كيانا ممتلئا اجتماعيا وتربويا وسيكولوجيا وعلميا وإنسانيا، هي نموذج البطلة الكاريزمية كما هي نموذج للبطلة الإشكالية...
«زليخة»، رواية أسرة
اهتمت الساردة، إلى جانب زليخة، بالجدة وبأبيها وأخيها. وهي في طفولتها كانت حاقدة على بنات جنسها، الجدة في سطوتها وشدة تحكمها، الأم الخاضعة الخنوعة إلا على بناتها، أخوها الذي يهتم به الجميع بما في ذلك هي، مرغمة، غير أنها تحب أباها لأنه يفضلها ويداعبها ويحميها، ثم تتمرد على تحكم الجميع. فتمثل نموذج الأسرة الجديدة، بدءا من النواة الأولى مع أبيها إلى أسرتها الخاصة، التي ألغت من ذاكرتها الأسرة الأولى. هي أسرة انبثقت منها أسر توالدت، أسرة الجدة ثم أسرة الأب والأم ثم أسرة زليخة وسعيد ثم أسر الأبناء، كل أسرة تنبثق، تختلف عن السابقة وتكاد تلغيها..
رواية جيلية
من خلال تلك الأسر الأربع المتعاقبة قدمت الرواية أربعة أجيال، جيل حمزة الأسطوري والجدة بقسوتهما، فقد كان جيلا ممتلئا بالفكر الأسطوري والعنف، إذ حرم على المرأة ان تنظر إلى السماء لأن ذلك يحرم الأرض من غيث السماء ويورث الجفاف، بل إذا تجرأت المرأة على رفع عينيها سيتربص بها حمزة ويمتص دمها، وحمزة هو الذي سطر الأعراف وقوانين القرية التي أسسها، وكرس انحناء رؤوس النساء واستكانتهن... ثم جيل الأعمام الشبيه بسلفه، باستثناء الأب فيه الذي خفت قسوته، ثم جيل زليخة وأخيها مهدي وزوجها سعيد، جيل انخرط في مشروع المجتمع الحديث، ثم جيل ابنيها وزوج ابنتها. كل جيل يضيف جديدا للسابق، إذ من خلال الأجيال الأربعة نؤرخ بتحولات المجتمع الريفي بعد الاستقلال، تأريخا لمستويات التحضر والتعلم والحياة عموما...
رواية نهرية
نهرية في بنائها السردي، تبدأ ببداية طفولة الشخصية (زليخة) أو بولادتها (مهدي)، وتتتبع الساردة الشخصية في جزئيات تكونها، وهي تمتلئ تدريجيا امتلاءا سيكولوجيا واجتماعيا وثقافيا، أي بما توفره الأسرة وفضاءاتها. من خلال هذه الشخصية تفتح الساردة نافذة على الأسرة وتفتح الأسرة نافذة موسعة ومشرعة على محيطها، فنعرف واقع هذا المحيط الاجتماعي وأبعاده الثقافية وعلاقاته الداخلية وتحولاته... تعتمد نهرية الرواية على الوحدات التقليدية الثلاث، البداية، العقدة، النهاية، وهي هنا تستثمر بنية الحكي الشعبي، حين تنطلق، في البداية، من جو أسطوري مرعب تمثله شخصية أسطورية، حمزة الذي سميت القرية باسمه (بوحمزة)، ثم تنطلق الشخصية الرئيسية في مغامراتها الخفيفة التي تتعقد فيها الأحداث وتتجاوزها، إلى ان نصل نهاية الحكاية، وهي نهاية سعيدة شبيهة بنهاية الحكاية الشعبية، التي تتلخص في زواج البطل أو في عودته إلى بلدته، وقد جمعت الرواية معا بين العودة (عودة الزوج الذي هاجر زوجته زليخة بعد الطلاق) والزواج (زواج سعيد وزليخة من جديد). إلى جانب هذا الاستثمار للحكي الشعبي، تغرق الرواية في الواقعية التسجيلية القريبة من الانعكاسية، سواء بتغلغلها في العلاقات الاجتماعية أو في مستوى تغلغلها في نفسيات الشخصيات. تتخلل تلك الواقعية مقاطع رومانسية واسعة تركز على جمال الطبيعة وتأثيره في الذات وعلى الحب في حرارته وإنسانيته ومتعته.
لذلك يتسع الزمن في النص منطلقا من أواخر عهد الاستعمار إلى زمننا الحالي، وهو زمن نهري أيضا كرونولوجي ومنطقي. وحركية الزمن تناسبها حركية الشخصية، الطفولة، اليفاعة، الشباب ثم الشيخوخة، وتوائمها حركية الفضاء، القرية ببساطتها وتماسك علاقاتها، ثم المدينة بتعقيداتها وتفكك تلك العلاقات، ثم القرية من جديد بتحولاتها وتمدنها...
تلك هي المكونات الرئيسية المهيمنة في هذه الرواية، حسب قراءتي، تشكل المرأة البطلة طاقتها الدينامية وكأن لها عيني ميدوزا القادرة على التحويل، هنا تحويل المجتمع وحكاية المرأة معا، من خلال التاريخ عبر الفرد والأسرة والجيل. إلى جانب القدرة على التحوييل ترصد أيضا التحولات الاجتماعية والتاريخية والثقافية، ضمنها التحولات الجمالية في الكتابة الأدبية، والتحولات السيكولوجية...
ولعل جزءا مهما من هذا المهيمن نجده أيضا في المينيقصتين المذكورتين. فنعود إلى مجموعة «أقوس»، التي تضم سبعة وثمانين مينيقصة، تعالج شتى التيمات المتعلقة بالإنسان عموما وبالمرحلة وواقعها، غير أني أردت أن أختار هذين النصين المشتغلين على وضعية المرأة وعلاقتها بالرجل انسجاما مع ما طرحته رواية «زليخة». وأقف عند النص الأول «منفضة»6،
ظل سنوات يراودها، وسنوات أخرى يروضها.ثم ألبسها القالب الذي يرتضيه ثم تنهد، وأخذ عقب سيجارته... يطفئه في عينيها.
هي المينيقصة الأولى في مجموعة «أقواس»، تتكون من تسعة أسطر سطران منها مجرد نقطتين، وسطران بمؤشري العطف (ثم). من المفروض أن يقوم القارئ بملء الأسطر الأربعة البيضاء والتي تلح الساردة على ضرورة ملئها. يمكن توسيع المينيقصة، شرحا، عوض تلخيصها، بل هو تلخيص للمضمر، بالشكل التالي: كان يحبها فراودها زمنا طويلا إلى أن تمكن منها، حين تمكن منها أضحى يراها أشبه بحيوان نافر، فأخذ وقته ليروضها بالتدريج ويكيف وجودها مع رغباته، إلى أن انتهت طوع يديه، فخضعت واستكانت وتبعت، فحولها إلى ما يشبه الدمية يحركها كما شاء، ثم فكك كيانها وحولها إلى شيء، شيء تافه، أهم ما فيه العينان الميتتان جعلهما منفضة يطفئ فيهما سيجارته...
في النص شخصيتان، في البداية رجل وامرأة بمؤشري «ياء» المضارعة و»ه» الغائب، ثم تحولت المرأة إلى ما يشبه حيوان متوحش، والرجل إلى مروض الحيوان، ثم من الحيوان مروَّض إلى شيء، ثم شيء تافه. ليتحول الرجل من مروض إلى شهريار قبل شهرزاد ثم إلى نيرون... تمكنت هذه المينيقصة من أن تنقلنا إلى مراحل التاريخ المختلفة وإلى فضاءات متنوعة وبشكل متداخل، تثيره العبارات في المتلقي وتفرض عليه ما يعرف بتداعي المعاني والأفكار فتنعش ذاكرته مع استفزاز خياله.
وظف النص لفظة «راودها» لتتخذ معنى الرفض والتمنع ومعنى الإصرار والتمني وقوة الإرادة. والترويض لفظة دالة على كل أنواع الإخضاع، بالترغيب والترهيب وتضييق نوافذ الإطلالة على العالم، وفي نفس الوقت تدل على شدة الأنانية وشدة الرغبة في الإخضاع، وعلى تجسيد الرجل للأعراف والعادات والتقاليد... إلى أن أوصلها إلى تلك الدلالة الصادمة للقارئ، تحويل عيني «الحبيبة» إلى منفضة. تعني الألفاظ المؤشرة على الزمن (سنوات، ثم، نقط الحذف) طول الأزمنة، وهذا مؤشر على أن الرجل هنا ليس رجلا واحدا، وإنما هو هيمنة المجتمع الذكوري منذ مئات السنين، إنه الرجل التاريخي والمجتمع في مسيرته الطويلة... لذلك يكاد الفضاء يغيب، ولو بمؤشراته، إلا إذا اعتبرنا بعض الألفاظ (يروض، عقب سيجارة، يطفئ) تدل على مكان مبهم أو على البيت، أي بيت.
«منفضة»، نص ببعض تقنيات القصة، من قفزات سردية تشتغل على الفعل وأدوات الربط، الفعل الذي يشير إلى الأحداث، يراود، يروض، يطفئ. بداية عقدة خفيفة من خلال تلك الأفعال، ونهاية غير منتظرة... وببعض تقنيات قصيدة الشعر، الاستعارة، الرمز وعمق الدلالة؛ الاحتفاء بالإيقاع بتكرار بعض اللفظ (سنوات، ثم) وتكرار روي مزدوج (ها ه). يضمر النص جو القصص الحيوانية ومقاطع ألف ليلة وليلة. مينيقصة تجول بنا في الماضي والحاضر عبر مؤشرات خاطفة تحرك التخييل والذاكرة وتثير العاطفة.
تهيمن تيمة إخضاع وتملك المرأة في مينيقصة أخرى، هي «تجهم ينذر بعاصفة»، والمتن هو التالي:
حبسها في لوحة،ضرب عليها زجاجا، فإطارا.ثم جلس أمامها وقال لها:
هيا.. أشرقي، يا شمس أيامي..
تتكون هذه المينيقصة من أربع جمل، تدل الجملتان الأولان على ضرب حصار مكين حول المرأة، وهو حصار زجاجي شفاف يراها من خلاله، ومكن الزجاج بإطار لمضاعفة الحصار، وقد أدركنا أنه وضع صورتها فقط في الإطار الزجاجي، بينما الجملتان الأخيرتان تشيران إلى التسلي والمتعة والانتشاء بالتملك، يأمرها بالإشراق والإضاءة بعدما أفرغها من طاقتها، أمرها أن تمتعه وتشبع رغباته وتخضع لإرادته... غير أن الصورة هنا مؤشر على كائن حي، وقد رأينا في النص الروائي، «زليخة»، حيوية الصورة، صورة سعاد مثبتة في كتاب مدرسي، تحاورها زليخة الطفلة: «أنت سعاد أكبر مني قليلا.. أنا أيضا سأكبر...»7، وإذا كانت هذه الصورة جامدة أحيتها الشخصية في الرواية، فإن الصورة في هذه المينيقصة حية وحيوية جمدها الرجل في إطار زجاجي، ليخضعها ويتملكها، بعد أن ينزع منها شخصيتها وإرادتها وروحها... ويشكل عنوان النص الجملة الخامسة ربما الأخيرة رغم أنها على رأس النص، لأن كل ذلك التحكم لابد أن يتولد منه تجهم، بداية تمرد، بداية تؤدي إلى عاصفة، إلى ثورة، وهو ما رأينا أهم صوره في الرواية، حين تمردت زليخة على التقاليد المكرسة لاستكانة المرأة، فحققت جزءا من ذاتها وشخصيتها.
يبدو مما استعرضناه أن الكاتبة قد شغلها موضوع المرأة في المغرب، لأنه موضوع ما زال يراوح مكانه، وأن النص السردي بكل أحجامه وطرق بنائه يمكن أن يسهم في تحريرها. لقد كتبت رواية، كنص سردي مطول يجسد المجتمع في شساعته وشموليته وتعقده وتنوع مستويات سرده واتساع أزمنته وفضاءاته وطبيعة بنيته... وتبدو المينيقصص هنا، أحيانا حين تأملها، أكثر شساعة رغم طول النص الروائي، وأكثر تعقيدا حين يضطر القارئ إلى البحث عن المدلولات وعلى شذرات النص القصصي، ليعيد ملء العبارات وملْ الفراغات. فيتجلى الإبداع على مستوى الماكروسرد كما يتجلى على مستوى الميكروسرد.
هوامش:
1 حملت الدورة الثانية للمهرجان العربي للقصة القصيرة جدا بالناظور، أيام 151617 مارس 2013، اسم الكاتبة، سمية البوغافري.
2 دار سندباد للنشر والإعلام بالقاهرة، 2011. وقد كتبت الرواية سنة 2004 كما يشير تاريخ نهاية كتابتها.
3 دار التكوين بدمشق، 2012.
4 دار سندباد للنشر بالقاهرة، 2009.
5 دار الينابيع للنشر بدمشق، 2010.
6 أعتذر للكاتبة على أأني رتبت جمل النصين بشكل متقابل مراعاة لحيز الصفحة.
7 زليخة، صفحة 26.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.