الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    لماذا تصرّ قناة الجزيرة القطرية على الإساءة إلى المغرب رغم اعتراف العالم بوحدته الترابية؟    بطولة ألمانيا لكرة القدم.. فريق أونيون برلين يتعادل مع بايرن ميونيخ (2-2)    كوريا الشمالية تتوج ب"مونديال الناشئات"    البطولة: النادي المكناسي يرتقي إلى المركز الخامس بانتصاره على اتحاد يعقوب المنصور    مدرب مارسيليا: أكرد قد يغيب عن "الكان"    موقف حازم من برلمان باراغواي: الأمم المتحدة أنصفت المغرب ومبادرته للحكم الذاتي هي الحل الواقعي الوحيد    نبيل باها: "قادرون على تقديم أداء أفضل من المباراتين السابقتين"    عائلة سيون أسيدون تقرر جنازة عائلية وتدعو إلى احترام خصوصية التشييع    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. البطلة المغربية سمية إيراوي تحرز الميدالية البرونزية في الجيدو وزن أقل من 52 كلغ    طنجة.. وفاة شاب صدمته سيارة على محج محمد السادس والسائق يلوذ بالفرار    "جيل زد" توجه نداء لجمع الأدلة حول "أحداث القليعة" لكشف الحقيقة    بحضور الوالي التازي والوزير زيدان.. حفل تسليم السلط بين المرزوقي والخلفاوي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    خلاف بين وزارة الإدماج ومكتب التكوين المهني حول مسؤولية تأخر منح المتدربين    طنجة.. الدرك البيئي يحجز نحو طن من أحشاء الأبقار غير الصالحة للاستهلاك    الرباط وتل أبيب تبحثان استئناف الرحلات الجوية المباشرة بعد توقف دام عاماً    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    شبهة الابتزاز والرشوة توقف مفتش شرطة عن العمل بأولاد تايمة    لقاء تشاوري بعمالة المضيق-الفنيدق حول إعداد الجيل الجديد من برنامج التنمية الترابية المندمجة    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    بعد السرقة المثيرة.. متحف اللوفر يعلن تشديد الإجراءات الأمنية    تتويج مغربي في اختتام المسابقة الدولية للصيد السياحي والرياضي بالداخلة    دكاترة متضررون من تأخير نتائج مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي يطالبون بالإفراج عن نتائج مباراة توظيف عمرت لأربع سنوات    تشريح أسيدون يرجح "فرضية السقوط"    تدشين المعهد المتخصص في فنون الصناعة التقليدية بالداخلة تعزيزاً للموارد البشرية وتنمية القطاع الحرفي    قطاع غزة يستقبل جثامين فلسطينيين    فضيحة كروية في تركيا.. إيقاف 17 حكما متهما بالمراهنة    السلطة تتهم المئات ب"جريمة الخيانة" في تنزانيا    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    كاتبة الدولة الإسبانية المكلفة بالهجرة: المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس تشكل نموذجا للتنمية المشتركة والتضامن البين إفريقي    حمد الله يواصل برنامجا تأهيليا خاصا    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    أشرف حكيمي.. بين عين الحسد وضريبة النجاح    انطلاق فعاليات معرض الشارقة للكتاب    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرة البادية والأنثى : «عزوزة»

بدا لي الأمر بعيدا.. عندما حاولت تذكر آخر مرة قرأت فيها رواية بهذا الحجم وبتلك اللهفة والمتعة... التي تتسارع وتيرتها مع تسامق بنيان الحكاية...
هي «عزوزة» للكاتبة والقاصة المغربية الزهرة رميج...
باغتتنا الزهرة بهذا المولود،- بعد جرعات قصصية مركزة ورواية «أخاديد الأسوار»- و اتحفتنا بهذا العمل المعتق الذي يبدو وكأنه سابق لكل هذه الأعمال ومواكب لنشأتها...
«عزوزة «من تلك الإبداعات التي تطبق على الاهتمام بروية وهدوء... وتتسلل واثقة الخطوة تمشي ملكا.. قد تشعر في الصفحات الأولى بنوع من التبرم، وقد تفكر في الابتعاد قليلا.. ولكن كلما تقدمت في عوالمها، اشتد عليك الخناق الممتع، والتف حبل المتعة حول الفكر والروح... فتنساب العوالم أمام ناظريك مشاهد وصور. وسرعان ما تجد نفسك في أتون حياة تنصهر فيها ومعها، بجمالها ونقائها وعنفها وظلمها... وسحرها.
«عزوزة» عودة إلى متعة القص والحكي، وعبق الأرض وحرارة الواقع، هي سيرة حيوات وأمكنة، نجحت المبدعة في نسج خيوط تشابكها وتواصلها. وهي أبواب مشرعة للقراءة والدراسة، رغم أنها ليست من تلك الإبداعات التي لا تستقيم بدون عمل نقدي يعيد إنتاجها وتشذيب عروقها، حتى تشعر و انت تقرأ عنها في حلتها الجديدة البديعة، وكأنك أمام عمل آخر، هو أقرب إلى الناقد منه إلى الكاتب.
ومن هذه الدروب والأبواب المشرعة تحضر «البادية» كفضاء ومكان احتضن فصول هذه الرواية. وهو بعيد عن كونه خشبة ساكنة أو خلفية ثابتة تجميلية لهذا العمل. فالمكان هنا وكما يقول حسن بحراوي: «ليس عنصرا زائدا في الرواية، فهو يتخذ أشكالا ويتضمن معاني عديدة بل إنه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله»... وهذا ما لا يبدو بعيدا عن «عزوزة» والتي تبرز وكأنها سيرة للبادية. فالساردة تغوص في فضاء سكنها كما سكنته... قد يكون فنيا ومتخيلا وروائيا ولكنه نابض، بدفء العلاقة الحميمية التي سكنت شخوص هذه الرواية، وأعادت الاعتبار للبادية لا كجنة وخيال... ولكن كفضاء إنساني يمثل منبعا للقيم المغربية، فالبادية ليست الوجه البشع أو المتخلف أو الفلكلوري.. أو الساخر كما رسختها الصورة المدنية الحديثة. بل هي الأصل ومنبت الكرم والكرامة...
تحضر البادية في «عزوزة» كمكون روائي جوهري. فالوضع المكاني في الرواية يمكنه أن يصبح محددا أساسيا للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث كما يعبر عن ذلك حسن بحراوي. فكيف بدت هذه البادية في «عزوزة» فضاء وشخوصا وقيما ؟
السؤال شاسع و لذلك فإن تناوله هنا لن يكون سوى نبضات مختزلة، تفرضها طبيعة القراءة والتقديم. وقد يغفر لنا كونها قراءة عاشقة التحمت مع النص وسقطت صريعة متعته...
إن أول ما يسترعي الانتباه هنا هو أن الكاتبة لم تحدد عن أية بادية تتحدث. فتركت الفضاء مفتوحا كما هو، وحسنا فعلت. فقد اكتشفت شخصيا أن الكثير من تلك القيم والسلوكيات لا حدود لها فكانت بحق تمثيلا للمشترك والموحد في البادية المغربية رغم الاختلاف الطبيعي بين السهول والجبال والصحاري...
ثانيا البادية ليست فضاء راكدا أو متحركا على وتيرة واحدة..، ولا شخوصها يمكن قولبتهم في صور نمطية جاهزة، كما يخيل لنا، وكما يشاع. فرغم بعض المظاهر التي لا تبدو غريبة -أو على الأقل بعضها- حسب المناطق المغربية المختلفة، كزواج الصغيرات، ليلة الدخلة، التحالفات القبلية، وضعية المرأة في بيت الزوجية، الضرب...، وبعض العادات المتعلقة بالزواج والولادة وأسماء الأولاد، إلا أننا سنجد أنفسنا أمام مجتمع نابض بالحياة متحرك و متغير، أو ما تشير إليه الرواية بأنه «الاستثناء». فداخل أسرة عزوزة سنجد الفتاة المنطلقة التي تشعر أنها لا تشبه بنات جنسها، وذلك بمساعدة وتحريض من أبيها وأخيها. هذه العلاقة المتميزة والتي لا يمكن أن تكون منفردة أو وحيدة، تكشف أن العوامل الشخصية شديدة الأهمية في تحديد شكل الحياة في البادية. فالتغيير وإن بدا صعبا وممجوجا، ولكنه يستطيع فرض نفسه كما حدث مع عزوزة ، والتي تجرأت وعارضت من اختاره أبوها زوجا لها. نقرأ في أفكار أبيها قوله :»كل ما يبدو غريبا في البداية، يصبح مألوفا بعد حين بل ومتجاوزا بعد ذلك. يكفي أن يمتلك الإنسان الجرأة ليقوم بشيء مختلف. ما علي إلا أن أكون البادئ وسيتبعني الآخرون بالتأكيد». (2)
هكذا خاطب نفسه مقنعا إياها بعدم الاستسلام..، ولذلك كان الأب لا يبالي بانتقادات أصدقائه حول إبقائه عزوزة في مجالس الرجال حتى عندما بلغت الثانية عشر... وكذلك كان سعيدا عند ما منعه ابنه من قتلها بعد فعلتها يوم خطبتها.
الرغبة في التغيير مثل الجمر الكامن تحت الرماد، تُذكى أو تخِف حسب الشخوص والظروف. ولكل قبيلة أسلحة مناعتها، ولذلك تجدها غير مطمئنة لما قد يحدث من تغييرات خوفا من جر المجتمع كله إلى ذلك.» لم يكن والد عزوزة وأخوها فقط، من تشغل بالهما حكايتها. لقد تطايرت هذه الحكاية في كل مكان.لا حديث للناس غيرها. الرجال متذمرون. سابقة خطيرة لم تعرف لها القبيلة مثيلا من قبل. ما عارضت فتاة قط إرادة والدها»..(3)
فالبادية إذا ليست ذلك المستنقع الاجتماعي الراكد، بل هي مياه متحركة متجددة قد يكون سيرها ثقيلا ولكنها ليست جامدة...
البادية أيضا أم رؤوف تمثلها القبيلة بما تشكله من حماية وقوة لأفرادها.. ولذلك فهي لا تمثل تلك السلطة المادية فقط، بل هي تشكل أيضا سلطة روحية وعاطفية تشد أفرادها بعضهم إلى بعض كالبنيان المرصوص. هذه العلاقة المتينة ساكنة في الصدور بوعي أو بدون وعي. فعندما حل يوم زفاف عزوزة على حبيبتها أحمد كانت في قمة سعادتها وانتشائها. تقول الساردة: « عندما قدمت لها الفقيهة (زوجة الأب) أثناء حفل الحناء....
منديل العروس المطرز لتمسح به دموعها وجدت نفسها تضحك وتتساءل في داخلها باستغراب، من أين ستأتي بهذه الدموع المسماة دموع العروس ؟ ولماذا تبكي؟ أليست هذه هي اللحظة التي تحلم بها ؟..ظلت النساء تسترقن النظر إليها، بحثا عن دمعة تنزل فوق خدها.. لكن دون جدوى. أما هي فكانت تتأملهن مستغربة نفاقهن. غير أن تلك الدموع العصية انفجرت دفعت واحدة بمجرد ما عانقها والدها وضمها بقوة إلى صدره..» (4)
هذا الإحساس باليتم عند الابتعاد عن القبيلة سيجتاج عزوزة، عندما تغادرها الفقيهة وأمها، تاركين إياها لمصيرها في خيمتها الجديدة» صباح الغد خرجت عزوزة لأول مرة من خيمتها متجاوزة البهو إلى المدخل الرئيسي لتودع أمها وزوجة أبيها. بقيت تتابعهما بنظراتها إلى أن غابتا وراء الأفق. فانهمرت دموعها الممزوجة بالكحل. راسمة خطوطا سوداء فوق وجنتيها الملتهبتين».
الأنوثة :
المرأة حاضرة في الرواية منذ عتبتها الأولى «عزوزة». فهي رواية نسائية، وليس ذلك لكون كاتبتها امرأة بل لأنها وبامتياز، سيرة امرأة، غاصت الساردة في أعماقها وتحسست انفعالاتها وواكبت مراحل حياتها حتى لكأننا نسترق السمع لخطى طفولة انفتحت على أنوثة مبكرة. ونبضات قلب سيعرف الحب لأول مرة، وأنثى تخطو إلى عوالم النساء، وامرأة وسط صراعات الحماة والزوج والضرة... وهي أم مكابدة وصابرة وشامخة.
يحدث كثيرا أن نقرأ روايات يطغى عليها حضور المراة ،ولكن و رغم ما يظهر من مركزية تواجدها إلا أنها تعزز هامشيتها، فتبدو كالحاضر الغائب لا أثر لها على إيقاع الحكي. أما عزوزة، فهي المرأة بكل تمثلاتها، في ضعفها وقوتها، في هامشيتها وأهميتها. هي المرأة في علاقة مع واقعها الخاص، والذي رغم أنه يشكل سياجا عاما لتأطير حياتها ورغباتها ومستقبلها، إلا أنه لم يستطع كبح جماح شخصيتها البعيدة عن السكون والرضوخ.
فنجد أنفسنا في عزوزة مع سيرة امرأة بعيدة تماما عن تلك الصورة النمطية للأنثى في البادية والتي تكاد تجعل منها محراثا أو فأسا... أو أي شيء يكتمل به تأثيث فضاء البادية.
وهي الصورة التي يعززها الإعلام دائما، خصوصا في التلفزيون. ففي الرواية سنجد المرأة الفقهية أو الواعية والحافظة لكتاب الله (زوجة أب عزوزة) وسنجد المرأة المتسلطة ذات الشخصية القوية (أم احمد)، قاهرة الرجال. وسنجد أيضا المرأة السلبية المستسلمة لقدرها (هنية...) والمرأة المناضلة والمكافحة من اجل كرامتها و أسرتها....(عزوزة)
صورة المرأة في عزوزة وجه آخر لصورة البادية. وهي تحتاج إلى بحث خاص بها، لأنها تفتح عوالم لا متناهية من الدهشة والمتعة. كلما انفتح باب أو نافذة نطل منها على جانب من جوانب هذه المرأة البدوية بأطيافها... رغم ما يعتري ذلك من شك في الوقوع تحت طائلة الخلط بين الشخصية الفنية الروائية ككائن إبداعي، وبين الشخصية الواقعية. خصوصا وأنني سمحت لنفسي اعتبار جزء كبير من العمل سيرة لامرأة من البادية. ودافعي في ذلك، نظرتي إلى هذا العمل الإبداعي والفني، كشكل من أشكال التفاعل بين خيال مبدعة وحرارة واقع لا تخطئه الذائقة...
فكيف بدت هذه الأنثى خصوصا مع شخصيتها المحورية عزوزة ؟
- أنوثة مبكرة :
مع بداية هذه الرواية وفي صفحتها الأولى، والتي هي جزء أخير من مراحلها. وقبل أن تغوص الساردة في ذاكرة أمها بحثا عن البدايات، -سنجد أنفسنا أمام أنثى عصية على الذبول أمام عاديات الزمن: « وجدت عزوزة مستيقظة تغير ملابس النوم.اندهشت - كعادتها كلما رأتها عارية - من صمود هذا الجسد، كأن كل النيران التي اكتو ى بها عبر مسيرته الطويلة، كانت تنزل عليه بردا وسلاما. كأن الزمن نفسه وقع في غوايته فمنحه إكسير الشباب ليظل ناسكا متعبدا في محراب جماله وطرواته. كأن ذلك البطن لم يحمل نصف دزينة من الأطفال. ولا ذينك الثديين أرضعا حتى التخمة تلك الأفواه النهمة...»(5)
هكذا كانت تفكر حليمة وهي ترى أمها تستعد للدخول إلى غرفة العمليات، أو بالأحرى تستعد للموت. أنثى، كما كانت... وكما تستعد للنهاية...
شخصية عزوزة بدت ومنذ ظهورها على مسرح أحداث الرواية، تطفح أنوثة وهي في الثانية عشر من عمرها» كل ما تعرفه أن شيئا ما ينقصها. لقد بدأت تشعر بأحاسيس مبهمة وبتغييرات غريبة في جسدها معلنة عن أنوثة متفجرة قبل الأوان»(6) وهي أيضا تعلن أنها فتاة تغرد خارج السرب فهي وكما تقول الرواية «لم تلجأ كسائر الصبيات في سنها إلى تلك الطريقة المتوارثة أما عن جدة، في إخفاء معالم الأنوثة. لم تضغط على نهديها بمنديل تلفه عليهما»(7)... رغم أن الأمر بدا شاذا في القرية كما تعبر عن ذلك الساردة...
والحقيقة أن الشذوذ عن القاعدة، تجاوز هذا الأمر إلى مظاهر أخرى تقول: «إنه المكان المفضل لوالدها. لا أحد يجرؤ على الجلوس فيه، هي وحدها من يملك حرية الجلوس هاهنا...» فهي أحب إخوتها إلى أبيها، يناديها باسم الدلال لعزيزة. وقد بلغت الثانية عشر من عمرها وأصبح جسدها يشي بامرأة مكتملة النضج. ولا يزال يجلسها إلى جانبه في جلساته مع رجال القرية مما يثير استياء مكتوما عندهم....
نلاحظ أن الرواية ومنذ البداية تبشرنا بأنثى خاصة، فتاة حازت على ما لم تستطع الكثير من الفتيات في سنها الحصول عليه. حب الأهل وتفضيلهم إياها عن إخوتها، وخصوصا من طرف الأب والابن الأكبر. وهو ما لا يبدو أنه متاح للفتيات في ذلك المجتمع البدوي. و يحق لنا هنا أن نتساءل، ألا نبالغ أحيانا في إطلاق أفكار وأحكام مسبقة ومعممة على المجتمعات التقليدية؟ وما مدى أو نسبة الاستثنائية مع اختلاف الناس والأسر والظروف...؟
2- الأنثى والحب :
عزوزة الشخصية الاستثنائية -كما تقدمها الرواية- سيكون لها موعد مع الحب. فاكتشاف الأنوثة يعني تلمس الأحاسيس الجديدة التي تحتاج الروح والجسد. وتعني التطلع إلى الذات في عيون الآخرين. فتنقلب الطفلة إلى عاشقة يزيد من توهجها عالم البادية الساحر المستتر الذي لا يسمح إلا بما يؤجج العواطف والأحلام والهواجس. وهذا ما حدث لعزوزة فبعد عودتها من احتفال بالقرية، «في تلك الليلة رأت حلما جميلا. ها هو الراقص الساحر ذو العينين العسليتين يبدو لها وقد توحدت ملامحه بملامح أحمد صديق أخيها عبد الرحيم، يقبل عليها نافشا ريشه الطاووسي. تقترب منه بخطوات راقصة يجذبها من بين المتفرجين المتحلقين... يتحرك جسدها في اتجاه جسده، تزداد الحركات بازدياد سرعة الإيقاع... يرمي الراقص مقصه بعيدا...يهفو إليها وتهفو إليه... تتشابك أيديهما، يتعانق جسداهما يسقط المنديل الأحمر... فيتدفق شعرها الحريري الأسود منسكبا فوق قدميها...» (8)
تكشف الكاتبة عن قدرة فنية بارعة في وصف هذه اللحظات الحرجة والدقيقة في علاقة الفتاة بالأنثى، أو تحول الفتاة إلى الأنثى...
فإذا كان زواج الصغيرات، ليس حدثا مستغربا في مجتمع تقليدي، إلا أنه عادة ما يخفي حقيقة الأحاسيس التي تنتاب هذه الطفلة الصغيرة، وهو ما يعني أن المجتمع يعمل - وباحترافية- على أن تصل الفتاة إلى درجة من درجات الأنوثة وما يعتريها، تجعلها مقبلة على الزواج برضى تام. فالكاتبة تفتح لنا أبوابا خلفية للبادية نلج منها عوالم الأحاسيس والصدور والأسرار..... حتى ننسى تماما أننا نتحدث عن طفلة لم تتجاوز الثانية عشر من عمرها. فعزوزة التي لم تعرف بخطبتها إلا لحظة قدوم العريس، لم تثر أو تحتج على العرس في حد ذاته بقدر ما ثارت على العريس...
فتنقلب الفتاة/الأنثى العاشقة، إلى متمردة على القيم والأعراف والتقاليد. إلى درجة تُعتبر- عندهم- استهتارا بكرامة أبيها وتلطيخا لمكانته عند أهل قريته، بتمرغها في التراب أمام موكب العريس وأهله إعلانا لرفضها إياه. وجعلت أهل العريس يلوون أعناق جيادهم باتجاه عروس أخرى، فقد اعتبر الحاج الجيلالي، ما قامت به عزوزة تعبيرا عن رفضها الزواج من ابنه، إهانة لا يمكن غفرانها لأنها مسألة كرامة..، ولذلك لم يتوان عن تزويج ابنه في نفس الليلة بإحدى فتيات القرية...
3-الأنثى والجمال :
لقد احتلت المرأة/عزوزة، في هذه الرواية مكان الصدارة، ورغم ما تتعرض له من الإهانة والعذاب والعنف من الزوج / الحبيب ( الضرب العنيف والمبرح )، و من الحماة (القسوة في أشد حالات الضعف وهي حامل مما سيؤدي إلى إسقاط جنينها) والمجتمع بل وحتى الطبيعة..، إلا أنها حافظت على جوهرها كإنسانة محبة للجمال ومهتمة بأنوثتها. فالكاتبة وفي محطات عديدة من هذا العمل، وبلغة غاية في التأنق والدقة، تعيد الاعتبار لامرأة بدوية جميلة أنيقة نظيفة ومهتمة بأنوثتها وجسدها. يتعارض من الوصف النمطي للقروية بالبساطة، وما يحمله من « غمز ولمز» إلى عدم خبرتها بفنون التجميل...
تبرع الكاتبة في الغوص بنا في هذا العالم الغني والزاهي بألوانه وروائحه النفاذة العطرة. فالمرأة في البادية تبرع في تجهيز واستعمال كل ما يساعدها على المحافظة على نضارتها وجمال جسدها ونظافته. فعندما وضعت نجاة (زوجة المعلم القادمة من المدينة) طفلها، قامت عزوزة بالاعتناء بها... « وعندما سمعتها تتأسف لكونها لن تزف إلى الحمام العمومي، قررت أن تبني لها وسط البهو «نوالة» من قصب، غطتها بالبطاطين الصوفية. انبهرت نجاة آنذاك بحرارة هذا الهرم القصبي التي لا تختلف عن حرارة الغرفة الرئيسية بالحمام العمومي بالمدينة. كما انبهرت بذكاء القرويات.. فقد كان مصدر هذه الحرارة كلها مجرد حجارة توضع فوق الجمر. حتى تحمر ثم ترش بالماء البارد. فيتصاعد البخار عاليا ليغمر الفضاء كله. وجدت نجاة نفسها تقول لها مبتسمة : حتى زوجي استغرب إشراقة وجهي ونعومة جسدي المثيرة تلك الليلة...». (9) وتعتبر مشاهد وصف تزيين عزوزة لنفسها، من اللحظات البديعة في هذه الرواية حتى لكأننا بالعطر والجمال يتسرب إلينا برائحته الطيبة : «وضعت التكشيطة البنفسجية التي تحبها جانبا....، أخرجت أدوات الزينة والمرآة المستطيلة ذات الإطار البلاستيكي الأحمر المشبك. وضعت قطعة سواك في فمها. وبدأت تكحل عينيها في انتظار أن تصبح قطعة السواك رخوة. أمسكت المرود بيدها اليمنى و أدخلته في المكحلة. حركته فيها قبل أن تضعه داخل العين اليمنى وتمرره عدة مرات. كررت نفس العملية....مع العين الثانية....أخذت بعد ذلك قطعة ثوب أبيض، لفته حول سبابتها اليمنى. أخرجت لسانها قليلا، ووضعت السبابة فوقه حتى تبلل الثوب، ثم مسحت به زائد الكحل المحيط بعينيها. أخرجت قطعة السواك اللزجة، من فمها لتنظف بها أسنانها. عادت تمضغها من جديد، قبل أن تضعها فوق الشفة السفلى لتشتد حمرتها...أخرجت علبة «لعكر الفاسي»، وضعت أصبعها فوق مسحوقه وراحت تنشره فوق خدها الأيمن فالأيسر، بحركات دائرية إلى أن صارت حمرتهما منسجمة. في إناء الطين المزلج، وضعت مسحوق « النَّفقة» الناعم، الذي يتكون من القرنفل والورد والريحان والزعفران- ومزجته بقليل من الماء. أخذت ترسم بالخليط قوسين متوازيين ومتشابهين ينطلقان من أعلى منتصف الحاجبين ويتوقفان قبل حدود الذقن بقليل...فتحت قارورة «الحرقوس» الصغيرة التي فاحت رائحتها العطرة. و أدخلت في مادتها اللزجة عودا رسمت به خطا أسود وسط الشفة السفلى أبرز بشكل صارخ حمرتها المثيرة.....وبنفس العود صبغت حاجبيها المقوسين متبعة حدودهما الطبيعية. ختمت عملية التزيين بوضع ثلاث نقط بحجم شامات صغيرة على شكل مثلث فوق كل خد.....».(10)
هذه المرأة المعتدة بأنوثتها، تعتبر جمالها، جزءا من شخصيتها وقدرتها على مواجهة كل من ظلموها بمن فيهم الزوج والحبيب. ليس فقط كشكل من أشكال الغواية، ولكن أيضا كتحد لما تواجَه به من ضربات موجعة تسعى إلى تقويض بنياتها. فالفتاة التي بدأت حياتها بشكل استثنائي، تحاول أن لا ترضخ لقيم التهميش والإذلال التي مورست عليها. فلم يكن لها بد من الإبقاء على نفسها وحياتها وجسدها، شامخا معتزا كما كان. حتى إن حماتها التي تكرهها تعترف بذلك قائلة:» ابني معذور كان الله في عونه. من لا بهره جمال ابنة علي الجعايدي، وأناقتها. حتى جلستها فيها عزة نفس وكبرياء».(11)
هذه المرأة لم تكن صاحبة ذكاء شيطاني، كما توسم المرأة ذات الحيلة. بل كانت متيقظة الفكر، أكسبتها الطبيعة والتجربة، إحساسا عميقا بما يدور حولها، حتى ولو كان ضمن الطابوهات والمحرمات. فعندما نهرتها مرجانة مانعة إياها من التحدث عن رغباتها الجنسية، قائلة:
«الدنيا كلها خلقها الله هكذا عندما أخرج أمنا حواء من ضلع سيدنا آدم. فهل تكون لها رغبة خارج رغبته ؟
أجابتها عزوزة : غير صحيح لم يخلقها الله هكذا..
- ماذا تقولين ؟
- أقول الحقيقة..
- الحقيقة ؟ وكيف عرفتها ؟
- عرفتها من نفسي.. ألم يخلقني الله ؟ فلماذا أشعر بالرغبة إذن ؟» (12)
وعندما كانت تُعبر، عن مقتها الشديد للاستعمار والأجانب، لأنهم سبب مقتل أبيها وغياب عمها..، وكانت تُواجه بأعذار، من قبيل أن البعض منهم مجرد تجار ولم يحملوا السلاح في وجه المواطنين، تقول: «ولكنه جاء مع الذين يحملون السلاح.. لولاهم هل كان أتى بلادنا وامتلك متجرين ومسكنين وربما أكثر من يدري ؟ ويعيش الآن حياة الرفاهية في المدينة والبادية» (13)
هكذا وبإحساس فطري تبحر الأنثى في روحها وجسدها وواقعها.. برؤية واضحة وعميقة لم تكسرها الظروف. وحتى عندما استسلمت للموت، فقد كان ذلك بعد أن ارتاح قلبها وتأكدت، أن أحمد زوجها وحبيبها الذي من أجله قامت بما لا تقوى النساء على فعله، لم يتزوج عليها كرها لها بل محبة فيها. ولم يهجر فراشها تأففا ولا ازدراء بل بسبب عجزه الجنسي والذي ظل سرا بقلب أخته لم تبح به إلا ليلة إجراء العملية. حتى ترحل عزوزة قريرة العين هانئة...بعد حياة حافلة...
«عزوزة» رواية ثرية ودسمة وتفتح أبوابا شتى للدراسة والبحث، وقد حاولنا هنا تلمس بعض شعابها الساحرة....
1- « بنية الشكل الروائي « حسن بحراوي ص: 33
2- «عزوزة» الصفحة 33
3- « عزوزة» الصفحة 34
4- الرواية، ص 49
5- الرواية ، ص 5
6- الرواية ،ص 9
7- الرواية، ص 9
8- الرواية، ص 1
9- الرواية، ص 238
10- الرواية ص: 274
11- الرواية ،ص: 275
12- الرواية، ص: 165
13- الرواية ،ص:153


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.