تفاصيل مشروع تصميم الطيارات وإنتاجها وصيانتها وبصلاحيتها للملاحة    الاتحاد الاشتراكي دوخ كولشي.. بدا حروب سياسية بملتمس الرقابة وسالاها بالمطالبة برئاسة لجنة العدل والتشريع بدعم من وهبي    ليبيريا: كندعمو الوحدة الترابية ديال المغرب وسيادتو على صحرائه    ليبيريا تجدد تأكيد دعمها لمغربية الصحراء    البيجيدي يجدد الثقة في بووانو رئيسا لمجموعته النيابية    فلقاء جمعو بأخنوش.. المدير العام لمنظمة الفاو كينوه بالتجربة المغربية فمجال الفلاحة والصناعات الغذائية(صور)    المغرب متراجع بزاف فمؤشر "جودة الحياة"    واش تنادم معهم الحال حيث شافوه محيح مع العين؟ نايضة فالأهلي المصري بسبب سفيان رحيمي    توقيت مباراة المغرب والجزائر هذا اليوم ضمن منافسات بطولة اتحاد شمال إفريقيا    الحكومة تعمل على مضاعفة استيراد أضاحي العيد قياسا بالعام الماضي    سلطات بوركينا فاسو تطرد دبلوماسيين فرنسيين    ثلاثة نجوم مغاربة يزينون نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    ما الذي قاله هشام الدكيك قبل المواجهة الحاسمة أمام ليبيا؟    السفينة الشراعية التدريبية للبحرية الألمانية "غورتش فوك" ترسو بميناء طنجة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة (نصف النهاية).. المغرب يواجه ليبيا وعينه على الاقتراب من لقبه القاري الثالث و انتزاع بطاقة العبور للمونديال    البرلماني منصف الطوب يزف بشرى سارة لساكنة تطوان    توقيف ثلاثة أشخاص بعد الإعتداء على شرطي بنقطة المراقبة المرورية بمدخل مدينة أصيلة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المغرب وليبيريا يجددان التأكيد على مواصلة تعزيز تعاونهما الثنائي    هل تغير أميركا موقفها بشأن عضوية فلسطين بالأمم المتحدة؟    تاجر مخدرات يوجه طعنة غادرة لشرطي خلال مزاولته لمهامه والأمن يتدخل    أصيلة.. توقيف ثلاثة أشخاص للاشتباه في ارتباطهم بالاتجار في المخدرات    منير بنرقي : عالم صغير يمثل الكون اللامتناهي    تفويت مستشفيات عمومية بالشمال للخواص يجر وزير الصحة للمساءلة البرلمانية    تقرير دولي يكشف عن عدد مليونيرات طنجة.. وشخص واحد بالمدينة تفوق ثروته المليار دولار        سفيرة المغرب بإسبانيا تعلن عن التزام الرباط بإعادة فتح المعابر التجارية مع مليلية وسبتة رغم التأخيرات    هل يتراجع "الكاف" عن تنظيم نسخة جديدة من "السوبرليغ" في 2024؟    الدار البيضاء.. افتتاح معرض تشكيلي جماعي بعنوان : «التنوع المختزل في الريشة الإبداعية»    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    عزيز حطاب يكشف ل"القناة" حقيقة عودة "بين القصور" بجزء ثانٍ في رمضان المقبل!    اضطرابات في الإمارات لليوم الثالث بعد أمطار غير مسبوقة    رونالدو يكسب يوفنتوس في ملف تحكيم    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    أكادير تحتضن الدورة الأولى لمهرجان "سوس كاسترو" الدولي لفنون الطهي ونجوم المطبخ    تنظيم الدورة الثانية لمعرض كتاب التاريخ للجديدة بحضور كتاب ومثقفين مغاربة وأجانب    إحباط محاولة تهريب 116 ألفا و605 أقراص مهلوسة إلى داخل التراب الوطني    بينهم سوري.. عقود عمل وهمية والإتجار بالبشر يطيحان ب5 أشخاص في فاس    "نتفليكس" تعرض مسلسلا مقتبسا من رواية "مئة عام من العزلة" لغارسيا ماركيز    استطلاع: الأسرة المغربية غير قادرة على حماية أطفالها من مخاطر "التواصل الاجتماعي"    الحكومة ‬المغربية ‬تؤكد مآل ‬تجديد ‬اتفاقية ‬الصيد ‬البحري    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    زلزال بقوة 6,3 درجات يضرب هذه الدولة    موهبة كروية جديدة تُشغل الصراع بين المغرب والجزائر    تحداو ظروف الحرب وخرجو يبدلو الجو.. مئات الفلسطنيين قصدو البحر فغزة باش يستمتعو بالما والشمش (فيديو)        لماذا أصدرت شركة أبل تحديثاً لهواتفها يعالج الرمز التعبيري للعلم الفلسطيني؟    حماس: لن نسلم الأسرى الإسرائيليين إلا بصفقة حقيقية    نشرة الأخبار: رقم قياسي في الملل    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    وزارة الصحة تخلد اليوم العالمي للهيموفيليا    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    وزارة الصحة: حوالي 3000 إصابة بمرض الهيموفيليا بالمغرب    أرقام رسمية.. 3000 مغربي مصاب بمرض "الهيموفيليا" الوراثي وها شنو موجدة وزارة الصحة لهاد النزيف الدموي    عينات من دماء المصابين بكوفيد طويل الأمد يمكن أن تساعد في تجارب علمية مستقبلاً    الأمثال العامية بتطوان... (574)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرة البادية والأنثى : «عزوزة»

بدا لي الأمر بعيدا.. عندما حاولت تذكر آخر مرة قرأت فيها رواية بهذا الحجم وبتلك اللهفة والمتعة... التي تتسارع وتيرتها مع تسامق بنيان الحكاية...
هي «عزوزة» للكاتبة والقاصة المغربية الزهرة رميج...
باغتتنا الزهرة بهذا المولود،- بعد جرعات قصصية مركزة ورواية «أخاديد الأسوار»- و اتحفتنا بهذا العمل المعتق الذي يبدو وكأنه سابق لكل هذه الأعمال ومواكب لنشأتها...
«عزوزة «من تلك الإبداعات التي تطبق على الاهتمام بروية وهدوء... وتتسلل واثقة الخطوة تمشي ملكا.. قد تشعر في الصفحات الأولى بنوع من التبرم، وقد تفكر في الابتعاد قليلا.. ولكن كلما تقدمت في عوالمها، اشتد عليك الخناق الممتع، والتف حبل المتعة حول الفكر والروح... فتنساب العوالم أمام ناظريك مشاهد وصور. وسرعان ما تجد نفسك في أتون حياة تنصهر فيها ومعها، بجمالها ونقائها وعنفها وظلمها... وسحرها.
«عزوزة» عودة إلى متعة القص والحكي، وعبق الأرض وحرارة الواقع، هي سيرة حيوات وأمكنة، نجحت المبدعة في نسج خيوط تشابكها وتواصلها. وهي أبواب مشرعة للقراءة والدراسة، رغم أنها ليست من تلك الإبداعات التي لا تستقيم بدون عمل نقدي يعيد إنتاجها وتشذيب عروقها، حتى تشعر و انت تقرأ عنها في حلتها الجديدة البديعة، وكأنك أمام عمل آخر، هو أقرب إلى الناقد منه إلى الكاتب.
ومن هذه الدروب والأبواب المشرعة تحضر «البادية» كفضاء ومكان احتضن فصول هذه الرواية. وهو بعيد عن كونه خشبة ساكنة أو خلفية ثابتة تجميلية لهذا العمل. فالمكان هنا وكما يقول حسن بحراوي: «ليس عنصرا زائدا في الرواية، فهو يتخذ أشكالا ويتضمن معاني عديدة بل إنه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله»... وهذا ما لا يبدو بعيدا عن «عزوزة» والتي تبرز وكأنها سيرة للبادية. فالساردة تغوص في فضاء سكنها كما سكنته... قد يكون فنيا ومتخيلا وروائيا ولكنه نابض، بدفء العلاقة الحميمية التي سكنت شخوص هذه الرواية، وأعادت الاعتبار للبادية لا كجنة وخيال... ولكن كفضاء إنساني يمثل منبعا للقيم المغربية، فالبادية ليست الوجه البشع أو المتخلف أو الفلكلوري.. أو الساخر كما رسختها الصورة المدنية الحديثة. بل هي الأصل ومنبت الكرم والكرامة...
تحضر البادية في «عزوزة» كمكون روائي جوهري. فالوضع المكاني في الرواية يمكنه أن يصبح محددا أساسيا للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث كما يعبر عن ذلك حسن بحراوي. فكيف بدت هذه البادية في «عزوزة» فضاء وشخوصا وقيما ؟
السؤال شاسع و لذلك فإن تناوله هنا لن يكون سوى نبضات مختزلة، تفرضها طبيعة القراءة والتقديم. وقد يغفر لنا كونها قراءة عاشقة التحمت مع النص وسقطت صريعة متعته...
إن أول ما يسترعي الانتباه هنا هو أن الكاتبة لم تحدد عن أية بادية تتحدث. فتركت الفضاء مفتوحا كما هو، وحسنا فعلت. فقد اكتشفت شخصيا أن الكثير من تلك القيم والسلوكيات لا حدود لها فكانت بحق تمثيلا للمشترك والموحد في البادية المغربية رغم الاختلاف الطبيعي بين السهول والجبال والصحاري...
ثانيا البادية ليست فضاء راكدا أو متحركا على وتيرة واحدة..، ولا شخوصها يمكن قولبتهم في صور نمطية جاهزة، كما يخيل لنا، وكما يشاع. فرغم بعض المظاهر التي لا تبدو غريبة -أو على الأقل بعضها- حسب المناطق المغربية المختلفة، كزواج الصغيرات، ليلة الدخلة، التحالفات القبلية، وضعية المرأة في بيت الزوجية، الضرب...، وبعض العادات المتعلقة بالزواج والولادة وأسماء الأولاد، إلا أننا سنجد أنفسنا أمام مجتمع نابض بالحياة متحرك و متغير، أو ما تشير إليه الرواية بأنه «الاستثناء». فداخل أسرة عزوزة سنجد الفتاة المنطلقة التي تشعر أنها لا تشبه بنات جنسها، وذلك بمساعدة وتحريض من أبيها وأخيها. هذه العلاقة المتميزة والتي لا يمكن أن تكون منفردة أو وحيدة، تكشف أن العوامل الشخصية شديدة الأهمية في تحديد شكل الحياة في البادية. فالتغيير وإن بدا صعبا وممجوجا، ولكنه يستطيع فرض نفسه كما حدث مع عزوزة ، والتي تجرأت وعارضت من اختاره أبوها زوجا لها. نقرأ في أفكار أبيها قوله :»كل ما يبدو غريبا في البداية، يصبح مألوفا بعد حين بل ومتجاوزا بعد ذلك. يكفي أن يمتلك الإنسان الجرأة ليقوم بشيء مختلف. ما علي إلا أن أكون البادئ وسيتبعني الآخرون بالتأكيد». (2)
هكذا خاطب نفسه مقنعا إياها بعدم الاستسلام..، ولذلك كان الأب لا يبالي بانتقادات أصدقائه حول إبقائه عزوزة في مجالس الرجال حتى عندما بلغت الثانية عشر... وكذلك كان سعيدا عند ما منعه ابنه من قتلها بعد فعلتها يوم خطبتها.
الرغبة في التغيير مثل الجمر الكامن تحت الرماد، تُذكى أو تخِف حسب الشخوص والظروف. ولكل قبيلة أسلحة مناعتها، ولذلك تجدها غير مطمئنة لما قد يحدث من تغييرات خوفا من جر المجتمع كله إلى ذلك.» لم يكن والد عزوزة وأخوها فقط، من تشغل بالهما حكايتها. لقد تطايرت هذه الحكاية في كل مكان.لا حديث للناس غيرها. الرجال متذمرون. سابقة خطيرة لم تعرف لها القبيلة مثيلا من قبل. ما عارضت فتاة قط إرادة والدها»..(3)
فالبادية إذا ليست ذلك المستنقع الاجتماعي الراكد، بل هي مياه متحركة متجددة قد يكون سيرها ثقيلا ولكنها ليست جامدة...
البادية أيضا أم رؤوف تمثلها القبيلة بما تشكله من حماية وقوة لأفرادها.. ولذلك فهي لا تمثل تلك السلطة المادية فقط، بل هي تشكل أيضا سلطة روحية وعاطفية تشد أفرادها بعضهم إلى بعض كالبنيان المرصوص. هذه العلاقة المتينة ساكنة في الصدور بوعي أو بدون وعي. فعندما حل يوم زفاف عزوزة على حبيبتها أحمد كانت في قمة سعادتها وانتشائها. تقول الساردة: « عندما قدمت لها الفقيهة (زوجة الأب) أثناء حفل الحناء....
منديل العروس المطرز لتمسح به دموعها وجدت نفسها تضحك وتتساءل في داخلها باستغراب، من أين ستأتي بهذه الدموع المسماة دموع العروس ؟ ولماذا تبكي؟ أليست هذه هي اللحظة التي تحلم بها ؟..ظلت النساء تسترقن النظر إليها، بحثا عن دمعة تنزل فوق خدها.. لكن دون جدوى. أما هي فكانت تتأملهن مستغربة نفاقهن. غير أن تلك الدموع العصية انفجرت دفعت واحدة بمجرد ما عانقها والدها وضمها بقوة إلى صدره..» (4)
هذا الإحساس باليتم عند الابتعاد عن القبيلة سيجتاج عزوزة، عندما تغادرها الفقيهة وأمها، تاركين إياها لمصيرها في خيمتها الجديدة» صباح الغد خرجت عزوزة لأول مرة من خيمتها متجاوزة البهو إلى المدخل الرئيسي لتودع أمها وزوجة أبيها. بقيت تتابعهما بنظراتها إلى أن غابتا وراء الأفق. فانهمرت دموعها الممزوجة بالكحل. راسمة خطوطا سوداء فوق وجنتيها الملتهبتين».
الأنوثة :
المرأة حاضرة في الرواية منذ عتبتها الأولى «عزوزة». فهي رواية نسائية، وليس ذلك لكون كاتبتها امرأة بل لأنها وبامتياز، سيرة امرأة، غاصت الساردة في أعماقها وتحسست انفعالاتها وواكبت مراحل حياتها حتى لكأننا نسترق السمع لخطى طفولة انفتحت على أنوثة مبكرة. ونبضات قلب سيعرف الحب لأول مرة، وأنثى تخطو إلى عوالم النساء، وامرأة وسط صراعات الحماة والزوج والضرة... وهي أم مكابدة وصابرة وشامخة.
يحدث كثيرا أن نقرأ روايات يطغى عليها حضور المراة ،ولكن و رغم ما يظهر من مركزية تواجدها إلا أنها تعزز هامشيتها، فتبدو كالحاضر الغائب لا أثر لها على إيقاع الحكي. أما عزوزة، فهي المرأة بكل تمثلاتها، في ضعفها وقوتها، في هامشيتها وأهميتها. هي المرأة في علاقة مع واقعها الخاص، والذي رغم أنه يشكل سياجا عاما لتأطير حياتها ورغباتها ومستقبلها، إلا أنه لم يستطع كبح جماح شخصيتها البعيدة عن السكون والرضوخ.
فنجد أنفسنا في عزوزة مع سيرة امرأة بعيدة تماما عن تلك الصورة النمطية للأنثى في البادية والتي تكاد تجعل منها محراثا أو فأسا... أو أي شيء يكتمل به تأثيث فضاء البادية.
وهي الصورة التي يعززها الإعلام دائما، خصوصا في التلفزيون. ففي الرواية سنجد المرأة الفقهية أو الواعية والحافظة لكتاب الله (زوجة أب عزوزة) وسنجد المرأة المتسلطة ذات الشخصية القوية (أم احمد)، قاهرة الرجال. وسنجد أيضا المرأة السلبية المستسلمة لقدرها (هنية...) والمرأة المناضلة والمكافحة من اجل كرامتها و أسرتها....(عزوزة)
صورة المرأة في عزوزة وجه آخر لصورة البادية. وهي تحتاج إلى بحث خاص بها، لأنها تفتح عوالم لا متناهية من الدهشة والمتعة. كلما انفتح باب أو نافذة نطل منها على جانب من جوانب هذه المرأة البدوية بأطيافها... رغم ما يعتري ذلك من شك في الوقوع تحت طائلة الخلط بين الشخصية الفنية الروائية ككائن إبداعي، وبين الشخصية الواقعية. خصوصا وأنني سمحت لنفسي اعتبار جزء كبير من العمل سيرة لامرأة من البادية. ودافعي في ذلك، نظرتي إلى هذا العمل الإبداعي والفني، كشكل من أشكال التفاعل بين خيال مبدعة وحرارة واقع لا تخطئه الذائقة...
فكيف بدت هذه الأنثى خصوصا مع شخصيتها المحورية عزوزة ؟
- أنوثة مبكرة :
مع بداية هذه الرواية وفي صفحتها الأولى، والتي هي جزء أخير من مراحلها. وقبل أن تغوص الساردة في ذاكرة أمها بحثا عن البدايات، -سنجد أنفسنا أمام أنثى عصية على الذبول أمام عاديات الزمن: « وجدت عزوزة مستيقظة تغير ملابس النوم.اندهشت - كعادتها كلما رأتها عارية - من صمود هذا الجسد، كأن كل النيران التي اكتو ى بها عبر مسيرته الطويلة، كانت تنزل عليه بردا وسلاما. كأن الزمن نفسه وقع في غوايته فمنحه إكسير الشباب ليظل ناسكا متعبدا في محراب جماله وطرواته. كأن ذلك البطن لم يحمل نصف دزينة من الأطفال. ولا ذينك الثديين أرضعا حتى التخمة تلك الأفواه النهمة...»(5)
هكذا كانت تفكر حليمة وهي ترى أمها تستعد للدخول إلى غرفة العمليات، أو بالأحرى تستعد للموت. أنثى، كما كانت... وكما تستعد للنهاية...
شخصية عزوزة بدت ومنذ ظهورها على مسرح أحداث الرواية، تطفح أنوثة وهي في الثانية عشر من عمرها» كل ما تعرفه أن شيئا ما ينقصها. لقد بدأت تشعر بأحاسيس مبهمة وبتغييرات غريبة في جسدها معلنة عن أنوثة متفجرة قبل الأوان»(6) وهي أيضا تعلن أنها فتاة تغرد خارج السرب فهي وكما تقول الرواية «لم تلجأ كسائر الصبيات في سنها إلى تلك الطريقة المتوارثة أما عن جدة، في إخفاء معالم الأنوثة. لم تضغط على نهديها بمنديل تلفه عليهما»(7)... رغم أن الأمر بدا شاذا في القرية كما تعبر عن ذلك الساردة...
والحقيقة أن الشذوذ عن القاعدة، تجاوز هذا الأمر إلى مظاهر أخرى تقول: «إنه المكان المفضل لوالدها. لا أحد يجرؤ على الجلوس فيه، هي وحدها من يملك حرية الجلوس هاهنا...» فهي أحب إخوتها إلى أبيها، يناديها باسم الدلال لعزيزة. وقد بلغت الثانية عشر من عمرها وأصبح جسدها يشي بامرأة مكتملة النضج. ولا يزال يجلسها إلى جانبه في جلساته مع رجال القرية مما يثير استياء مكتوما عندهم....
نلاحظ أن الرواية ومنذ البداية تبشرنا بأنثى خاصة، فتاة حازت على ما لم تستطع الكثير من الفتيات في سنها الحصول عليه. حب الأهل وتفضيلهم إياها عن إخوتها، وخصوصا من طرف الأب والابن الأكبر. وهو ما لا يبدو أنه متاح للفتيات في ذلك المجتمع البدوي. و يحق لنا هنا أن نتساءل، ألا نبالغ أحيانا في إطلاق أفكار وأحكام مسبقة ومعممة على المجتمعات التقليدية؟ وما مدى أو نسبة الاستثنائية مع اختلاف الناس والأسر والظروف...؟
2- الأنثى والحب :
عزوزة الشخصية الاستثنائية -كما تقدمها الرواية- سيكون لها موعد مع الحب. فاكتشاف الأنوثة يعني تلمس الأحاسيس الجديدة التي تحتاج الروح والجسد. وتعني التطلع إلى الذات في عيون الآخرين. فتنقلب الطفلة إلى عاشقة يزيد من توهجها عالم البادية الساحر المستتر الذي لا يسمح إلا بما يؤجج العواطف والأحلام والهواجس. وهذا ما حدث لعزوزة فبعد عودتها من احتفال بالقرية، «في تلك الليلة رأت حلما جميلا. ها هو الراقص الساحر ذو العينين العسليتين يبدو لها وقد توحدت ملامحه بملامح أحمد صديق أخيها عبد الرحيم، يقبل عليها نافشا ريشه الطاووسي. تقترب منه بخطوات راقصة يجذبها من بين المتفرجين المتحلقين... يتحرك جسدها في اتجاه جسده، تزداد الحركات بازدياد سرعة الإيقاع... يرمي الراقص مقصه بعيدا...يهفو إليها وتهفو إليه... تتشابك أيديهما، يتعانق جسداهما يسقط المنديل الأحمر... فيتدفق شعرها الحريري الأسود منسكبا فوق قدميها...» (8)
تكشف الكاتبة عن قدرة فنية بارعة في وصف هذه اللحظات الحرجة والدقيقة في علاقة الفتاة بالأنثى، أو تحول الفتاة إلى الأنثى...
فإذا كان زواج الصغيرات، ليس حدثا مستغربا في مجتمع تقليدي، إلا أنه عادة ما يخفي حقيقة الأحاسيس التي تنتاب هذه الطفلة الصغيرة، وهو ما يعني أن المجتمع يعمل - وباحترافية- على أن تصل الفتاة إلى درجة من درجات الأنوثة وما يعتريها، تجعلها مقبلة على الزواج برضى تام. فالكاتبة تفتح لنا أبوابا خلفية للبادية نلج منها عوالم الأحاسيس والصدور والأسرار..... حتى ننسى تماما أننا نتحدث عن طفلة لم تتجاوز الثانية عشر من عمرها. فعزوزة التي لم تعرف بخطبتها إلا لحظة قدوم العريس، لم تثر أو تحتج على العرس في حد ذاته بقدر ما ثارت على العريس...
فتنقلب الفتاة/الأنثى العاشقة، إلى متمردة على القيم والأعراف والتقاليد. إلى درجة تُعتبر- عندهم- استهتارا بكرامة أبيها وتلطيخا لمكانته عند أهل قريته، بتمرغها في التراب أمام موكب العريس وأهله إعلانا لرفضها إياه. وجعلت أهل العريس يلوون أعناق جيادهم باتجاه عروس أخرى، فقد اعتبر الحاج الجيلالي، ما قامت به عزوزة تعبيرا عن رفضها الزواج من ابنه، إهانة لا يمكن غفرانها لأنها مسألة كرامة..، ولذلك لم يتوان عن تزويج ابنه في نفس الليلة بإحدى فتيات القرية...
3-الأنثى والجمال :
لقد احتلت المرأة/عزوزة، في هذه الرواية مكان الصدارة، ورغم ما تتعرض له من الإهانة والعذاب والعنف من الزوج / الحبيب ( الضرب العنيف والمبرح )، و من الحماة (القسوة في أشد حالات الضعف وهي حامل مما سيؤدي إلى إسقاط جنينها) والمجتمع بل وحتى الطبيعة..، إلا أنها حافظت على جوهرها كإنسانة محبة للجمال ومهتمة بأنوثتها. فالكاتبة وفي محطات عديدة من هذا العمل، وبلغة غاية في التأنق والدقة، تعيد الاعتبار لامرأة بدوية جميلة أنيقة نظيفة ومهتمة بأنوثتها وجسدها. يتعارض من الوصف النمطي للقروية بالبساطة، وما يحمله من « غمز ولمز» إلى عدم خبرتها بفنون التجميل...
تبرع الكاتبة في الغوص بنا في هذا العالم الغني والزاهي بألوانه وروائحه النفاذة العطرة. فالمرأة في البادية تبرع في تجهيز واستعمال كل ما يساعدها على المحافظة على نضارتها وجمال جسدها ونظافته. فعندما وضعت نجاة (زوجة المعلم القادمة من المدينة) طفلها، قامت عزوزة بالاعتناء بها... « وعندما سمعتها تتأسف لكونها لن تزف إلى الحمام العمومي، قررت أن تبني لها وسط البهو «نوالة» من قصب، غطتها بالبطاطين الصوفية. انبهرت نجاة آنذاك بحرارة هذا الهرم القصبي التي لا تختلف عن حرارة الغرفة الرئيسية بالحمام العمومي بالمدينة. كما انبهرت بذكاء القرويات.. فقد كان مصدر هذه الحرارة كلها مجرد حجارة توضع فوق الجمر. حتى تحمر ثم ترش بالماء البارد. فيتصاعد البخار عاليا ليغمر الفضاء كله. وجدت نجاة نفسها تقول لها مبتسمة : حتى زوجي استغرب إشراقة وجهي ونعومة جسدي المثيرة تلك الليلة...». (9) وتعتبر مشاهد وصف تزيين عزوزة لنفسها، من اللحظات البديعة في هذه الرواية حتى لكأننا بالعطر والجمال يتسرب إلينا برائحته الطيبة : «وضعت التكشيطة البنفسجية التي تحبها جانبا....، أخرجت أدوات الزينة والمرآة المستطيلة ذات الإطار البلاستيكي الأحمر المشبك. وضعت قطعة سواك في فمها. وبدأت تكحل عينيها في انتظار أن تصبح قطعة السواك رخوة. أمسكت المرود بيدها اليمنى و أدخلته في المكحلة. حركته فيها قبل أن تضعه داخل العين اليمنى وتمرره عدة مرات. كررت نفس العملية....مع العين الثانية....أخذت بعد ذلك قطعة ثوب أبيض، لفته حول سبابتها اليمنى. أخرجت لسانها قليلا، ووضعت السبابة فوقه حتى تبلل الثوب، ثم مسحت به زائد الكحل المحيط بعينيها. أخرجت قطعة السواك اللزجة، من فمها لتنظف بها أسنانها. عادت تمضغها من جديد، قبل أن تضعها فوق الشفة السفلى لتشتد حمرتها...أخرجت علبة «لعكر الفاسي»، وضعت أصبعها فوق مسحوقه وراحت تنشره فوق خدها الأيمن فالأيسر، بحركات دائرية إلى أن صارت حمرتهما منسجمة. في إناء الطين المزلج، وضعت مسحوق « النَّفقة» الناعم، الذي يتكون من القرنفل والورد والريحان والزعفران- ومزجته بقليل من الماء. أخذت ترسم بالخليط قوسين متوازيين ومتشابهين ينطلقان من أعلى منتصف الحاجبين ويتوقفان قبل حدود الذقن بقليل...فتحت قارورة «الحرقوس» الصغيرة التي فاحت رائحتها العطرة. و أدخلت في مادتها اللزجة عودا رسمت به خطا أسود وسط الشفة السفلى أبرز بشكل صارخ حمرتها المثيرة.....وبنفس العود صبغت حاجبيها المقوسين متبعة حدودهما الطبيعية. ختمت عملية التزيين بوضع ثلاث نقط بحجم شامات صغيرة على شكل مثلث فوق كل خد.....».(10)
هذه المرأة المعتدة بأنوثتها، تعتبر جمالها، جزءا من شخصيتها وقدرتها على مواجهة كل من ظلموها بمن فيهم الزوج والحبيب. ليس فقط كشكل من أشكال الغواية، ولكن أيضا كتحد لما تواجَه به من ضربات موجعة تسعى إلى تقويض بنياتها. فالفتاة التي بدأت حياتها بشكل استثنائي، تحاول أن لا ترضخ لقيم التهميش والإذلال التي مورست عليها. فلم يكن لها بد من الإبقاء على نفسها وحياتها وجسدها، شامخا معتزا كما كان. حتى إن حماتها التي تكرهها تعترف بذلك قائلة:» ابني معذور كان الله في عونه. من لا بهره جمال ابنة علي الجعايدي، وأناقتها. حتى جلستها فيها عزة نفس وكبرياء».(11)
هذه المرأة لم تكن صاحبة ذكاء شيطاني، كما توسم المرأة ذات الحيلة. بل كانت متيقظة الفكر، أكسبتها الطبيعة والتجربة، إحساسا عميقا بما يدور حولها، حتى ولو كان ضمن الطابوهات والمحرمات. فعندما نهرتها مرجانة مانعة إياها من التحدث عن رغباتها الجنسية، قائلة:
«الدنيا كلها خلقها الله هكذا عندما أخرج أمنا حواء من ضلع سيدنا آدم. فهل تكون لها رغبة خارج رغبته ؟
أجابتها عزوزة : غير صحيح لم يخلقها الله هكذا..
- ماذا تقولين ؟
- أقول الحقيقة..
- الحقيقة ؟ وكيف عرفتها ؟
- عرفتها من نفسي.. ألم يخلقني الله ؟ فلماذا أشعر بالرغبة إذن ؟» (12)
وعندما كانت تُعبر، عن مقتها الشديد للاستعمار والأجانب، لأنهم سبب مقتل أبيها وغياب عمها..، وكانت تُواجه بأعذار، من قبيل أن البعض منهم مجرد تجار ولم يحملوا السلاح في وجه المواطنين، تقول: «ولكنه جاء مع الذين يحملون السلاح.. لولاهم هل كان أتى بلادنا وامتلك متجرين ومسكنين وربما أكثر من يدري ؟ ويعيش الآن حياة الرفاهية في المدينة والبادية» (13)
هكذا وبإحساس فطري تبحر الأنثى في روحها وجسدها وواقعها.. برؤية واضحة وعميقة لم تكسرها الظروف. وحتى عندما استسلمت للموت، فقد كان ذلك بعد أن ارتاح قلبها وتأكدت، أن أحمد زوجها وحبيبها الذي من أجله قامت بما لا تقوى النساء على فعله، لم يتزوج عليها كرها لها بل محبة فيها. ولم يهجر فراشها تأففا ولا ازدراء بل بسبب عجزه الجنسي والذي ظل سرا بقلب أخته لم تبح به إلا ليلة إجراء العملية. حتى ترحل عزوزة قريرة العين هانئة...بعد حياة حافلة...
«عزوزة» رواية ثرية ودسمة وتفتح أبوابا شتى للدراسة والبحث، وقد حاولنا هنا تلمس بعض شعابها الساحرة....
1- « بنية الشكل الروائي « حسن بحراوي ص: 33
2- «عزوزة» الصفحة 33
3- « عزوزة» الصفحة 34
4- الرواية، ص 49
5- الرواية ، ص 5
6- الرواية ،ص 9
7- الرواية، ص 9
8- الرواية، ص 1
9- الرواية، ص 238
10- الرواية ص: 274
11- الرواية ،ص: 275
12- الرواية، ص: 165
13- الرواية ،ص:153


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.