القسم الأول المتعلق بتشخيص تطور الفساد دوليا وإقليميا ووطنيا: سجلت فيه الهيئة، بشكل خاص، واعتمادا على المؤشرات والتقارير الدولية والوطنية ذات الصلة، استمرار الوضع غير المرضي لمستوى تفشي الفساد ببلادنا، والذي أكده مسلسلُ التراجع في مؤشر مدركات الفساد بخمس (5) نقط خلال السنوات الأربع الأخيرة؛ وهو التراجع الذي انعكس أيضا على ترتيب المغرب ضمن لائحة الدول المشمولة بهذا المؤشر، مُسجِّلا تراجعا ملحوظا ب 21 رتبة خلال السنوات الأربع الأخيرة. وفي تقاطع مع هذه النتائج السلبية، رصد التقرير السنوي للهيئة التراجعات التي سجلها المغرب في مجموعة من مؤشرات الإدراك غير المباشرة، كمؤشر الحرية ومؤشر الحرية الاقتصادية ومؤشر سيادة القانون ومؤشر الميزانية المفتوحة، والتي سجل فيها المغرب تجاوبا سلبيا مع مؤشراتها الفرعية المتعلقة أساسا بالحقوق السياسية والمدنية، والفعالية القضائية، ونزاهة الحكومة، والعدالة الجنائية، وغياب الفساد، والحكومة المنفتحة، والمشاركة العمومية في الميزانية. وتأكد للهيئة ارتفاعُ مستوى الإدراك بتفاقم الفساد ببلادنا، من خلال استقرائها لنتائج البارومتر العربي حول المغرب، والتي جاءت مؤكدة على استمرار تفشي الفساد، خاصة، في أوساط الفقر والهشاشة والبُعد عن المركز، بما رسخ الاقتناع لدى الهيئة بأن التكلفة الكبرى للفساد يتحمل أعباءَها الأشخاص المنتمون إلى هذه الأوساط، وبأن تجليات الفساد يمكن تلمُّسها في الحقوق التي يُحرم منها هؤلاء في التعليم الجيد والسكن اللائق والرعاية الصحية وغيرها من الحقوق الأساسية.
وخلافا لارتفاع معدلات الإدراك بتفاقم الفساد، رصدت الهيئة ضعفا ملحوظا في عدد قضايا الفساد المعروضة على القضاء، مُنبِّهة، لتدارك هذا الوضع، إلى ضرورة تجاوز الإكراهات التي تشكل كوابح حقيقية أمام انخراط واعٍ ومسؤول لكافة المعنيين في القيام بواجب التبليغ عن أفعال الفساد، ومؤكدة على أن تحقيق هذا الانخراط الجماعي، بقدر ما يظل رهينا بتصحيح بعض الأعطاب القانونية والمسطرية، بقدر ما يحتاج إلى توعية المواطنين بمخاطر الفساد وآثارها الفردية والجماعية الوخيمة، مع توفير أنواع من الضمانات والحمايات لسائر المعنيين بالتبليغ؛ بما يُقوي محفزات التبليغ لديهم، ويَحُول دون تحمُّلهم لأصناف من الأضرار على خلفية هذا التبليغ. لقد ظلت الهيئة تؤكد، عبر هذا التشخيص الشمولي، على ضرورة معالجة الأسباب العميقة لتكريس الوضع المتفاقم للفساد بالمغرب، والتي تجد تجلياتها في الأعطاب التي تشوب مجالات الحقوق والحريات والنجاعة القضائية والمساواة في الاستفادة من استحقاقات التنمية البشرية، الأمر الذي يرخي بظلاله على مبدأ تكافؤ الفرص، ويؤثر سلبا على المساواة في الولوج إلى وسائل الإنتاج، ويؤدي إلى حصر تراكم الدخل وفرص خلق الثروات على فئة قليلة من المجتمع، ويساهم في توسيع دائرة اقتصاد الريع، وتناسل مظاهر الاقتصاد الخفي؛ وكلها معطيات جعلت الهيئة تشدد على حتمية الارتقاء بمحور الحكامة ومكافحة الفساد ليتبوأ موقع الصدارة في بلورة وإعداد السياسات العمومية الهادفة إلى تحقيق التنمية، لضمان التماس نتائجها من طرف سائر المعنيين، وتحقيقها للأهداف المسطرة. ولم يفت الهيئة أن تعترف، في سياق هذا التشخيص، بأن مجهودات كبيرة قد تم بذلها على مستوى تطوير السياسات العمومية ذات الصلة بمجالات تدبير الشأن العام، والتي أفضت إلى اعتماد عدة مشاريع وبرامج تنموية، إلا أن منسوب الاستفادة من مخرجات هذه البرامج، وتأثيرَها الإيجابي على سائر المعنيين يظل ضئيلا وغير ملموس.
القسم الثاني المتعلق بتتبع تنفيذ وتقييم الاستراتيجيات والسياسات العمومية: اقتناعا منها بضرورة إدراج مهام الوقاية من الفساد ومكافحته ضمن منظور استراتيجي يضمن إرساء سياسة منسقة ومندمجة، يضطلع بقيادتها وتنسيقها إطار مؤسسي يوفر الضمانات المطلوبة لحكامة تعبئ جميع المسؤوليات وفق مبادئ الالتقائية والتآزر والتكامل المفصلي فيما بينها، واصلت الهيئة خلال سنة 2022 مسار تقييمها للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد الذي ابتدأ منذ سنة 2019، مُنطلِقة من تقييم معمق لنقاط القوة وللإنجازات من جهة، ولنقط الضعف وأسباب محدودية الأثر من جهة ثانية، راصدة، في هذا الإطار، مشاريع وإجراءات لم يتم إنجازها أو تم توجيهها بكفية غير ناجعة، ويجب بالتالي إعادة تأطيرها، مقابل العديد من الإنجازات التي تتوفر على أثر محتمل قوي، ويتعين بالتالي تثمينها وتقويتها. ووقفت الهيئة على أوجه القصور التي حالت دون تمكُّن الاستراتيجية من تحقيق الأثر المنتظر منها وتغيير منحنى تطور وضع الفساد بالمغرب؛ حيث رصدت ضعف تعبئة الفاعلين المعنيين، والافتقار إلى التنسيق الفعال ومراقبة البرامج والمشاريع، وهيمنة التدبير القطاعي على حساب منطق البرمجة المندمجة، وغياب ترسيخ منهجية لتحديد الأولويات على مستوى الاستهداف المبني على دراسة الوقع والأثر الشامل، واستمرار ضعف المقروئية في تحديد الميزانيات المخصصة للاستراتيجية الوطنية، وعدم اصطحاب الاستراتيجية بمخطط تواصل موضوعي مناسب يسمح بإضفاء المصداقية على السياسات المتبعة وبتعبئة المواطنين والفاعلين الاقتصاديين وغيرهم من الجهات المعنية، وسيطرة الإجراءات التشريعية دون المواكبة الكافية لتنزيلها الناجع وجعلها فعلية وفعالة. ولتجاوز النواقص المرصودة وتحسين النجاعة والفعالية في تنفيذ مختلف برامج الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، أوصت الهيئة، على الخصوص، بإضفاء الطابع المؤسساتي على تنسيق البرامج، من خلال وضع إطار مؤسساتي للتعاون والتشاور والتكامل بين الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها والحكومة وكذا مختلف السلطات والمؤسسات والمتدخلين الآخرين في الاستراتيجيات الوطنية والسياسات العمومية، ومراجعة مرسوم اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد في اتجاه تقوية وتجويد حكامة الاستراتيجية، وضمان تتبع تنفيذ برامجها ومشاريعها وتقييم أثرها، مع إدراج سطر خاص بمكافحة الفساد في ميزانية الإدارات لضمان التمويلات اللازمة للمشاريع. وفي إطار مواكبتها لاستراتيجية تحسين مناخ الأعمال، أكدت الهيئة على العلاقة الوطيدة بين مناخ الأعمال وجودة الحكامة والبيئة المؤسسية للبلد، وما تتطلبه هذه العلاقة من مجهودات لتبسيط الإجراءات ورفع الحواجز التي تعترض سبيل المستثمرين ورجال الأعمال في تنمية أعمالهم، مما يحول دون تزايد وتنويع الاستثمار والمستثمرين. على هذا الأساس، أوصت الهيئة، في إطار إثراء خارطة طريق اللجنة الوطنية لتحسين مناخ الأعمال 2023-2026، بإضافة ركيزة رابعة إلى هذه الاستراتيجية، تتمحور حول "الأخلاقيات والنزاهة والوقاية من الفساد"، وتهدف لتحسين الظروف الهيكلية لعملية الاستثمار وريادة الأعمال، ودعم التنافسية الوطنية، وتطوير بيئة مواتية لريادة الأعمال والابتكار، تسمح بتوسيع عدديا ونوعيا قاعدة الاستثمار وفئات المستثمرين.