بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الارتفاع    اجتماع إيراني أوروبي في جنيف وترامب يرجئ قراره بشأن الانخراط في الحرب    حريق غابة عين لحصن يأتي على 15 هكتارا وطائرات الإطفاء قامت ب67 طلعة جوية    "الباطرونا" تبرم اتفاقية مع "سيماك"    لفتيت يذكر الشباب باستمارة الجندية    "الكاف" يعلن عن مواعيد وملاعب "شان 2024"    غوتيريش يستقبل آمنة بوعياش بنيويورك لتعزيز دور المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان في القرار الدولي    الأمن يلقي القبض على عصابة إجرامية    وفاة طبيبة شابة في طنجة بعد سقوط مروع من سطح منزل قرب مستشفى محمد الخامس    «علموا أبناءكم».. أغنية تربوية جديدة تغرس القيم في وجدان الطفولة    «نج «و»كي بلاك» يجمعان صوتهما لأول مرة في عمل غنائي مشترك بعنوان «La Var»    الشوبي في الذاكرة.. مشرع بلقصيري تحتفي بالصوت الخفي في أمسية وفاء سينمائي    لقجع : أفضل "كان" في التاريخ سينظمه بلدنا … وحان وقت التتويج    عن "الزّلافة" وعزّام وطرفة الشّاعر عبد اللطيف اللّعبي    ديغات: المغرب يوفر للاجئين بيئة داعمة .. والموارد الأممية محدودة    الدفاع المدني ينعى 43 قتيلا في غزة    المغرب يقبض على مطلوب بالنرويج    كوت ديفوار تعبر عن قلقها بشأن أوضاع حقوق الإنسان في تندوف وتطالب بإحصاء سكان المخيمات    نشرة إنذارية: طقس حار من الجمعة إلى الثلاثاء وزخات رعدية اليوم الجمعة بعدد من مناطق المملكة        تضخم طفيف يسجل بالمغرب: ارتفاع الرقم الاستدلالي للأسعار عند الاستهلاك بنسبة 0,4 بالمئة    افتتاح الدورة ال26 لمهرجان كناوة وموسيقى العالم بالصويرة    الكاف يكشف روزنامة النسخة الجديدة لدوري الأبطال وكأس الكونفدرالية    قرض أوروبي بقيمة 110 مليون أورو لإنعاش البنية الصناعية بإقليم الناظور    انتقادات تلاحق هدم السكن الجامعي لمعهد الزراعة والبيطرة ومخاوف من تشريد 1500 طالب    توقيف ناقل "ريفوتريل" إلى بني ملال    النفط يتراجع بعد تأجيل قرار أمريكي لكنه يحقق مكاسب أسبوعية بنسبة 4%    كارمن سليمان تفتتح مهرجان موازين بطرب أصيل ولمسة مغربية    باحثون إسبان يكتشفون علاجا واعدا للصلع قد يكون متاحا بحلول 2029        مرسوم جديد لتنظيم "التروتينبت" لتعزيز السلامة الطرقية في المغرب    "فيفا" يخفي 10 مليون منشور مسيء عبر وسائل التواصل الاجتماعي    محمد حمي يوجه نداء من والماس لإعادة الاعتبار للفلاح الصغير    كأس العالم للأندية.. ميسي ينقذ إنتر ميامي وسان جرمان يتعثر وأتلتيكو يرفض الاستسلام    المنتخب الوطني لكرة القدم النسوية يفوز وديا على نظيره المالاوي        الرباط .. افتتاح مرآب "ساحة روسيا" تحت الأرضي بسعة 142 مكانا    7 أطباق وصحون خزفية لبيكاسو بيعت لقاء 334 ألف دولار بمزاد في جنيف    تقرير: المغرب يجذب حوالي 15.8 مليار درهم من الاستثمارات الأجنبية بنمو 55% في 2024    مباحثات لتعزيز التعاون القضائي بين المغرب والرأس الأخضر    ترامب يحسم في دخول الحرب ويهدد ايران بمهاجمتها في بحر أسبوعين    المغرب يعزّز حضوره الثقافي في معرض بكين الدولي للكتاب    رواندا تقبض على زعيمة المعارضة    طقس حار وزخات رعدية بعدد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    التكنولوجيا الصينية تفرض حضورها في معرض باريس للطيران: مقاتلات شبح وطائرات مسيّرة متطورة في واجهة المشهد    الدبلوماسية الجزائرية في واشنطن على المحك: مأدبة بوقادوم الفارغة تكشف عمق العزلة    تتبع التحضيرات الخاصة ببطولة إفريقيا القارية لكرة الطائرة الشاطئية للكبار    التصادم الإيراني الإسرائيلي إختبار لتفوق التكنلوجيا العسكرية بين الشرق والغرب    بنكيران يهاجم… الجماهري يرد… ومناضلو الاتحاد الاشتراكي يوضحون    مجازر الاحتلال بحق الجوعى وجرائم الحرب الإسرائيلية    فحص دم جديد يكشف السرطان قبل ظهور الأعراض بسنوات    خدش بسيط في المغرب ينهي حياة بريطانية بعد إصابتها بداء الكلب    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحضارة المصرية: كيف ساعدت اللغة القبطية شامبليون في معرفة أسرار الكتابة "الهيروغليفية"؟
نشر في الأيام 24 يوم 23 - 12 - 2023

Getty Images التقط شامبليون طرف الخيط من دراسته للقبطية، التي لم تعد تستخدم إلا في صلوات وطقوس دينية مسيحية
أرسل العالم الفرنسي جان-فرانسوا شامبليون رسالة إلى شقيقه الأكبر جاك-جوزيف عام 1809، قال فيها "أنا متفرغ تماما للغة القبطية، أود أن تكون درايتي بهذه اللغة كالفرنسية تماما، لأن عملي الضخم في البرديات المصرية سيقوم على أساسها".
أوضح شامبليون في رسالته بإيجاز شديد، بلا شك، دعائم مشروعه العلمي لكشف أسرار الكتابة المصرية القديمة "الهيروغليفية"، اعتمادا على اللغة القبطية، لفك ما استعصى على علماء اللغة لقرون، لتبوح أطلال مصر الصامتة بأسرار إحدى أقدم الحضارات التي عرفتها الإنسانية.
وتعتبر النصوص المصرية القديمة والنصوص القبطية نافذة على تاريخ مصر القديم وحضارتها، إذ تمدنا اللغة المصرية، بجميع مراحلها، بمعارف دقيقة عن الفكر المصري خلال عصوره المختلفة، والذي تميز بالتطور والاستمرارية على نحو جعل مصر خارج إطار عصور ما قبل التاريخ الحجرية، متقدمة على بقية الشعوب القديمة.
* رحلة العائلة المقدسة: المسيح في مصر في المصادر القبطية ولوحات الرسامين الأجانب
* آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أسبوع ديني في حياتهم؟
كُتبت اللغة المصرية القديمة على مدى تاريخها الطويل بأربعة خطوط، ثلاثة خطوط من أصل واحد: الهيروغليفي والهيراطيقي والديموطيقي، وتستخدم طريقة تصويرية في الكتابة، أما الخط الرابع فهو الخط القبطي، ويستخدم طريقة الحروف الأبجدية في الكتابة، ولا ينتمي إلى الأصل السابق، بل هو خليط من الحروف اليونانية القديمة، مع تطويع بعض العلامات الصوتية من الخط الديموطيقي.
أهمية القبطية في تاريخ مصر؟
Getty Images استطاعت القبطية أن تنقل اللغة المصرية القديمة من الكتابة التصويرية إلى الكتابة بأبجدية لغوية
يعد الخط القبطي آخر مراحل تطور خطوط اللغة المصرية القديمة، وتشير دراسة بعنوان "تاريخ اللغة القبطية"، صدرت ضمن سلسلة "كراسات قبطية" عن مكتبة الإسكندرية، إلى أنه: "عند دخول العرب مصر، كانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية والسائدة بين طوائف المتعلمين والمثقفين من المصريين والأجانب على حد سواء، بينما كانت القبطية وخطها سائدين بين عامة المصريين، بالإضافة إلى بعض الأجانب المقيمين في مصر الذين أجادوها كلغة للتعامل اليومي".
استطاعت القبطية أن تنقل اللغة المصرية القديمة من الكتابة التصويرية إلى الكتابة بأبجدية لغوية، وتبرز أهمية ذلك في إظهار النطق الكامل للكلمات، نظرا لأن هذا الخط يعد الشكل الوحيد من أشكال الكتابة الذي يتضمن حروفا متحركة، أسهمت في التعبير عن حركة الأصوات المكتوبة مقارنة بالخطوط المصرية الأخرى.
* حجر رشيد: قصة اكتشافه ودوره في معرفة أسرار "الهيروغليفية"
* مصر القديمة: هل كانت زيارة شامبليون لمصر سببا في وفاته مبكرا بمرض غريب؟
ويشير العالم الفرنسي جان-لوك فورنيه في دراسته "بيئة متعددة اللغات في مصر القديمة العصر المتأخر: التوثيق اليوناني واللاتيني والقبطي والفارسي" إلى أن المراحل المبكرة الأولى للقبطية "لم تستخدم أي نظام كتابي مصري سابق، هيروغليفي أو هيراطيقي أو ديموطيقي، لأن مصر في هذه الفترة من العصور المتأخرة كانت متعددة الثقافات".
ويضيف فورنيه: "لعبت اليونانية دورها الأساسي في الآداب والثقافة والإدارة، وقد استُعملت الأبجدية اليونانية القديمة مع بعض علامات الخط الديموطيقي لإضافة بعض الأصوات المصرية الصحيحة غير الموجودة في اليونانية لتكوين الأبجدية القبطية".
Getty Images
"شامبليون ومصر القبطية"
وُلِد شامبليون في 23 ديسمبر/كانون الأول عام 1790 فى مقاطعة فيجاك الفرنسية، ونظرا لاضطراب الأوضاع في أعقاب الثورة الفرنسية، لم يستطع الالتحاق بمدارس التعليم النظامي، فتلقى دروسا خاصة فى اللغتين اللاتينية واليونانية
التحق شامبليون بالمدرسة الثانوية في مدينة غرونوبل، حيث كان شقيقه جاك-جوزيف يعمل باحثا فى معهد البحوث الفرنسى، وظهر اهتمام شامبليون المبكر باللغات القديمة، مثل القبطية والعربية والعبرية والكلدانية والسريانية.
ويقول المؤرخ الفرنسي روبير سوليه، في دراسته "مصر ولع فرنسي" إن شامبليون بفضل معرفته، من خلال شقيقه، بجوزيف فورييه، الذى شغل منصب سكرتير البعثة العلمية خلال حملة نابليون بونابرت على مصر (1798-1801)، شغف بدراسة تاريخ مصر بما وفره له من مساحة اطلاع على مجموعته الخاصة من مقتنيات أثرية أثارت فضول شامبليون وقادته نحو عشقه لكل ما ينتمي إلى مصر.
ويضيف سوليه: "أطلعه (فورييه) على أوراق بردي ومقتطفات من الكتابة الهيروغليفية المنقوشة فوق الحجر، كما قدّمه لبعض زواره مثل دوم رافائيل، الراهب القبطي، الذي يلقي دروسا في اللغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية".
"حجر وثلاثة نصوص"
بدأ العد التنازلي لمجد شامبليون قبل سنوات من هذا اللقاء عندما شن نابليون بونابرت حملة عسكرية على مصر عام 1798، أثمرت بطريقة غير مباشرة عن مخزون علمي من وصف جغرافي وتاريخي وثقافي لمصر وشعبها، ضمن مشروع موسوعة "وصف مصر"، وكان من أبرز أعمال الحملة بالطبع مصادفة اكتشاف "حجر رشيد" على يد الضابط بيير فرانسوا بوشار فى 19 يوليو/تموز عام 1799 أثناء إجراء تحصينات عسكرية في قلعة "قايتباي"، المعروفة في الدراسات الفرنسية باسم حصن "جوليان".
* الجذور التاريخية لموالد الأولياء والقديسين في مصر
* الحضارة المصرية: أسرار مسلة فرعونية تزين قلب باريس
يعود نقش حجر رشيد إلى عام 196 قبل الميلاد، وهو مرسوم ملكى صدر فى مدينة منف تخليدا للحاكم بطليموس الخامس، كتبه الكهنة ليقرأه العامة والخاصة من المصريين والطبقة الحاكمة، فجاء نصه بلغتين وثلاثة خطوط: "الهيروغليفي"، اللغة الرسمية فى مصر القديمة، و"الديموطيقي"، الكتابة الشعبية فى مصر القديمة، واليوناني القديم، لغة الطبقة الحاكمة في ذلك الوقت.
Getty Images عندما خرج الفرنسيون من مصر عام 1801 سلّموا حجر رشيد للقوات الإنجليزية
وعندما خرج الفرنسيون من مصر عام 1801 سلّموا حجر رشيد للقوات الإنجليزية من بين ما سلموه من آثار استولوا عليها في مصر، واشترطوا عمل نسخ من نقوشه مستخدمين الورق المقوى والأحبار لطبع الأشكال والحروف، سيستعين شامبليون بنسخة منها، وأصبح الحجر ضمن مقتنيات المتحف البريطاني منذ عام 1802.
"راهب مصري يحمل المشعل"
التقط شامبليون طرف الخيط من دراسته للقبطية، التي لم تعد تستخدم إلا في صلوات وطقوس دينية مسيحية، وتُكتب بحروف يونانية، ولا توجد لها علاقة "بصرية" بالخط الهيروغليفي، فمنذ القرن الرابع الميلادي لم يُنقش شيء بالخط الهيروغليفي في مصر، وذهب سره مع آخر كهنة مصر القديمة.
كان شامبليون قد استمع لأول مرة فى حياته لقداس باللغة القبطية في كنيسة بإحدى ضواحى باريس، إنها كنيسة "سان روش"، التي تعرّف فيها - بفضل أستاذه دوم رافائيل - على كاهن مصري سيعطيه مفتاح حل اللغز.
استطاع شامبليون الإلمام الكامل بالقبطية على يد هذا الكاهن المصري "يوحنا شفتشي"، الذي جاء إلى فرنسا عام 1802، وكان يعرف اللغتين العربية والقبطية، ولا نعرف عن حياته الكثير.
Getty Images كنيسة "سان روش"، التي تعرّف فيها على كاهن مصري سيعطيه مفتاح حل اللغز
يذكر شامبليون هذا الكاهن في رسالة كتبها إلى شقيقه جاك-جوزيف في 21 أبريل/نيسان عام 1809، يخبره فيها عن خطوات جادة يخطوها على درب اكتشاف أسرار الهيروغليفية، أورد الرسالة المؤرخ الفرنسي جان لاكوتور في دراسته "شامبليون حياة من نور".
يقول شامبليون في رسالته: "لغتي القبطية تتقدم على نهجها السلس وأجد بالفعل ما يبهجني أعظم الابتهاج، ولك أن تتخيل سعادتي وأنا أتكلم لغة أعزائي (أمنحوتب) الثالث وسيتي ورمسيس وتحتمس!... سأذهب لأقابل في كنيسة سان روش بشارع سان أونوريه كاهنا قبطيا يرتل فيها القداس يدعى شفتشي، سوف يعطيني معلومات عن الأسماء القبطية ونطق الحروف".
ويضيف شامبليون في رسالته: "أريد أن أعرف هذه اللغة المصرية كما أعرف لغتي الفرنسية، فعلى هذه اللغة أرسي دعائم عملي الكبير في أوراق البردي".
* جحا: فيلسوف البسطاء في الأدب الشعبي بين الحقيقة والخيال
* رحلة العائلة المقدسة: لماذا أدرجت اليونسكو احتفالات مصر بالرحلة على قائمة التراث الثقافي غير المادي؟
ويقول المؤرخ المصري أنور لوقا، في دراسة موجزة بعنوان "يوحنا شفتشي معلم شامبليون"، في موسوعة تراث الأقباط، إن هذا الكاهن "كان يقيم في شارع سان روش بباريس عندما قصده الطالب شامبليون ليأخذ درسا خصوصيا في نطق اللغة القبطية، وظل راعيا لكنيسة سان روش للأقباط المهاجرين الذين حطوا بباريس، حتى قرر في سنة 1825، أن يرحل إلى مرسيليا التماسا لمناخ أدفأ وأنسب لحالته الصحية، وعاش بين أهل الجالية المصرية التي خرجت مع المعلم يعقوب وبعده، واستقر معظمها في مرسيليا منذ عام 1801، ولا ندري متى وأين وافته المنية".
Getty Images
ويضيف المؤرخ البريطاني أندرو روبنسون، في دراسته "فك الشفرة المصرية: حياة جان فرانسوا شامبليون الفريدة" أن يوحنا شفتشي "كان مصاحبا للجيش الفرنسي في مصر، وقدم بعد ذلك مساعدات للجنة العلوم المعنية بنشر موسوعة وصف مصر".
استفاد شامبليون من أحاديثه المستمرة مع الكاهن شفتشي منذ نهاية عام 1807، ويقول لاكوتور: "كانت هذه العلاقة بالنسبه له كنزا لا يفنى، إلا أنه اكتشف أيضا في المكتبة الإمبراطورية مخطوطا باللغة القبطية ظهرت فيه أسماء المدن المصرية مكتوبة بطريقة تؤكد افتراضاته، وأيده في ذلك دوم رافائيل".
* أسرار ومفارقات تحكي قصة كتاب "وصف مصر"
* المومياوات الملكية: رحلة ملوك مصر القديمة من الموت إلى الخلود
ويضيف: "كان شامبليون يعترف عام 1809 أنه لا يزال يبحث عن طريقه، وأنه يواجه صعوبات حتى في تحديد أسس بحثه، لذلك فهو يعمل بجد ليتمكن من اللغة القبطية، فهو على يقين أنه يقف على أرض صلبة يمكن أن يشيد فوقها وهو مطمئن".
"القبطية مفتاح اللغز"
تأكد شامبليون من أن المرحلة القبطية هي آخر مراحل الحديث بلغة مصر الأصلية، (وكلمة "قبط" تعريب لاسم مصر اليوناني "إيجيبتوس" الذي سقط مقطعاه الأول والأخير)، ونمت لديه قناعة بثبات أسماء الأعلام على مر العصور، وبفضل معرفته أيضا باللغة العربية، كان يستشف من أسماء المدن والأماكن في مصر، ما يكمن وراء الحروف العربية من أصوات أساسية تعيده إلى الأصل الصوتي للاسم في نطقه القبطي.
Getty Images تمدنا اللغة المصرية القديمة بمعارف دقيقة عن الفكر المصري خلال عصوره المختلفة
وتتبع شامبليون الخيط الصوتي مهتديا بفكرة إغفال استعارة اللغة القبطية للأحرف اليونانية في تسجيل أصواتها، وفطن إلى أن اليونانيين الذين احتلوا مصر أطلقوا على الأماكن أسماء مستمدة من أساطيرهم، في حين احتفظ المصريون بأسماء المدن الأصلية، حتى بعد دخول العرب مصر، وواصلوا تسمية المدن بأسماء موروثة ولكن بأحرف عربية.
أيقن شامبليون أن القبطية لا تزال حية فانصب اهتمامه على البحث في تراكيبها وأصواتها بدقة، رغبة في أن يبرهن على أن الرسوم الهيروغليفية عبارة عن حروف لغة منطوقة ينبغي أن تحدد صوت كل حرف من حروفها بعيدا عن تأويل الصور المنقوشة على حجر أو بردية.
* الزواج وحقوق المرأة في مصر القديمة
* النيل: كيف كان المصريون القدماء يقدسون النهر "الخالد"؟
انغمس شامبليون في دقائق القبطية، وجمع قواعدها ووضع معجما لمختلف لهجاتها، بل راح يترجم إليها كل ما يخطر بباله من عبارات بل ويخاطب نفسه بها، وهو ما يؤكده في رسالة إلى شقيقه جاك-جوزيف عام 1809، أوردها لاكوتور في دراسته قائلا: "أما عن اللغة القبطية فأنا لا أفعل أي شيء آخر، فأنا لا أحلم إلا بالقبطي، ولا أفعل غير هذا، لا أحلم إلا بالقبطي، المصري".
ويشير سوليه، في دراسته، إلى مضمون رسالة كتبها شامبليون عام 1812 يؤكد فيها عثوره على مفتاح حل اللغز: "استسلمت تماما لدراسة القبطية، كنت منغمسا فيها لدرجة أنني كنت ألهو بترجمة كل ما يخطر ببالي إلى القبطية. كنت أتحدث مع نفسي بالقبطية... ولفرط ما تفحصت هذه اللغة كنت أشعر أنني قادر على تعليم أحدهم قواعدها في يوم واحد، ولا جدال أن هذه الدراسة الكاملة للغة المصرية تمنح مفتاح المنظومة الهيروغليفية، وقد عثرت عليه".
Getty Images شامبليون (يمين) في ملابس شرقية اثناء رحلته إلى مصر
كانت القبطية تتردد في ذهن شامبليون وهو يعكف على دراسة الكتابة الهيروغليفية ويقارن بين حروف اسم "كليوباترا"، وحروف اسم "بطليموس"، ولاحظ اشتراك الاسمين في خمسة أصوات، وأن حرف "اللام" في الاسمين عبارة عن رسم أسد، والأسد في القبطية "لابو"، كما لاحظ غياب صورة النسر في اسم بطليموس على حين يتكرر النسر مرتين في اسم "كليوباترا" مكان حرف الألف، والنسر بالقبطية "أخوم"، أما صورة الفم، وهو بالقبطية "رو"، فتقوم مقام حرف الراء في كلمة كليوباترا، أي أن صوت الحرف الهيروغليفي المصور هو عبارة عن صوت الحرف الأول من الكلمة القبطية التي يرسم مدلولها.
* هل أسلم نابليون بونابرت سرا في مصر؟
* نابليون بونابرت في مصر بعيون ضباط حملته العسكرية الذين حاول إسكاتهم
ويقول شامبليون في نص "رسالة إلى مسيو داسييه" الشهيرة، التي نشرها فيرمان وديدو، صاحب مطبعة "الملك والإنستيتو"، في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 1822: "من أجل التعبير عن الأصوات والنطق، ولكي يشكلوا بذلك كتابة صوتية، أخذ المصريون هيروغليفيات تمثل أشياء مادية وتعبر عن أفكار تبدأ أسماؤها أو الكلمات الدالة عليها في لغة الكلام بالحرف المتحرك أو الساكن الذي يراد تصويره".
كان عمر شامبليون 31 عاما عندما ذهب فى 14 سبتمبر/أيلول عام 1822 إلى أكاديمية النقوش والآداب، محل عمل شقيقه جاك-جوزيف، معلنا: "المسألة الآن فى حوزتى وضعت يدي على الموضوع"، فقد تمكن للتو من كشف غموض الكتابة الهيروغليفية بعد أن قضى عقدين منكبا على دراسة اللغات القديمة، وعلى رأسها اللغة القبطية.
"بداية علم ونهاية عالِم"
Getty Images عثر ضابط يدعى بوشار خلال حملة بونابرت على مصر على حجر في مدينة رشيد عام 1799 أثناء إجراء تحصينات عسكرية
كتب شامبليون نتائج بحثه فى رسالة شهيرة تُعرف باسم "رسالة إلى مسيو داسييه"، أمين أكاديمية العلوم والفنون، فى 27 سبتمبر/أيلول عام 1822، وبعد عامين كتب دراسة بعنوان "موجز منظومة اللغة الهيروغليفية عند المصريين القدماء"، وضح فيها تلك المنظومة بعبارة قال فيها: "إنها منظومة مركبة، يشمل كل نص بل وكل جملة على كتابة منقوشة تمثل رمزا ونطقا فى آن واحد".
حصل شامبليون على عضوية أكاديمية النقوش و الآداب فى مايو/أيار عام 1830، وعُين في منصب أستاذ فى "الكوليج دى فرانس" سنة 1831، فى تخصص أُنشيء خصيصا له، وهو الآثار المصرية، وجاء في نص الإعلان عن محاضراته الافتتاحية ما يلي:
"تحت عنوان (علم الآثار) سيعرض السيد شامبليون الصغير – عضو المجمع العلمي – مباديء المنظومات المختلفة للكتابة الخاصة بمصر القديمة – وهو بصدد تطويره لسلسلة قواعد اللغة المستخدمة في النصوص الهيروغليفية والهيراطيقية، وسوف يوضح التماثل بين اللغة القبطية ولغة المصريين القدماء، أيام الثلاثاء والخميس والسبت، الثامنة صباحا...".
ألقى شامبليون محاضرات معدودة، واضطرته ظروف مرضه وتدهور حالته الصحية إلى التوقف عن إلقاء محاضراته، في الوقت الذي كان يصارع فيه الزمن لنشر كتابين، "قواعد" و"معجم" للغة المصرية، حتى يجعل منهما التجميع البراق والنهائي لاكتشافه العلمي قبل أن يتوقف قلمه إلى الأبد.
رحل شامبليون فى فجر الرابع من مارس/آذار 1832 عن عمر ناهز 42 عاما، ولم يكن قد انتهى بعد من كتابيه، فأتمهما شقيقه جاك-جوزيف ونشرهما بعد ذلك في عام 1841.
أقيمت مراسم جنازته في كنيسة "سان روش" في السادس من مارس/آذار، تلك الكنيسة التي كان لها أبرز دور في حياته، والتي فيها سمع في صلواتها للمرة الأولى اللغة القبطية، وفيها تعلمها على يد الكاهن يوحنا شفتشي، ودُفن شامبليون فى مقابر "بيير لاشيز" في باريس، وأقيمت بجوار قبره مسلة من الصلصال الرملى.
لعبت القبطية دورا بارزا في تاريخ مصر القديم وفي حياة شامبليون القصيرة، استطاع من خلالها أن يسجل اسمه ضمن قائمة أهم علماء القرن التاسع عشر بإنجاز علمي ضخم، كاشفا بها أسرار كتابة مصر "المقدسة"، ليبقى اسمه حيا بها كما قال: "إن كياني كله لمصر، وهي لي كل شيء".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.