يوم بيوم نور الدين مفتاح يكتب: أضحية التباهي وذبح الأنانية نور الدين مفتاح نشر في 12 يونيو 2025 الساعة 15 و 38 دقيقة وهكذا ترى أستاذ الفلسفة جامعا أطرافه ومنتعلا صندالا يقف في رأس الدرب ليشوي رأس الخروف والكوارع! وترى اليساري إسلاميا ليوم واحد يعانق «الدوارة»، وأما المرأة العصرية فتعود إلى عهد الموحدين وتنخرط في غسل الأمعاء، ويختلط الحابل بالنابل، وتكثر الوجبات العجيبة، وتزدهر بعد ثلاثة أيام عيادات أطباء الجهاز الهضمي. نور الدين مفتاح [email protected]
يا خليل الله إبراهيم، انظر ما تبقى من انصياعك لاختبار المولى عز وجل! ومن يتذكرك في عيد الأضحى؟ من يتذكر إسماعيل؟ من يبتغي كل سنة بهذه المجازر التي تقام في البلاد وجه الله خالصا؟ من يتشرب فلسفة النحر وسمو الرسالة؟ لقد أصابنا الجنون، حتى أصبح القادرون من الأغنياء يعزفون عن طقوس تبدو لهم بدائية، وأصبح المعوزون الذين رفع عنهم الدين التكليف ينصبون لأنفسهم المشانق، ويقترضون وينحرون ليس أسوة بالخليل ولكن خوفا من الشماتة والعار!
لقد اختُزل عيد الأضحى في شعيرة النحر، والذين يتساهلون في الفرائض ويُبدون المرونة في الأركان وقد لا يصلّون، تجدهم في هذه السُّنة متشددون، صارمون، حتى يخال المرء أن الدين الحسن هو الدين الذي يؤكل، ولكن الدين كان هو المعاملة والإحسان.
هل نتأسى بجدنا إسماعيل حين قال «يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين» ويذبح الميسور، ويأكل ذي عسر؟! لا! الأمور لا تسير هكذا، الأمور مع تراكم الطبقات الجيولوجية على مجتمع يجتر بعض مظاهر العصور الغابرة أصبحت تتجاوز الخليل ومحمد عليه الصلاة والسلام، وأصبح هناك دين للقيود الاجتماعية، واعتقال في سجن القهر الجمعي، وشاشة عملاقة تفضح هذا الخليط العجيب بين حداثة ظاهرة وعتاقة متجذرة.
وهكذا ترى أستاذ الفلسفة جامعا أطرافه ومنتعلا صندالا يقف في رأس الدرب ليشوي رأس الخروف والكوارع! وترى اليساري إسلاميا ليوم واحد يعانق «الدوارة»، وأما المرأة العصرية فتعود إلى عهد الموحدين وتنخرط في غسل الأمعاء، ويختلط الحابل بالنابل، وتكثر الوجبات العجيبة، وتزدهر بعد ثلاثة أيام عيادات أطباء الجهاز الهضمي.
هذا بالنسبة للبعض، أما جزء كبير من المواطنين، فإنهم يختفون تماما من رادار الفضاء العام، ولا نراهم إلا بعد شهر كامل. إنه شهر العسل بجانب الخروف.
هكذا حاولت أن أفسر لنفسي كل هذا الذي يجري اليوم بعد الدعوة الملكية لعدم إقامة شعيرة النحر، مع الاحتفاء بعيد أضحى بدون دم! وإذا كان السبب بطبيعة الحال اقتصاديا، والاقتصاد هو عصب الحياة، فإن هذه الدعوة التي اعتبرناها في هذه الزاوية -السنة الماضية- ضرورية لرفع الكلفة على المواطن المقهور، أصبحت اليوم كاشفة عن ثقل هذا القيد الاجتماعي: وضعت الدولة في حرج، ووضعت المجتمع أمام نفسه في مرآة الحقيقة المرّة. إن «تمغربيت» ليست انتقائية، وما يقع هذه الأيام هو الجزء من تمغربيت الذي يجب أن يرمم.
لماذا تدافع الناس في الأسواق لشراء الأضحية التي أعفوا منها؟ لماذا وصل ثمن «الدّوارة» إلى 700 درهم؟ ولماذا يسخر الجميع من هذه «الدّوارة» ولا يجدها أحد في الأسواق، فهل يشتريها الجان؟ أغلبية الناس في المحيط لا يتحدثون إلا عما يشوونه يوم العيد، هل مجرد لحيمات أم قضبان بولفاف؟ لا أحد يتحدث عن صلاة العيد، وأما إذا تحدث متعالم عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإنه يبدو وكأنه قادم من الألف الثانية قبل الميلاد.
عموما، لم يطرح موضوع عيد الأضحى كفرض اجتماعي للنقاش العميق لأن حجة المجتمع لحد الآن أقوى، ولكن نحن لا نناقش إلا هذا الاستثناء بعد الإعفاء الملكي الذي كشف أن الداء متجذر في اللاوعي عندنا، ولم تتجاوزه لا فرنكفونية الطبقة المتوسطة ولا تعالي الطبقة الميسورة ولا ضائقة الطبقات الشعبية. هناك شبه إجماع على طقس ينتقده الجميع ويصر عليه الجميع!
جزء من هذا التناقض يصبح طابعا مجتمعيا بامتياز، محافظون ومنفتحون في آن! علمانيون وصارمون في فصل الدين عن السياسة، ولكن دين الدولة والمجتمع هو الإسلام المدستر، وأمير المؤمنين هو الذي دعا إلى عدم النحر رأفة بالقطيع الوطني، وهذا من مهام الإمامة العظمى. فكان هذا التوجيه: «كأمير المؤمنين والسّاهر على إقامة شعائر الدين وفق ما تتطلبه الضرورة والمصلحة الشرعية… فإننا نهيب بشعبنا العزيز إلى عدم القيام بشعيرة أضحية العيد لهذه السنة».
الأمر كان يبدو بديهيا بالنظر إلى الوضعية التي وصلت إليها البلاد بفعل الجفاف غير المسبوق، والذي لم نعرف خلال 40 سنة الأخيرة أشد منه وبسبب التدبير الحكومي الكارثي، بل إن الناس انتظروا أن تتم هذه المبادرة الملكية في وقت «كورونا» وفي كل سنة قاسية بعدها بفعل تكاثف الظروف الوطنية والدولية، لدرجة أن المغاربة عاشوا أقسى سنة غلاء في تاريخهم في 2024 دون تدخل حكومي ناجع، ووصل سعر الكبش إلى أثمنة خيالية. وعلى الرغم من ذلك كان ميزان التقدير في المؤسسة الملكية شديد الحساسية، ليس بالنظر لما يمثله عيد الأضحى كمناسبة دينية ينعتها المغاربة ب «العيد الكبير» لأهميتها، ولكن لما تمثله شعيرة النحر بالضبط، والطقوس الاجتماعية البالية وأمراض التباهي والاستعراض والحرج المجتمعي.
والغريب في هذه القصة أن الذين كانوا يطلبون أن يرفع عنهم الحرج بتدخل ملكي هم أو جزء كبير منهم من سارعوا للبحث عن الكبش في الأسواق، حتى اضطرت السلطات للتدخل بالقانون لتحويل الدعوة الملكية الطوعية إلى إجبار يمكن أن نقول عنه ما قاله الشاعر عن جرّ الناس إلى الجنة بالسلاسل.
أنا مغربي ولا أستثني نفسي من هذه التركيبة السكيزوفرينية فينا. لا يمكن أن تتقدم هذه البلاد فقط بالتحديث الفوقي، فالمطارات والطرق السيارة وجلب الاستثمارات الكبرى وتحسين وجه المدن إنجازات لا غبار عليها، ولكن في النهاية الهدف الأول والأخير يبقى هو الإنسان، وها نحن نرى الحال: نصف الشعب أمي أمية أبجدية وهذا عيب وعار، وجزء كبير مازال يؤمن بالخرافة، وحتى حصون المعرفة من مدرسة وجامعة وبحث علمي وإعلام تنهار بعد تدهور ثابت معترف به، وإذا كنا داخلين إلى الانفتاح على العالم بكل هذه العربة الاجتماعية الثقافية المهترئة، فإننا، بمعادلة رياضية لا نقاش فيها، سنخرج في مثل هذه المناسبة الدينية التي منع فيها الذبح في «الدّوارة» مباشرة.
إن الذي قال «وفديناه بذبح عظيم» هو الذي قال عن الذبيحة «لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم». إنه المولى عز وجل الذي سيعتبر الرأفة في هذه الظروف بالقطيع الوطني المتهالك من التقوى. فأن يذبح المرء أنانيته وجشعه وتكلّفه هو ملح الأضحى، ولكن أغلب الناس – لحد الآن على الأقل – لا يستحيون، وعيد سعيد، وأما بلا دماء فهو أسعد.