برعلا زكريا يبدو أن قطاعا حيويا بأكمله، هو التعليم العالي، قد دخل قسم العمليات الجراحية، ومن يمسك المشرط ليس سوى واحد من أبنائه البررة. وزير يجمع في سيرته بين صفة الأستاذ الجامعي ورئيس جامعة ابن طفيل سابقا، وهي السيرة التي تحولت اليوم إلى تفويض لتمرير ما عجز عنه سابقوه. بل أن صاحبنا خرج للعلن بحماس لتسويق خطة فرض الأداء مقابل مقعد الدراسة. يتم تقديم هذا الطرح مع بعض مهارات تفخيم الصوت و"تخراج العينين" بمبرر الجودة وتنويع الموارد ونفخ أجور أساتذة التعليم العالي، كأن فكرة امتصاص دماء الأجراء الحالمين هي القدر المحتوم والحل السحري. لكن خلف هذا الدخان الكثيف من الدعاية، تكمن حقائق أشد قابلية للتصديق وأكثر إزعاجا. فالحماس المفرط لتطبيق ما يشبه خوصصة التعليم العالي، ليس وليد غيرة مفاجئة على مستقبل الطالب، بل هو محاولة ترقيع لواقع مرير. الواقع الذي يقول إن العرض الجامعي المفتوح قد وصل إلى حد الإشباع والاختناق، ولم يعد قادرا على ابتلاع أفواج الخريجين المتزايدة. وبدلا من الحل الأصعب، المتمثل في توسيع البنية التحتية وتجويدها، يتم اللجوء إلى الحل الأسهل، وهو وضع حواجز مالية لفرز الطلبة، ليتحول الحق في التعليم إلى امتياز لمن استطاع إليه سبيلا. والمؤسف أن المغرب، وعلى مدى عقود، كان يحتل مكانة متقدمة مقارنة بالعديد من الدول، حتى تلك التي تفوقه ثراء، في الحفاظ على مبدأ مجانية التعليم العالي كخيار استراتيجي وطني. هذا المكتسب التاريخي، الذي حمى أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة، هو ما يسعى الوزير الحالي لهدمه والتراجع عنه. وبدلا من البناء على هذا النموذج الوطني والسعي لتطويره وتمويله بآليات ضريبية عادلة أو عبر إبداع حلول تمويلية لا تمس جيوب الطلبة، يختار الوزير الاقتداء بتجارب دولية أقسى، لجأت مرغمة لفرض رسوم باهظة تحت وطأة أزمات مالية خانقة أو انفجارات سكانية لم تستطع مواكبتها. نحن إذن أمام اختيار واع للتراجع، واستيراد لنموذج الأداء مقابل الدراسة من دول تعاني، عوضا عن تعزيز النموذج الوطني القائم منذ عقود. هذا التوجه ليس مجرد اجتهاد وزاري معزول، بل يمكن بسهولة وضعه في سلة الاستجابة لإملاءات خارجية، تضغط باستمرار لتقليص نفقات الدولة على القطاعات الاجتماعية. وهي الوصفة الكلاسيكية للمؤسسات المانحة، التي ترى في التعليم والصحة عبئا ماليا يجب التخلص منه، وليس استثمارا في المستقبل. يضاف إلى هذا السياق الضاغط، ما يبدو كإرهاصات للالتزامات الدولية الكبرى، وعلى رأسها المونديال، والتي تتطلب حشد موارد مالية هائلة، وهو ما قد يدفع إلى البحث عن هذه الموارد في جيوب المواطنين عبر التضحية بآخر قلاع الخدمة العمومية. ينضاف لما سبق كون معالي الوزير الحالي يضع نفسه فيما يشبه امتحانا سياسيا، مقدما نفسه على أنه رجل المهمات الصعبة، القادر على كسر تابوهات المجانية التي هابها الآخرون. وهو يفعل ذلك مستفيدا من سياق مرر قبله قوانين مكبلة كقانون الإضراب، الأمر الذي من شأنه أن يضمن له مكانا دائما في دوائر النخبة الفاعلة، وربما يدخله التاريخ كما دخله آخرون بقرارات موجعة، كتحرير المحروقات أو إصلاح التقاعد. لكن الرهان على صمت المتضررين، قد يكون رهانا خاسرا. وتمرير إصلاحات بهذا العمق الاجتماعي لا يقاس فقط بنجاح الوزير في تسجيل نقاط سياسية، بل بمدى قدرة المجتمع على استيعاب الصدمة أو رفضها. فإذا نجح الوزير، سيكون ذلك إيذانا بعهد جديد عنوانه التعليم لمن يدفع، وسيكون هو الرابح الأكبر. أما إذا تحركت المكونات الطلابية والنقابية و أحبطت هذه المقاربة، فقد يدفع الوزير ثمن طموحه السياسي الذي تجاوز حدود المقبول اجتماعيا. ومن خلال نظرة عريضة على مختلف القطاعات يمكن استخلاص قاعدة بسيطة ومجردة مفادها أن الدولة تحتاج إلى موارد مالية ضخمة لمواجهة تحدياتها الراهنة وإنجاز متطلبات بحجم المونديال. وفي هذا السياق، يصبح الوزير الشاطر هو ذلك القادر على إيجاد آليات للوصول إلى جيوب المواطنين، سواء عبر ضرائب جديدة، أو زيادات مقنعة، أو فرض الأداء المباشر على خدمات كانت مجانية. وهنا تكمن المفارقة الكبرى، ففي الوقت الذي ترفع فيه الحكومة شعار الدولة الاجتماعية كعنوان بارز لسياستها، يجد المواطن نفسه، وخصوصا الطبقة المتوسطة، أمام أوسع عملية سحق ممنهج لقدرته الشرائية ولآخر حقوقه المكتسبة.