مع ظهور العملات المشفرة، التي تمكنُ صاحبها من إخفاء هويته، وسهولة الاستخدام والقدرة على التحايل على الحدود واللوائح الدولية لغسل العائدات غير المشروعة، لم يعد غسل الأموال يتطلب إجراء تحويلات مالية معقدة ومعاملات مصرفية مشبوهة، كما هو عليه الحال في الطرق التقليدية، فمع ظهور المؤسسات المصرفية الافتراضية، وخدمات الدفع المجهولة عبر الإنترنت، والتحويلات عبر الهواتف المحمولة، أصبح من الصعب اكتشاف التحويل الرقمي غير القانوني للأموال، لذلك انتشرت المزادات والمبيعات عبر الإنترنت ومواقع المقامرة، ومواقع الألعاب الافتراضية. وفي أحيان أخرى يتم تحويل الأموال غير المشروعة إلى عملة ألعاب، ثم إعادتها إلى أموال نظيفة حقيقية يصعب تتبع مصدرها، فكيف إذن تستغل العملات المشفرة في عمليات غسل الأموال؟
يعمد المجرمون المتورطون في عمليات غسل الأموال المشفرة إلى شراء عملات مشفرة من مصادر شرعية، باستخدام هويات مزيفة أو عبر وسطاء ذوي سجلات نظيفة. تليها "مرحلة التحويل". فبمجرد التحقق من الشراء، يتم استخدام العملة الورقية لوضع أموال لشراء العملات الرقمية (البتكوين على سبيل المثال)، لتستخدم بعد ذلك لشراء عملات بديلة توفر مستوى أعلى من إخفاء الهوية.
ثم في مرحلة الإخفاء، تستخدم أدوات مثل "خلاطات العملات" لتضليل مسارات "البلوكتشين" وتعطيل إمكانية تتبع المعاملات. أما في مرحلة "الغسل"، فيُعاد إدخال الأموال إلى النظام المالي عبر منصات تبادل أو قنوات تبدو شرعية، لتنتهي العملية بمرحلة السحب، حيث يتم تحويل العملات المشفرة إلى عملات ورقية "نظيفة".
يصعب على السلطات تتبع هذه العمليات، بسبب وجود معظم الخوادم الخاصة بهذه المواقع خارج سيطرة الدول، لذا تجذب العملات الافتراضية غاسلي الأموال بسبب غموضها، وسهولة تحويلها إلى مبالغ مالية بشكل سريع عبر شبكة الأنترنيت، مستفيدة على الخصوص من عدم مواكبة القوانين لهذا النوع من الجرائم، على اعتبار أن معظم هذه القوانين ماتزال تعتمد على اكتشاف الأموال القذرة أثناء مرورها عبر المؤسسات والقنوات المصرفية التقليدية.
وإلى جانب غسل الأموال، تستخدم الأسواق على الويب المظلم العملة المشفرة لتسهيل بيع المخدرات والأسلحة النارية غير المرخصة والبيانات المسروقة، كما رصدت العديد من التقارير إقبال جهات إرهابية على جمع التبرعات باستخدام العملة المشفرة، التي تلجأ إليها المنظمات المحظورة للالتفاف على العقوبات.
ومن أشهر العملات المشفرة التي يتم استخدامها في غسيل الأموال "البتكوين"، وهي عملة مشفرة تم بدء تداولها سنة 2009 كأول عملة رقمية لامركزية، يمكن إرسالها من شخص إلى آخر عبر شبكة البتكوين بطريقة الند للند، دون الحاجة لوسيط مالي، كما أنها الأكثر تداولا، إضافة إلى "الإيثيريوم"، وهي نوع من العملات المشفرة التي تستخدم في البيع والشراء والاستثمار، وتتضمن عنوان محفظة خاص بها للتحويلات والتداولات، ويتم تنفيذها من خلال أنظمة الذكاء الاصطناعي".
تتمثل أبرز المخاطر في أن الطبيعة المجهولة للمعاملات الرقمية تعرقل عمل السلطات المالية، مما يتيح لغاسلي الأموال تنفيذ عملياتهم عبر الإنترنت دون الخضوع لأنظمة رقابية صارمة. كما تُستخدم العملات المشفرة في تمويل الإرهاب، وشراء الأسلحة والمخدرات، أو حتى دفع الفديات في جرائم الإنترنت.
وتتجلى الخطورة الأكبر في أن هذه الأنشطة تؤثر على الاستقرار الاقتصادي للدول، لا سيما الصغيرة منها، إذ يؤدي تدفق الأموال غير المشروعة إلى رفع معدلات التضخم، وزعزعة ثقة المستثمرين. كما أن النظام المالي بأكمله قد يتعرض للخطر في حال تورط بنوك أو بورصات كبرى في هذه العمليات دون علمها.
وعموما، تؤدي المعاملات التي تتم بغرض غسل الأموال إلى زيادة الطلب على النقد، مما يجعل أسعار الفائدة وأسعار الصرف غير مستقرة، وتنتج عن ذلك منافسة غير عادية، وإلى حد كبير تفاقم التضخم في البلدان التي يجري فيها المجرمون تعاملاتهم التجارية.
ولمواجهة هذه التحديات، يصبح من الضروري وضع إطار قانوني عالمي، يعزز التعاون المحلي والدولي ويُلزم مزودي الخدمات الرقمية بالامتثال الصارم لقوانين مكافحة غسل الأموال، عبر تطبيق آليات مثل اعرف عميلك (KYC) والمراقبة المستمرة للمعاملات.
إن فهم خريطة الجرائم الرقمية وتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على تحليل بيانات البلوكتشين بشكل لحظي، يمثلان خط الدفاع الأول في مواجهة هذه الجريمة المتطورة، التي تمثل خطرا متصاعدا على الاقتصادات العالمية.
وتوصي مجموعة العمل المالي، وهيئات رقابية محلية بسن قوانين واضحة تنظم تداول العملات المشفرة، وتُخضع المنصات والمتعاملين بها لإجراءات المراقبة. وتشدد على ضرورة وضع تعريف واضح لمزودي خدمات الأصول الرقمية، ومنع المعاملات المجهولة أو المعاملات التي تجرى من محافظ مخفية المصدر.
كما تدعو إلى ضرورة إجبار منصات تبادل العملات المشفرة على تقديم تقارير المعاملات المشبوهة إلى وحدة معالجة المعلومات المالية، بغاية رصد الأنشطة غير الاعتيادية أو ذات الحجم الكبير. وإلى جانب ذلك تشترط استخدام أدوات تحليل سلاسل الكتل لتتبع مسار الأموال، والتعاون مع شركات متخصصة في تعقب المعاملات المشفرة لتحليل البيانات.
وتشدد أيضا على ضرورة التنسيق مع هيئات الرقابة الدولية لتبادل المعلومات وملاحقة المشتبه فيهم خارج الحدود الوطنية، والانخراط في الاتفاقيات الدولية لمحاربة الجريمة المالية الرقمية. زيادة على تمكين السلطات القضائية من تجميد المحافظ الرقمية المشتبه بها أو مصادرتها عند الحاجة، ضمن المساطر القانونية. كما تحث الدول على ضرورة تكوين فرق متخصصة داخل الأجهزة الأمنية والقضائية لرصد هذا النوع من الجرائم.