على المثقفين الوطنيين طرح ثقافة بديلة لثقافة التكفير و جوائز "كان" ليست دليلا على تفوق سينما ما.. تحدث الناقد والكاتب السينمائي المصري أمير العمري في حوار خص به "الأمة العربية"، عن الوضع الراهن للسينما العربية، وكيف أصبح المثقف يشعر بالإغتراب وسط غياب الحرية وتنامي تيار التكفير، كما عرج صاحب مؤلف "إتجاهات في السينما العربية" لدور التوازنات السياسية في منح الجوائز السينمائية الدولية، مصرحا أن فيلم البلديون للجزائري رشيد بوشارب كان من الأفلام الناجحة بكل المقاييس في مهرجان كان لعام 2006 ، بالإضافة إلى ذلك تطرق "العمري" لحال سينما الأطفال ومواضيع أخرى تكتشفونها في ثنايا الحوار. "الأمة العربية" : لا يختلف إثنان في كون السينما العربية تعيش واقعا مترديا، فهل يمكن القول أنها جزء من وضع الإنسان العربي الباحث عن بصيص أمل وسط الحالة العامة المحاصرة بالتخلف وسياسات القهر والظلم وغيرها؟ أمير العمري : الواقع الذي تصفينه بالمتردي هو من صنع الحكومات التي لم تعد تولي قضية دعم الثقافة والفنون أي اهتمام بل أصبح كل ما يهمها هو تشجيع الرأسمال الخاص على الاستثمار، لكي يعنيها على التخلص من مسؤوليات الإنفاق على شتى أنواع الإنتاج بما فيها قطاع الخدمات، وفي سلم أولوياته الخدمات الثقافية التي تساهم في زيادة رقعة الوعي لدى المواطن، وكأن الدولة أصبحت لا تقيم أي اعتبار لقيمة الوعي.. في ضوء هذا الإهمال المتعمد، لا يمكن أن ننتظر من قطاع مالي خاص يسعى لتحقيق الربح بأي طريقة بل وبأكثر الطرق لا مشروعية، أن يدعم السينما من ناحية الإنتاج أو التوزيع والتسويق والمهرجانات ودور العرض السينمائي. لم يعد هناك مكان للسينمائي الجاد صاحب المشروع الفني والبعض منهم يهرب إما إلى أوروبا، وإما إلى التليفزيون لإخراج المسلسلات المفتعلة الطويلة التي لا تساهم في رأيي، سوى في إشغال الملايين والإبقاء عليهم في المنازل، منعزلين عن المشاركة في الحياة العامة. لقد أصبح المسلسل الطويل، أداة لسجن المتفرج لمدة ثلاثين يوما أمام الشاشة الصغيرة، عاجزا عن مناقشة ما يشاهده، يبتلع ما يعرض في سياق ذلك من إعلانات تجارية. لم يعد هناك ما يمكننا أن نطلق عليه "السينما العربية" لأن هناك عدد محدود للغاية من الأفلام التي تظهر في معظم الدول العربية بالصدفة، أي بدون آلية حقيقية للإنتاج السينمائي، ومع شيوع التطرف والإرهاب واستقالة الدولة من دورها الثقافي الطبيعي، تناقصت قاعات العرض السينمائي حتى أنها تلاشت من مدن كاملة مكتظة بالسكان في عالمنا العربي، فعن أي سينما نتكلم إذا كانت الوسيلة الوحيدة لوصولها للمتفرج غائبة. إن السينما بشكل عام، (الغربية أساسا) موجودة أو متوفرة للمشاهد العربي بفضل التليفزيون فقط، أما الأفلام العربية فلا تعرض حتى في البلدان التي تنتجها، بل إن هناك دولة في المشرق العربي معروفة بأنها تمول إنتاج فيلم أو فيلمين كل سنة تعرضهما في المهرجانات بما فيها مهرجان يقام في تلك الدولة، ثم تمنع هذه الأفلام من العرض العام لديها في الداخل فهل هناك عبثية أكثر من ذلك! في نظرك هل المهرجانات تلعب دورا هاما في دعم الإستثمار السينمائي؟ المهرجانات السينمائية يمكن بكل تأكيد أن تلعب دورا مهما في تشجيع الإنتاج ودعمه بشرط أن تمتلك سياسة واضحة محددة في هذا المجال، وشريطة أن يكلف بتنظيمها المحترفون وليس الموظفون، أي أهل الخبرة وليس أهل الثقة، وبدون تدخل من السلطة السياسية في برامجها وتوجهاتها، لكي لا تصبح مجرد بوق دعائي لأي حكومة أو نظام. لكن بكل أسف ليس هذا هو الواقع فقد تحولت المهرجانات السينمائية العربية إلى مجرد مسابقات، ليس بين السينمائيين وأفلامهم، بل بين الحكومات لكي تتباهى من منها قادر على أن يأتي بأكبر عدد من النجوم المشاهير من الشرق ومن الغرب، ومن القادر على تنظيم حفل افتتاح بالبساط الأحمر، ومن صاحب أطول بساط أحمر، بل وأصبحت هناك قنوات تتخصص في تغطية فساتين السهرة التي ترتديها الممثلات في حفلات إفتتاح المهرجانات السينمائية في العالم العربي.. وضاعت قضية الثقافة، وأصبح المثقف يشعر بالاغتراب. من المؤكد أن السينما الجزائرية جزء من واقع السينما العربية، في تقديرك لماذا لم ينل أي عربي السعفة الذهبية منذ أن نالها الجزائري لخضر حامينة؟ أللتوازنات السياسية دخل في إجازة فيلم ما ؟ لم ينل أي فيلم عربي السعفة بل ولم ينلها حتى أي فيلم جزائري بعد فيلم حامينة، رغم وجود أفلام جيدة جدا شاركت في المسابقة الرسمية لمهرجان كان منها على سبيل المثال فيلم "البلديون" لرشيد بوشارب عام 2006، وهو فيلم رائع بكل المقاييس، وكان أفضل بلاشك من كثير من الأفلام التي حصلت على الجوائز. لكن أولا جوائز كان أو غيره، ليست دليلا على تفوق سينما ما من عدمه، فلابد أن نلاحظ أن مهرجانات السينما الأوروبية مثل كان وبرلين وفينيسيا هي أساسا مهرجانات أوروبية، أي أنها تهتم بالدرجة الأولى بتسويق أفلامها والدعاية لها وإبرازها، والكم الغالب الأكبر من الأفلام التي تعرض في هذه المهرجانات هي أفلام أوروبية (وأمريكية بالطبع) مع حفنة من أفلام القارات الأخرى لإكساب المهرجان غطاءا دوليا.. وتلعب التوازنات السياسية دورا بارزا بكل تأكيد، ليس من خلال توجيهات مباشرة للجان التحكم لكي تمنح فيلما ما جائزة او لا تمنح، بل من خلال الترويج الإعلامي لتيار معين أو سينما معينة، بحكم الاهتمام السياسي المركز بالدولة التي تنتج هذه السينما، كما حدث مثلا بالنسبة للسينما الإيرانية، التي أراد الغرب لسنوات طويلة ( طوال التسعينيات على الاقل) لفت الأنظار إليها، واصطياد كل ما يمكن تصوره او تخيله من "نقد" اجتماعي لاتخاذه دليلا على وجود حركة رفض مناهضة للنظام الإسلامي الحاكم (الغريب، والمختلف،..إلخ) في نظر الغرب. وذلك دون أن يكون مستوى الافلام الايرانية بشكل عام، أفضل بالضرورة من كثير من ألأفلام العربية التي أعرفها جيدا، والأمر يشبه إلى حد كبير ما كان يحدث في الماضي مع افلام الاتحاد السوفيتي أو أوروبا الشرقية في زمن الاشتراكية، فقد كان الغرب يصطاد أي فيلم يشتم منه معارضة النظام لكي يضخم من أهميته وقيمته الفنية رغم تواضعه، ثم يجعل هذا الفيلم يدور بعد ذلك، على كل مهرجانات أوروبا والدنيا بأسرها! يلجأ الكثير من المخرجين العرب للتمويل الأجنبي في إنجاز أفلامهم السينمائية، ماهو رأيك لاسيما وأن شركات الدعم الأجنبية لها شروطها الخاصة التي تخدم مصالحهم؟ و هل هي نتيجة حتمية لتخلي المؤسسات الحكومية العربية عن دورها في تقديم الدعم لمبدعيها؟ المؤكد أن الحكومات العربية (حتى القادرة منها ماليا) إنصرفت عن دعم السينما بدعوى الحرية، أي حرية السوق. وطبيعي أن يلجأ السينمائي العربي إلى أوروبا للحصول على تمويل لفيلمه لسببين أولا عدم توفر التمويل من الداخل، وثانيا غياب حرية تناول الكثير من القضايا والمواضيع كما يريد تناولها ليس فقط بسبب الرقابة الحكومية، بل بسبب صعود تيار التكفير المتنامي الذي لم تنجح السلطة في محاربته بل بعض الحكومات تتنافس معه ايضا، بل وتستخدم ارضية مشابهة (ملتحفة بالدين) لكي تثبت لجمهورها أنها أكثر إيمانا وصلاحا. وليس بالضرورة أن يكون كل فيلم ممول من الخارج مشروع مؤامرة ضد العرب كما يتصور البعض، بل هناك أفلام تمولها بعض محطات التلفزة في الغرب فقط من أجل التباهي بأنها تمول وتنتج وتعرض كل أنواع الأفلام لكل الأقليات الموجودة لديها، في إطار محاولة التعرف على عادات وتقاليد ومشاكل هذه المجتمعات التي جاء منها المهاجرون. وهناك أيضا من يمول لأهداف خاصة، مثل تصوير التخلف الاجتماعي والاعتداء على المرأة وبعض التقاليد الشعبية المتخلفة مثل الختان وما إلى ذلك، والعبرة في النهاية بإستجابة المخرج العربي من عدم استجابته، فهناك من هم على استعداد للمغالاة في ابداء التسامح المزعوم مع "الآخر" بل وتفصيل أفلام لإبراز ذلك التسامح خصيصا لكي يقال "أنظروا هذا عربي متسامح يرغب في اقامة سلام مع اليهود والاسرائيليين.. فقط حكومته هي السيئة!".. لكن هناك من يعتمدون أساسا على موهبتهم وتميزهم في التعبير عن ثقافة بلادهم في الحصول على التمويل. كثيرا ما نتكلم عن سينما الكبار ولكننا دوما نغفل الحديث عن ملف الإنتاج السينمائي الخاص بالطفل برأيك ماهي معوقات هذا القطاع وأسباب نفور المنتجين من صناعة أعمال موجهة للطفل، وما السبيل إلى إيجاد الوسائل الكفيلة بتقديم اعمال سينمائية ذات جودة وتضمن الرواج؟ غياب الاهتمام بسينما الطفل هو معادل موضوعي طبيعي لغياب الاهتمام بالطفل عموما في المجتمعات العربية. إننا، بكل أسف، مجتمعات كبار أساسا، أي لا تهتم سوى بالكبار وما يقولونه. فإذا تجرأ طفل من أطفالنا مثلا، على طرح أي تساؤلات في حضرة الضيوف عن أمر ما، أو تدخل في الحديث، فنحن عادة ننهره، لأن هذا يعتبر سلوكا "غير مقبول". الطفل العربي مهمش، ويعامل على أنه يجب أن يكون شاكرا لأننا ننفق عليه، أما إحتياجاته الفكرية والذهنية فغائبة تماما. والبديل مجرد ألعاب تافهة، لذلك يتجه معظم الأطفال إلى مشاهدة الأفلام الأجنبية التي تغرس فيهم العنف والتشوه العاطفي والنفسي. والحقيقة أن الجهة التي يجب أن تكون الأكثر اهتماما بثقافة الطفل وتمثلياته وأفلامه وأغانيه هي التليفزيون، لكن إذا كان التليفزيون الرسمي الحكومي قد تحول في الدول العربية إلى وعاء ضخم يتنافس على الإعلانات فكيف سيهتم بالطفل، فهل ستجل أفلام الأطفال الإعلانات التجارية في حين أن الأطفال فقط هم جمهورها.. إنه مأزق مزدوج! ماذا تقترح لخروج السينما العربية من قوقعة الركود؟ أخشى أنني لا أملك وصفة سهلة. المشكلة لها علاقة بالثقافة السائدة في المجتمع، وما لم يبدأ المثقفون الوطنيون في طرح ثقافة بديلة وقوية لثقافة التكفير والقتل وشطب الآخر، فلا أمل في تحقيق أي تقدم. يجب أن نعود إلى طرح أحلامنا في النهضة، من خلال برنامج ثقافي شامل تصبح السينما فيه احدى الوسائل الحديثة الأساسية، ولكن كيف سنعيد الاعتبار للسيمنا، ولثقافة الفيلم، ونحن أساسا، نختلف هل السينما حلال أم حرام؟ ولا نعترف بعد رسميا، بثقافة الصورة؟ وماذا سنفعل ومجلات السينما ومطبوعاتها شبه غائبة عن العالم العربي. لقد تحولت السينما فقط إلى مهرجانات تعرض نفس الافلام لعام أو عامين، حتى أن الذهاب إلى مهرجانات السينما العربية لم يعد أمر ذو قيمة بالنسبة لناقد مثلي، فنحن نشاهد نفس الأفلام، ونلتقي بنفس الوجوه التي تحتفل بنفسها هنا وهناك.. ولكن لا تقدم! في الأخير حبذا لو تطلعنا عن جديد مدونتك "حياة في السينما"؟ مدونة "حياة في السينما" هي عمل متواضع رغم ما أبذله فيها من جهد من أجل التواصل مع عدد من محبي السينما كفن وثقافة. وهي مدونة شخصية بمعنى أن معظم ما ينشر فيها هو من كتاباتي الشخصية، ومنها ما لا أستطيع نشره في أي مكان بسبب تحرره من القوالب وجرأة ما أطرحه فيه في القضايا المسكوت عنها. لكني اقتنعت أخيرا بضرورة أن تتطور هذه التجربة وأستعد حاليا لاصدار موقع هو عبارة عن مجلة سينمائية متنوعة شاملة يكتب فيها النقاد العرب والمهتمون وتخصص ركنا مهما لهواة السينما من الشباب أيضا لعرض أفلامهم وسيناريوهاتهم ومناقشتها معا ومع النقاد والسينمائيين الذين سأدعوهم إلى المشاركة في هذا الموقع الكبير الذي سينطلق قريبا. لكني أصدر هذا الموقع على نفقتي الشخصية، وبمبادرة خاصة مني وبدون أي دعم من أي جهة إيمانا مني برسالته ودوره، ولست أنظر لذلك أي شكر من جهة، كما أرفض أن يتعامل معه أحد على أنه "موقعي الشخصي" بل سيكون مجلة مفتوحة للجميع، مع الإبقاء على "حياة في السينما" بطابعها الشخصي الذي يعبر عن صاحبها. عن "الامة العربية" الجزائرية حاورته : دليلة قدور 11/09/2010