ما الذي نعرفه عن المسيحيين في بلاطات السلاطين المغاربة منذ العهد الموحدي والسعدي؟!.. هل نعلم أن القائد الذي قاد بحنكة معركة وادي المخازن، مع السلطان عبد الملك السعدي، والذي أخفى وفاته عن جنده حتى يواصلوا انتصارهم، هو القائد والحاجب رضوان العلج، البرتغالي الأصل والمسيحي الذي أسلم بعد أسره، وأنه ساهم في الإنتصار على ملك البرتغال وقائدها في تلك المعركة الشهيرة، سلفستر؟!.. ما الذي نعرفه عن مسيحيي السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله؟!.. وعن الفرنسي عبد الرحمان دوسولطي؟!.. ما الذي نعرفه عن القائد العسكري إيركمان؟!.. إنها بعض من المساحات النادرة في تاريخ بلادنا، التي سنحاول تتبعها في هذه السلسلة من المقالات، من خلال الإعتماد على كتابات الفقيه السلاوي الناصري، صاحب كتاب «الإستقصا في تاريخ المغرب الأقصى»، وكذا كتابات الباحث الأنثربولوجي الفرنسي دولامارتينيير، الذي نواصل ترجمة رحلته في مغرب القرن 19. كانت قضية الهدايا الخاصة بالأمراء المسلمين، في القرن الثامن عشر، بباريس، موضوع اهتمام خاص جدا. كان الحرص كبيرا، على أن لا يهدى لهم سوى النفيس الغالي. لقد اكتشفنا مثلا، أن الملك لويس السادس عشر، كان قد أهدى خيمة ملكية بادخة، أبهرت البلاط السلطاني الشريفي بالمغرب. بل، إنني قد تمكنت من جمع معلومات مدققة، ضمن أرشيفنا الوطني [أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية]، عن حجم الهدايا التي حملها ممثلونا وسفراؤنا إلى هناك. إنها عبارة عن أسرة مذهبة، بها أعمدة رواسي ضخمة، منقوشة عليها بالذهب آيات قرآنية باللغة العربية، وكذا زرابي من نوع «أوبيسون» [ وهي زرابي تعود إلى القرن العاشر الميلادي، معروفة جدا بفرنسا وأروبا على أنها زرابي ملوك وإمبراطورات. وهي صناعة فرنسية محضة وجد غالية. قيمة هذه الزرابي وخصوصيتها أنها تضم رسومات دقيقة عن أوضاع إنسانية مختلفة، فيها الديني، فيها السياسي، وفيها الغرامي. هي غاية في الروعة، نظرا لجحم الألوان المتضمنة فيها، والدقة العالية التي تميزها في الإنجاز. وسميت ب « زرابي أوبيسون» نسبة إلى المعمل الملكي الشهير للزرابي بمنطقة «أوبيسون» بفرنسا، الذي تم تأسيسه سنة 1665 ميلادية، وظل يعمل إلى اليوم في إنتاج هذا النوع من الزرابي الفاخرة. علما أن بداية ظهور هذا النوع من الزرابي، بذات المنطقة يعود إلى القرن العاشر الميلادي، وكانت تعرف بتقنية الزرابي الخضراء. - م - ]. ومن بين الهدايا أيضا، نجد الشراشف وأغطية الأسرة الحريرية، والأثواب الحريرية، والساعات المذهبة، والساعات الضخمة المصنوعة من الفضة، والجواهر، وملابس النساء بالنسبة لنساء الحريم، وعددا من أواني الشاي والقهوة، منها علب شاي من خشب الأكاجو وأخرى للسكر،، أخيرا، نجد كل شئ غايته الإبهار وخلق السعادة لدى متلقيه، مما يترجم إدراكا دقيقا بالذهنية المغربية وما تعشقه من أمور العيش والحياة. لقد كنت شاهدا، في طنجة [ خلال سنوات 1882 - 1918 ]، على تسابق محموم لتقديم الأجمل والأبهر والأبهى للبلاط السلطاني، بين مختلف السفراء الأجانب بها. كان الرهان، هو كسب السبق في تقديم أغلى الهدايا وأجملها. [ الحقيقة أنه بالعودة إلى «أرشيف الهدايا» في القصور السلطانية المغربية، والتي أكيد أن عددا منها لا يزال موجودا ومحافظا عليه إلى اليوم، لا نتوقف فقط عند معطى هدية من ملك أو إمبراطور أروبي إلى سلطان أو أمير مغربي. بل، إننا بإزاء علاقات دولة بدولة، مما يترجم قدم واقع الدولة بالمغرب منذ قرون غابرة. ومعنى ترسخ فكرة الدلة كواقع وكممارسة سياسية، إنما يعتبر الترجمان لتشكل هوية حضارية معينة. ومعنى تشكل هوية مغربية بمعناها الحضاري، إنما يكتسب دلالاته الكبرى، من خلال التراكم المتحقق في نظام الدولة، ككيان سياسي منظم، له قوانين، وله قوة مادية ورمزية، وتتم العلاقات معه دوليا على أساسا أنه كيان موحد موجود. وهذا أمر هام من الناحية التاريخية - م - ]. كان السفير السويدي، مثلا، من أكثر السفراء توفقا، في تقديم هدايا نفيسة جدا، هي عبارة عن علب صغيرة من خشب نفيس، تتضمن خواتم من الماس والزمرد. إنك تستطيع أن تجد فيها رسما لفراشة طائرة، أو سيفا صغيرة محفورة فيها أعداد من الحجر الكريم. مثلما قد نجد ضمنها بندقية مرصعة. أو للإبهار الأعلى، عربة مدلاة لها نوابض، والتي تتحول بعملية يدوية بسيطة إلى كرسي، والكل فيها مغطى بالحرير والساتان الأخضر، مع هدب مذهبة. بل، إن السويد قد بعتث أيضا باثنين من كراسي العرش، مرفوقين بكراسيهما الصغيرة المذهبة. وأخيرا، هدية من النوع الرفيع جدا، حينها، وهي عبارة عن ست نوافذ مزدوجة، بزجاج مربع من الكريستال. فيما كانت هولندا، قد بعتث عبر سفيرها، أدوات قهوة من الذهب الخالص، وأيضا ساعات، وقدر من فضة على الموضة الجديدة [في أواسط القرن 19] مرفوقا بباقي أدوات الغسيل المرافقة التي هي من فضة خالصة أيضا. بعد الثورة الفرنسية [ التي وقعت سنوات 1789 - 1792 ميلادية]، تبدلت الأمور في باريس. لقد رفض الإمبراطور نابليون أن تقدم الهدايا باسمه إلى السلطان المغربي، بل إنه أصدر أمرا بذلك إلى سفيره بطنجة السيد دورنانو، وهو في طريقه إلى فاس في مهمة ديبلوماسية. ولن يعود تقليد تقديم الهدايا سوى، في فترة الإصلاح، وسوف تتخلى فرنسا نهائيا عن هذا التقليد في عهد سفارة السيد دوبينيي سنة 1892 [أي سنتين قبل وفاة السلطان مولاي الحسن الأول يوم 8 يونيو 1894، بسبب مشاكل في الكبد - م - ]. كانت زيارة البلاط السلطاني، في مهمات ديبلوماسية، مناسبة لصدور العديد من الكتابات. بعضها يعتبر كنزا حقيقيا للمعلومات، وبعضها الآخر عبارة عن انطباعات عاطفية، مثل كتاب « لوطي» عن « المغرب الجميل». بينما هناك كتب أخرى متحاملة بعض الشئ. تكون تلك الكتابات في الغالب، نتيجة أول لقاء لأولئك الديبلوماسيين مع المغرب، هم الذين يكونون مشحونين بالعديد من القصص عن هذه البلاد، علما أن عدد القصص المختلقة حول بلاد المغرب تعتبر الأعلى بين القصص الخاصة بالدول. ألم أسمع بنفسي، مترجما إسرائيليا مغربيا، يؤكد لسيده، وهما في طريقهما إلى البلاط السلطاني، أنه يمكنه التكهن بمزاج الجالس على العرش انطلاقا فقط من لون الحصان الذي يركبه يوم استقباله السفراء. فإذا كان الحصان أبيض، فذلك علامة على الدعة والسلام، وأن ذلك عنوان على تقديره الكامل والكبير للسفير. وإذا كان الحصان أسود، فإنه علينا انتظار ساعة نحس. والحقيقة أنني أحجمت عن سؤاله عن تفسيره لباقي ألوان الأحصنة. لقد كانت مثل هذه الترهات كثيرا ما تحكم الرؤية إلى هذه البلاد من قبلنا نحن الأجانب. يكون، في العادة، الفرسان المغاربة المرافقون للسفراء، جنودا قدامى في الخدمة العسكرية. وهم عادة من خدام المخزن، الذين يجهلون أي شئ عن الأروبيين، وأثناء قيامهم بمهام الحراسة يتعلمون العديد من الأمور الخاصة بحياتنا الأروبية. لقد رأيناهم منبهرين، بل مصدومين، وهم يشاهدون ليلا، تحت ضوء القنادل، من ثقب صغيرة في خيمة سفير أروبي، كيف أزال هذا الأخير باروكة شعر كانت موضوعة على رأسه وسلمها لخادمه الخاص كي يضعها فوق منضدة مخصصة لذلك، قبل أن يتمدد لينام. وطيلة الرحلة، لم يكن حديث الجند المغاربة المرافقين سوى عن هذا الحادث، بل إن القصة سبقت السفير قبل وصوله إلى البلاط السلطاني. كان السلطان محتاطا من ذلك السفير، فكان يرمقه بنظرة ثاقبة، ويخصه بمتابعة غير مسبوقة، مما جعل السفير يعتقد أن ذلك عنوان اهتمام وتقدير خاص من السلطان. ومن يدري، فربما نقل ذلك في تقريره إلى حكومته، مما جعله يعطيها انطباعا مغلوطا لا أساس له من الصحة.