الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    بين الهزيمة الثقيلة والفوز التاريخي .. باها يبعث رسالة أمل للجمهور المغربي    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    الوداد يعود بانتصار ثمين من آسفي    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إيطالي ينقب في تاريخ الشيوعيين المصريين المسكوت عنه .. جينارو جيرفازيو: اليسار الماركسي المصري انتحر
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 30 - 10 - 2010

مع أن فترة السبعينات كانت من أكثر فترات نشاط اليسار الماركسي في مصر، إلا أنها تبقى مع ذلك الفترة الأكثر غموضاً في تاريخ الحركات السياسية المصرية، فالحركة التي اندلعت بعد هزيمة 1967 وهيمنت في فترات على الحركة الطلابية في الجامعات في وقت كان العالم كله يتنفس نسائم ثورات الشباب منذ 1968 في العالم كله، وناصرت الثورة الفلسطينية، وطالبت بحرب شعبية لتحرير الأرض المحتلة كافة، وشاركت في الحركات الاحتجاجية العمالية ضد سياسات الانفتاح الاقتصادي لنظام السادات، وعارضت بقوة خطوات الرئيس المصري الراحل نحو الصلح مع إسرائيل، كانت أيضاً سريعة الاختفاء أمام القمع الذي مارسه ضدها النظام، وأيضا الحركات الإسلامية التي استولت على المشهد السياسي تماما مع نهاية السبعينيات.
وعلى الرغم من وجود العديد من أبطال هذه المرحلة على قيد الحياة، إلا أن تاريخ ما حدث ومعرفة أسبابه يبقيان من قبيل التاريخ الشفاهي الذي يظهر من خلال الجلسات الخاصة لمناضلي هذه الفترة ولم يعرف طريقه للتدوين.
يجذب ذلك التاريخ »جينارو جيرفازيو« الباحث الإيطالي الشاب ويبدأ في طرح أسئلة وإجراء عشرات المقابلات مع مناضلي تلك الفترة وما سبقها، وتجميع المنشورات الدعائية والنظرية للتنظيمات الشيوعية في ذلك الوقت، ويصبح تطور الحركة الماركسية في مصر في الفترة ما بين 1967 وحتى اغتيال السادات في 1981 محور أطروحته التي نال عليها درجة الدكتوراه من كلية الدراسات الشرقية العريقة بنابولي. والتي صدرت ترجمتها العربية مؤخراً عن المركز القومي للترجمة.
جينارو الذي يعمل حالياً أستاذاً لتاريخ الشرق الأوسط المعاصر بجامعة »ماكوري« بأستراليا ينطلق في بحثه عن المنظمات الماركسية النشيطة في السبعينيات من أرضية فكرية ترى أن الدراسات عن الدول »النامية« تركز في كثير من الأحيان على »الدولة« كموضوع وحيد للتحليلات ولا تتعامل مع المجموعات »البديلة« او »الهامشية«، إلا عندما تشكل تهديداً لوجود النظام مثلما حدث مع الحركات الإسلامية.
لذا يحاول جيرفازيو تجاوز الرؤية السابقة في سبيل إعادة تفسير شاملة ومتوازنة للتاريخ ليس المصري فقط، ولكن في أي بلد آخر وهي أن تتم كتابة التاريخ من الهامش أكثر من المركز، والدافع الأول لهذه القراءة أنه رغم محاولات النظم العسكرية القضاء على كل أشكال المعارضة عن طريق القمع أو الاستمالة إلا أن ذلك لم ينجح تماماً.
من هنا يحاول جينارو خلال دراسته عن الحركة الماركسية أن يضع »رؤية بديلة« لكتابة تاريخ فترة السبعينيات عبر تحرير التاريخ الماركسي من قدر التهميش المفروض عليه، وهي بالنسبة له محاولة أولى لإدخال »التاريخ الخاص« بالحركة الماركسية ضمن التطور التاريخي المصري، من هذه الأرضية الفكرية العامة سألنا جينارو عن أسباب اختياره لهذا التاريخ محوراً لأطروحته؟
- بالنسبة لي هذا سؤال مركّب من أسئلة صغرى. لماذا تاريخ اليسار؟ ولماذا اليسار المصري تحديداً؟ ولماذا هذه الفترة؟ بداية اهتمامي باليسار يتأتى من انتمائي بشكل أو بآخر لهذا التراث، وطوال الوقت كان لديّ فضول شخصي تجاه اليسار العربي بشكل عام وتفاصيله الداخلية، خاصة أنه، ومع التحاقي بكلية الدراسات الشرقية بنابولي أوائل التسعينيات، تعرّفت على عدد من الطلاب الفلسطينيين المنتمين للجبهة الشعبية، وعن طريقهم عرفت أسماء مهمة في الحركة اليسارية العربية والمصرية خاصة، فشهدي عطية الشافعي القيادي الذي قتل تحت وطأة التعذيب في السجون الناصرية على سبيل المثال كان بمثابة رمز لهم. ورأيت أعداداً من مجلة »اليسار العربي« التي كان يصدرها يوسف درويش ومحمود أمين العالم من باريس في الثمانينيات. ومجلة »الهدف« التي أنشأها غسان كنفاني.
ومن ناحية أخرى شهدت فترة التسعينيات بشكل عام اهتماماً كبيراً من الباحثين والدارسين عرباً وأوروبيين بالحركة الإسلامية، خصوصاً مع أحداث مثل الانقلاب الذي قامت به جبهة الإنقاذ في الجزائر، ونشاط الجماعات الإسلامية المسلحة هنا في مصر. وهذا ما جعلني أطرح سؤالاً آخر: هل الحركات الإسلامية هي الحركة المعارضة الوحيدة هنا؟ وتزامن ذلك مع بداية زياراتي لمصر وبداية معرفتي بعدد من المثقفين والناشطين وحديثهم عن انتمائهم ل»الحركة الطلابية« في السبعينيات، فلماذا اختفى اليسار؟ ولماذا لا يهتم أحد بدراسته؟ كنت أريد أن أصل إلى تحديد نقطة النكسة التي تعرض لها اليسار، هذا التيار الذي وصل نشاطه إلى حد الهيمنة في ساحة النضال السياسي بين حربي 1967 و1973، خصوصاً وأن أسماء بارزة في المجال الثقافي تنتمي إلى اليسار أو على الأقل تراثه، سواء أكانوا صحافيين أم روائيين وشعراء ومترجمين. كل هذا أثار فضولي حول هذا التاريخ ولماذا هو مسكوت عنه بهذه الطريقة.
ومن ناحية أخرى عندما بدأت أتعرّف على تاريخ اليسار المصري وجدت أن كل المطبوعات، سواء دراسات تاريخية قام بها باحثون مصريون أم عرب أم أجانب، تتوقف عند العام 1965 ، العام الذي قام فيه التنظيمان الماركسيان »الحزب الشيوعي المصري« و»الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)« - في حركة فريدة في تاريخ اليسار في العالم كله - بحل منظماتهما والدخول كأفراد في التنظيم الناصري »الاتحاد الاشتراكي« الممثل الرسمي والوحيد »للاشتراكية«،
فاخترت أن أبدأ الدراسة منذ 1967 حيث الحدث الأكثر تأثيراً على المستوى السياسي والاجتماعي في مصر والعالم العربي، أكثر من 1970 عام شتنبر الأسود ورحيل عبد الناصر، الذي كانت سياساته في الثلاث سنوات الأخيرة مختلفة عن الأعوام السابقة اختلافا كبيرا، وهي السياسات التي أكملها السادات فيما بعد، وهذا ما يختلف حوله الكثيرون. ربما لم يكن عبد الناصر ليقوم بمعاهدة سلام مع إسرائيل بالشكل الذي قام به السادات ولكن بداية »الحل الدبلوماسي« كانت مع ناصر عند قبوله قرار مجلس الأمن 242 ومبادرة روجرز.
وعلى المستوى الداخلي يحمل بيان 30 مارس 1968 بدايات الحديث عن انفتاح اقتصادي وأيضاً انفتاح سياسي على الولايات المتحدة.
حصار الأقدار
- الانقسام، التشرذم، ذيلية الحركة السياسية، استبدال القضايا بمعنى الاتكاء على القضية الأبعد وترك القضايا الأساسية... تبدو وكأنها أقدار تلاحق الحركة الماركسية المصرية، لماذا لم تنقطع هذه الأقدار خصوصاً مع حدوث فترات انقطاع زمنية بين الحركة الثانية في الأربعينيات والحركة الثالثة في السبعينيات، ولكن مع الأمراض نفسها.. لماذا تحدث هذه الملاحقة القدرية برأيك؟؟
- بداية لا بد أن نقر بأن قدر الانقسام كان يلاحق الحركات الماركسية في العالم كله، فإذا تناولنا حالة الحزب الشيوعي الإيطالي على سبيل المثال، كانت هناك انشقاقات طوال الوقت، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي أصبح هناك خمسة أو ستة كيانات تحمل اسم »الحزب الشيوعي»!
وأرى أن هذا »القدر« له ما يبرره في المنطقة العربية التي تعرضت في رأيي لقضية مختلفة وهي القضية الفلسطينية التي ألقت بثقلها على الجميع، خصوصاً حيث حملت اللجان القيادية لأكبر ثلاث منظمات شيوعية في الأربعينيات أسماء أجانب، أو دعنا نكون أكثر دقة: مناضلون بأسماء أجنبية مثل هنري كورييل، ومارسيل إسرائيل، وهليل شوارتز، أو من المنغرسين أكثر مثل يوسف درويش ورمون دويك وأحمد صادق سعد. علماً بأنهم كانوا جميعاً مناضلين منخرطين في الحركة بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع رؤاهم السياسية وليسوا أجانب تماما قادمين للتثقيف أو التعامل من منطقة خارجية.
وحققت هذه الحركة في الأربعينيات أعلى درجة انخراط عمالي أعلى من السبعينيات وأيضا مع وجود روح أممية عالية، فكان هناك اهتمام كبير بالحرب الأهلية في أسبانيا على سبيل المثال من قبل الحركة الماركسية المصرية في ذلك الوقت.
كان لا بد أن يصبح لحدث مثل حرب 1948 تأثير كبير على الحركة الماركسية المصرية خصوصاً إذا وضعناها في الظرف المصري العام وقتها الذي كان على وشك الانفجار، من أجل التحرر من الاحتلال الإنجليزي، ووضع القصر المتعاون مع الاحتلال، فكان من الطبيعي أن ترتفع النبرة الوطنية والقومية، وان تصبح لقضية فلسطين الأولوية على القضايا الاجتماعية الداخلية، خصوصا مع حالة الارتباك التي سادت التيار الماركسي الستاليني الذي وجد نفسه متورطاً بموقف الاتحاد السوفيتي المعترف بإسرائيل، والتي جاء رد الفعل عليها بحركة »تمصير القيادات« بحيث تظهر المنظمات أنها وطنية أكثر من كونها أممية. وهو ما أدى إلى خلق حالة من الانقسام بين المنظمات، ليظل ترتيب القضايا الوطنية الاجتماعية أحد أهم عوامل تفتت الحركة الماركسية.
وأذكر هنا مقتطفا للراحل محمد سيد أحمد قال فيه »لم تكن في مصر حركة ماركسية، ولكن كانت هناك حركة يسارية قومية«. فهو يرى أن القضية الفلسطينية أكلت القضايا الأخرى. ربما يبدو هذا مبالغا فيه ولكنه يحمل شيئا من الحقيقة. وهو الأمر الذي تحول بعد ذلك إلى ما يشبه »التراث« والتزمت به المنظمات الماركسية في عودتها في السبعينيات.
- بعد التصالح الذي تم بين الشيوعيين وعبد الناصر تم إنشاء مجلة »الطليعة« عام 1965 تحت مظلة جريدة »الأهرام«، وضمت عدداً كبيراً من رموز اليسار المصري برئاسة تحرير لطفي الخولي. الماركسيون الذين انضموا للطليعة تصوروا إمكانية توجيه النظام ناحية الاشتراكية، في حين ناصر لم يترك لهم مساحة أكبر من المساحة الدعائية للنظام، لتحاصر المجلة بعد رحيل »قائد الاشتراكية العربية« إلى أن أغلقها السادات بعد انتفاضة 1977... ما هو تقييمك لهذه التجربة التي أطلقت عليها اسم »اليسار الرسمي«؟؟
- أزمة اليسار الرسمي ممثلاً في لطفي الخولي رئيس تحرير مجلة الطليعة أو خالد محيي الدين عضو الضباط الأحرار ورئيس حزب التجمّع فيما بعد هي الإيمان بفكرة الإصلاح من الداخل، لأنهم كانوا يرون أن هناك مجموعة تقدمية في النظام وتجب مساندتها، وقلص عبد الناصر هذا التصور إلى الحد الأدنى المتمثل في إمكانية لعبهم دوراً دعائياً لمصالح النظام، وهو ما قامت به الطليعة بالفعل، إذ ألبست الخطاب الناصري رداء متمركساً. المشكلة تظهر بشكل أكبر بعد 1967 إذ ظلوا في الموقف نفسه تقريبا، مع تغيير مواقف النظام الذي عصف بهم بعد مظاهرات يناير 77.
بالتأكيد هناك أشخاص غيروا مواقفهم ومواقعهم مثل ميشيل كامل الذي فضل ترك موقعه في سكرتارية تحرير »الطليعة« وهاجر إلى لبنان ولعب دوراً كبيراً في إنشاء الحزب الشيوعي المصري الجديد فيما بعد، لكن بشكل عام ظلت الفكرة الأساسية موجودة.
لذا كان قرار إنشاء حزب مثل »التجمع« منطقياً بالنسبة لهذه المجموعة اليسارية التي ترى إمكانية العمل مع النظام من أجل إصلاحه. لكنهم في النهاية قدموا خدمة للدولة التي تريد أن تظهر وكأن لديها معارضة.
بالتأكيد لا يمكن إنكار إن إصدرات حزب التجمع مثل جريدة »الأهالي« ومجلة »اليسار« ومجلة »أدب ونقد« كانت في أوقات كثيرة وخصوصا في التسعينيات قبل ظهور الصحف المستقلة صوت المعارضة العلماني الوحيد للنظام وكان هذا وقت نشاط الجماعات الإسلامية. لكن الممارسة السياسية كانت تتمّ في الحدود التي رسمتها السلطة. وأصبح النشاط السياسي فقط في مقر الحزب، وليس ذلك بسبب أن حزب التجمّع هو حزب تخلّى عن ثوريته لمصلحة الإصلاحية، ولكن لأن الحزب بالأساس قبل قواعد اللعب مع النظام.
الفرصة الضائعة
- انتفاضة الجوع في 18 و19 يناير 1977 آخر مرة تحرك فيها الشعب المصري بشكل تلقائي من الإسكندرية حتى أسوان بحسب الكثير من المراقبين.. لماذا لم تدفع اليسار برأيك لتغيير وجهة نظره تجاه ترتيب القضايا الوطنية والاجتماعية؟
- كثير من النشطاء اليساريين في هذه الفترة الذين قابلتهم قالوا لي إن 77 كان فرصة مفقودة لليسار المصري، ولكن بالنسبة لي الفرصة ليست ما فقد بعد 77 ولكن ما لم يحدث قبل هذا الحدث. فمنذ يناير 1975 وهناك حالة إضراب تشمل المصانع المصرية من حلوان إلى الإسكندرية. وترفع مطالب اجتماعية واضحة. ولكن وجود اليسار كان محدوداً خصوصاً المنظمات الأكثر راديكالية والتي كان معظمها من مثقفي المدن، فهذه هي الفرصة التي أضاعها اليسار الذي كان مهيمناً تقريباً على الجامعات بشعارات قومية. وهذا الاتجاه كان له أسبابه أيضاً فالجامعة تقريباً كانت هي المنطقة الوحيدة المحررة نسبياً من سيطرة النظام، ويمكن ممارسة النشاط السياسي بدرجة ما خصوصاً في بداية عهد السادات.
ولكن تركت أماكن الصراع الطبقي الحقيقي في الفترة ما بعد 1975 فضاعت 77 ، وتندهش إذا قرأت أحداث هذه الفترة، إذ يمكن أن تتوقع حالة غضب اجتماعي ناشئ عن انسحاب الدولة من ميدان أداء الخدمات الأساسية والبدء في سياسة الانفتاح التي ظهرت آثارها على القطط السمان فقط وانسحاب الاتحاد السوفيتي وعدم قدوم الأميركيين بالرخاء كما وعد السادات، كل هذا كان يؤهل اليسار للعب دور قوي ولكن نظراً لتركيز اليسار على القضية القومية الذي تم على حساب التركيز على ما يحدث داخل البلاد من تحولات اجتماعية، كان لهذا أثر كبير في انحسار دور الشيوعيين. فبقدر التركيز على العلاقة الوليدة مع إسرائيل والولايات المتحدة كان يجب رؤية ما يحدث داخل المصانع.
فشعارات اليسار، إلا استثناءات قليلة، كانت حتى حرب أكتوبر 1973 ، كانت شعارات قومية أكثر بكثير من كونها شعارات اجتماعية اقتصادية. بالتأكيد يمكن فهم الظرف التاريخي الذي كانت فيه سيناء محتلة والنكسة تضرب بآثارها على جميع المستويات.
ولكن بسبب هذا التركيز الكبير على موضوع الحرب، فعندما حدثت حرب 1973 فوجئ الماركسيون بضياع البوصلة، فالمطلب كان الحرب وقد حدثت. فلم تكن هناك رؤية لما بعد أو لما هو أساسي.
- لكن في ظل هذا الظرف التاريخي، هل كان أمام اليسار فرصة أخرى للحركة وتسبب اليسار في ضياعها؟؟
- لا أظن فنجاح اليسار في الهيمنة على النشاط الطلابي في فترة ما بين الحربين كان مرده بالأساس إلى الشعارات القومية والوطنية التي تمّ طرحها، ولكن هذا لم يصنع فارقاً بين الحركة الماركسية وبين الناصريين أو القوميين، فالماركسيون تركوا أرضيتهم الأساسية وهي الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
ما أريد أن أقوله إنه، حتى قيام الحرب، كان معظم الإنتاج الفكري لليسار منصباً على ضرورة الحرب، فلما قام السادات بالحرب وجد اليسار نفسه شبه ضائع لا يعرف ما الذي يجب أن يفعله. في حين أن السادات كان لديه برنامج منظم لما يريد أن يفعله وإن كان هذا غير واضح في الفترة الأولى، فالسادات أدخل اثنين من الماركسيين داخل الأمانة العليا للاتحاد الاشتراكي، وقام بتعيين إسماعيل صبري عبد الله وزيراً للتخطيط ليصبح أول وزير ماركسي في التاريخ المصري. ولكن ذلك كان بالنسبة للسادات من قبيل »عدو عدوي صديقي« كي يتمكن من مواجهة أعدائه على قمة النظام في ذلك الوقت. وفي الوقت نفسه ظل قطاع من اليسار مؤمناً بالفكرة التي عملت عليها مجموعة »الطليعة« خلال الستينيات وهي أن هناك مجموعة اشتراكية على رأس الدولة تجب مؤازرتها والدفاع عنها. لكن الوضع كان قد تغير تماماً. لذلك كان 1975 بالنسبة لي هو عام »العبور« الحقيقي للسادات حيث أزاح كل منافسيه على السلطة وبدأ سياسة الانفتاح الاقتصادي، ووقع اتفاقية »سيناء 2« التي كانت بداية الطريق نحو الصلح المنفرد مع إسرائيل، وبدأ في فتح الأبواب للولايات المتحدة، وقام بعدها بعام بإلغاء معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفييتي والتي كان قد وقعها هو وليس عبد الناصر قبل خمسة أعوام.
ميكانيزم الاستبدال
- استطاع الإسلاميون استعمال القضية القومية لتوسيع قاعدتهم الجماهيرية، لماذا لم يستطع اليسار إحداث مثل هذا التحويل؟؟
- لا بد أن أعترف أني حصلت على عدد محدود من الإنتاج الفكري للمنظمات الماركسية الراديكالية نظراً لسريتها وللضربات الأمنية المتلاحقة التي دمرت غالبية هذا التراث ولكن يمكنك أن تلاحظ، بالمقارنة مع حركة الإضرابات العمالية، أنه مع تصاعد حركة الإضراب العمالي تتصاعد بنحو مختلف نبرة الخيانة الوطنية الموجهة للسادات في الإنتاج الفكري الماركسي.
وهنا يظهر سؤال كبير كان لا بد لليسار أن يحله: هل تريد أن تحرك هذه الجموع الجائعة اجتماعياً واقتصادياً على شعارات قومية؟؟ قراءة الواقع تؤكد أنه لا يمكن.
بالتأكيد لست ضد النضال من أجل القضايا الوطنية أو القومية فهذا جزء أساسي من تراث النظرية الماركسية، ولكن ما أود التأكيد عليه هو أن الجماهير في ذلك الوقت كانت تتحرك تلقائياً من أجل مطالب اجتماعية، بينما وقف اليسار على حدود القضايا الوطنية دون أن يتجاوزها ليندمج مع تلك التحركات الجماهيرية ويقودها كما هو مفترض . الإسلاميون هنا مع المساحة التي أتاحها لهم النظام كانوا أكثر حيوية في الاستجابة لإيقاع الشارع فاستطاعوا العمل على الجانب الاجتماعي الذي ساعدهم على الانغراس أكثر في الشارع وأيضا على اللعب على الوتر القومي المختلط بخطاب ديني ضد إسرائيل كيهود وأميركا كصلبيين جدد.
- إذا كان ما فعله اليسار في 1965 نوعا من الانتحار، فهل ترى أنه قد كرر الفعل نفسه بطريقة أخرى في السبعينيات؟
- بشكل ما نعم. بالتأكيد لا يمكن إنكار الدور الذي لعبه قمع النظام للحركة الماركسية فالسادات كان لديه وسواس اسمه »الشيوعية« وفي أواخر أيامه كان يرى الشيوعيين في كل مكان. ومن ناحية أخرى لعبت المنافسة من قبل الإسلاميين دوراً في انتهاء اليسار كحركة سياسية مؤثرة في الشارع السياسي المصري، ولكن بالنسبة لي لم يكن هذا كافياً، كانت هناك أسباب أخرى داخلية، أدت إلى تراجع وانهيار هذه الحركة في ذلك التوقيت.
- ولكن إذا نظرنا إلى الحالة الآنية، هل لا زال اليسار يستبدل القضايا الاجتماعية والاقتصادية بقضايا أخرى ربما ليست هي الوطنية في المرتبة الأولى، ولكن قضايا الديمقراطية والتوريث، مما يجعله بعيداً أيضاً عن »الجماهير».
- أرى أن التحركات الجديدة التي حدثت بعد سنة 2000 بدأت أيضاً من قضايا قومية مثل الانتفاضة الفلسطينية الثانية ثم احتلال العراق، وهو الحدث الذي كشف عن جيل جديد وطاقات جديدة. لذلك يبقى الإنجاز الأكثر أهمية لحركة »كفاية« هو الانتقال للقضايا الداخلية وهذا في حد ذاته أمر إيجابي.
ولكن يبقى السؤال الأساسي: ما الذي يفترض أن يميز أي حركة نضالية يسارية عن حركة ليبرالية هو بالأساس القضايا الاجتماعية، فالليبرالي يمكن ان يناضل من أجل الديمقراطية، ولكن بأي مفهوم للديمقراطية، وأي مفهوم نريده نحن وندافع عنه. فالحزب الحاكم في مصر اسمه بوضوح الحزب الوطني الديمقراطي. والولايات المتحدة تشجّع بالقوة عملية »الدمقرطة« ولكن أي ديمقراطية.
بالتأكيد، اليسار يدافع عن الديمقراطية، ولكن بمفهوم مختلف عن هذه »الديمقراطيات«، بالتأكيد يهتمّ اليسار بحقوق الإنسان، ولكن ليس الإنسان بشكل عام ومطلق، يهتم اليسار بحقوق العمال والفلاحين بالطبقات الكادحة بشكل عام.
ربما تصلح هذه النضالات الديمقراطية كنقطة بداية يتم على أساسها التحرك لمناطق أبعد من مجرد انتخابات شفافة.
وهذا ما يؤكد غياب برنامج تكتيكي يقرأ المرحلة الآن ويحدد الأولويات، ما يحدث طوال الوقت هو تحديد شعار وحيد والمضي وراءه وإهمال القضايا الأخرى، في فترة يصبح الشعار القضية الوطنية وفي فترة تالية يصبح الشعار الديمقراطية، وفي الحالتين يغيب الصراع الطبقي عن ساحة البرامج مع أن المفترض أن لا يتم إهمال هذا الجانب، لأنه ببساطة هو المحدد لكيف يمكن أن تتحرك الأمور على الأصعدة الأخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.