وراء الجبال، خلف المداشر المنسية، في المغرب الذي يسمى «نافعا» ، كما بالجزء الذي يوصف بكونه «غير نافع»، لافتقاده لعدد من المقومات التنموية، في قلب كبريات المدن ومنها الدارالبيضاء، هناك قصة ما، في هذا الحي أو ذاك، بكوخ قصديري أو بين جدران بيت إسمنتي، هي عنوان لمأساة، تفاصيلها تدمي القلوب وترتعش لوقعها وتداعياتها الأبدان، قصص لأناس كانوا يعيشون بشكل عادٍ، وإن لم يكونوا ميسورين ولم يكن الولوج إلى العديد من الأشياء في متناولهم، لكنهم ظلوا متسلحين بالابتسامة في مواجهة الصعاب، يكابدون مشاق الحياة وأعباءها المادية، يواجهون ضيق اليد بالأمل في مستقبل أفضل، يمنّون النفس بتحقيق مبتغاهم وأجرأة طموحاتهم يوما، لكن وعوض أن تفتح لهم الحياة بابا للانفراج تدير لهم ظهرها وتزيد من حجم معاناتهم، ليدخلوا إلى دوامة/متاهة أخرى لايعرفون سبيلا للخروج منها، فلايجدون من حلّ أمامهم سوى انتظار الرحمة من خالق الكون، وتدخل محسنين لمساعدتهم، والتخفيف عنهم وعن ذويهم الذين يكونون بدورهم أسرى نفس الدوامة وتبعاتها. قصة «لمياء مرينة» هي إحدى القصص السوداء ذات التفاصيل القاتمة، فهذه الشابة التي تبلغ من العمر اليوم 30 سنة، وهي أصغر إخوتها، المنحدرة من نواحي مراكش وتحديدا طريق آيت اورير الشواطة، لم يكتب لها أن تعيش حالة زواج مستقرة وطبيعية كما كانت تحلم، وتتمنى كل فتاة عقدت قرانها وذهبت إلى بيت الزوجية، فالعسل الذي تخيّلته ومنّت النفس بحلاوته ولذته تحول إلى علقم مرّ وإلى سمّ قاتل، نتيجة لمجموعة من الممارسات التي دفعتها لطلب الشقاق، وهو ما تحقّق فاحتضنت ابنها بين ذراعيها الذي يبلغ من العمر 12 سنة، وخرجت تبحث عن لقمة عيش شريفة تساعدها على تربية طفلها والمساهمة في إعالة والديها اللذين اشتعل رأسهما شيبا. بحث وسعي تكلّل بعثورها على عمل كخادمة في مجال التنظيف بإحدى المؤسسات، ظلت تتردد عليها في مواقيت العمل وتقوم بواجبها وهي تحاول أن تطوي صفحة الماضي الأليم وتفكر في مستقبل فلذة كبدها، الذي جعلته محور حياتها، محاولة منحه حب الأم وتعويضه عن عطف الأب، معاهدة نفسها على أن تبذل كل ما بجهدها وما في وسعها لكي يكمل تعليمه ويشب وينمو إلى أن يصير رجلا متعلّما قادرا على أن يخطو خطوات ناجحة في حياة تكون مختلفة عن حياة الفقر والحاجة والحرمان، لكن ومرة أخرى تكون للأقدار مشيئة أخرى، وأن تعرف حياتها منعطفا آخر أكثر مأساوية، وهي تغادر ذات يوم مقر العمل المتواجد بمنطقة سيدي يوسف، حوالي الساعة السابعة مساء، وفي غفلة منها صدمتها سيارة مسرعة لاذ سائقها بالفرار، بعد أن رمى بها أرضا وهي فاقدة للوعي، ولم تستفق إلا بعد أيام لتجد نفسها في المستشفى وأمام متاهات أخرى لم يدر بخلدها يوما بأنها ستعاني من ويلاتها. عظام مكسورة ونفسية متدهورة استفاقت «لمياء» بعد أربعة أيام عن الحادثة لتجد نفسها مستلقية على ظهرها بمستشفى ابن طفيل بمراكش، وظلت على تلك الحالة تتألم وتئن لمدة 25 يوما قبل أن تخضع لأول تدخل جراحي، بعدما علمت بأنها أصيبت بجملة من الكسور التي توزعت على قدميها معا من أعلاهما إلى أسفلهما، ثم تبين فيما بعد وبناء على آلامها المتكررة وعدم إحساسها ببطنها وقدرتها على تحريك ذراعها، وليس بالاعتماد على فحص طبي وتشخيص، على أن ظهرها هو الآخر أصيب بكسور، تقول لمياء ل «الاتحاد الاشتراكي» حين زيارتنا لها، مضيفة بأنها عانت الأمرّين بهذه المؤسسة الصحية لكونها تُركت تعيش مصيرها بعيدا عن أي شكل من أشكال التواصل والتوعية بحالتها أو طمأنتها ولو نفسانيا، في الوقت الذي لازمتها والدتها لرعايتها والاهتمام بها خوفا من أن تقع أرضا جراء سقوطها من على السرير، ولتغيير حفاظاتها وتنظيفها وتغيير ملابسها، لكون «لمياء» كانت عاجزة بشكل كلي عن الحركة، ولاتستطيع قضاء حاجياتها بشكل مستقل. عن هذه الفترة تقول «لمياء» بأن والدتها كانت تفترش الأرض وتبيت إلى جانبها لمدد تفاوتت بين سبعة وثمانية أشهر، مما أدى إلى إصابتها بالروماتيزم، ومع ذلك ظلت الأم متسلحة بالصبر والجلد وهي تسند فلذة ابنتها الوحيدة، لاتبدي ضجرا أو تعبر عن كلل أو ملل، ممنّية النفس باليوم الذي ستقوم فيه وتتحرك في الغرفة أولا تذرعها ذهابا وجيئة ثم تغادرها فيما بعد على قدميها، لكنه أمل طال انتظاره ،فقد ظلت «لمياء» تتعايش ووضعها الصحي المعتل على مدى 5 سنوات. 12 عملية ل»ترقيع» جسم تحلّل خمس سنوات من عمر «لمياء» مرّت كلها بعنوان واحد، وهو الألم، عانت ولاتزال عضويا ونفسيا، وإلى جانبها يتألم الوالدان، ومعهما حفيدهما، الإبن الذي صار انطوائيا منعزلا وعدوانيا، الطفل الذي افتقد لرعاية الأب واهتمامه، ويعاين يوميا عجز والدته طريحة الفراش، هي في أمسّ الحاجة للرعاية فكيف لها أن تمنحه إياها، وفاقد الشيء لايعطيه، فلايجد من مهرب إلا في الدموع يذرفها من مقلتيه على وجنتيه علّها تنزل بردا وسلاما عليه وتطفئ من جذوة الحرمان العاطفي الذي يعيشه، في الوقت الذي يعاين أقرانه في المدرسة وحيث يقطن وهم يلهون ويمرحون مصحوبين من طرف آبائهم تارة ومن قبل أماتهم حينا آخر . خلال كل هذه السنوات خضعت «لمياء» ل 12 تدخلا جراحيا من أجل أخذ أجزاء من فخذيها وزرعها في أماكن أصبحت مثل الحفر، في ظهرها، وعلى جانبي جسمها، وبمؤخرتها وقدميها اللذين تآكلا، حتى باتت العظام ترى بالعين المجردة، فالجسم العليل الذي لايقوى على الحراك كان يتآكل يوما عن يوم، ومع ذلك ورغم المرارة والألم، ظلت «لمياء» تقبل بنقلها إلى المستشفى إلى أن رفضها القائمون عليه في شهر مارس الفارط، إذ تم إخبارها من طرف المشرفين على حالتها بأنها ستكون أمام آخر تدخل مماثل ولن يمكنهم استقبالها مرة أخرى، نظرا لأنه لم يبق هناك من مكان في جسمها يمكن أخذ اللحم منه، فتدخلت الأم الحنونة والمكلومة لوضع ابنتها مستعطفة في أن يأخذوا من لحمها ويمنحوه لفلذة كبدها الوحيدة، لكن طلبها قوبل بالرفض فغادرت مستشفى ابن طفيل بعد آخر تدخل في شهر ماي، نحو المجهول! نداء استغاثة من الدارالبيضاء على بعد خطوات من المقر السابق لقسم العمل الاجتماعي لعمالة مقاطعات الدارالبيضاء آنفا، حيث كانت الوثائق وملفات التنمية البشرية تتناثر هنا وهناك تحت مبرر محاربة الهشاشة والإقصاء الاجتماعي، وعلى بعد أمتار من المستشفى الجهوي مولاي يوسف، وخلف البناية التي يوجد بها مكتب عامل عمالة آنفا، استقرت منذ شهر «لمياء» بمعية طفلها ووالديها، وتحديدا بأسفل منزل يحمل الرقم 272 يتواجد بزنقة زعير قبالة المكتبة الوسائطية، وإلى جانب المعلمة التاريخية مسجد الحسن الثاني الذي يتوافد عليه المصلون من كل مكان. منزل اكترى غرفته السفلى التي لاترى جدرانها أشعة الشمس، أحد المحسنين الذي رقّ لحال «لمياء»، وهو الذي توجّه ذات يوم لتقديم مساعدة بمناسبة الدخول المدرسي لابنها، فوجد بأن حالتها هي من سيء إلى أسوأ لم تعرف تحسنا، فاقترح عليها أن يؤجر لها «مسكنا» لمدة شهر سدّد إيجاره، علّها في هذه المدة تستطيع التعريف بحالتها ووضعيتها وتجد من يساعدها في مدينة، وإن هي كانت مدينة التناقضات، إلا أن الخبرة الطبية فيها متقدمة ومتوفرة بالنظر إلى الكفاءات المتواجدة، والرحمة والمساعدة لاتزال حاضرة باعتبارها شيمة من شيم سكانها! عجز مقابل الأمل في الوقت الذي سيكون عدد كبير من المغاربة منتشين بفرحة عيد الأضحى يوم الخميس، وهو العيد الذي لاتعرف «لمياء» وأسرتها له طعما، قد تكون مدعوة لمغادرة البيت المكترى مادامت لاتتوفر على مال لتسديد واجب الكراء، مغادرة قسرية ليست طوعية، مكرهة مضطرة، مادام نداؤها لم يجد بعد صدى ولم يلق من يلبيه، لتُحمل مرة أخرى بعلاّتها وأسقام جسدها، هذا الجسم الذي لايقوى على التحرك والذي تظل صاحبته غير قادرة على الإحساس بما فيه انطلاقا من القفص الصدري فما تحت، الذي هو في حاجة إلى تدخلين جراحيين اثنين مستعجلين، الأول على مستوى الظهر لمعالجة الاعوجاج الذي طال عمودها الفقري، نتيجة إزالة الحديد الذي تم تركيبه في ظهرها بمستشفى ابن طفيل في ظرف لم يتجاوز 5 أيام لتسببه في ارتفاع درجات حرارتها، فتم الاستغناء عنه دون القيام بأي خطوة تساعد على شفاء الظهر دونما اعوجاج أو خلل، ولعدم توفرها على مصاريف للخضوع لحصص الترويض، تؤكد «لمياء» وهي تذرف الدموع، والتدخل الثاني يهمّ زرع آلة تساعدها بعد معالجة مواضع التحلل والقضاء على البكتيريات فيه على تعويض اللحم، وهما الخطوتان اللتان تتطلبان مبالغ مالية جدّ مهمة هي ليست في متناول «لمياء» وأسرتها المعوزة، إذ تبلغ كلفة التدخل الثاني لوحده الذي يخص الآلة المذكورة 150 ألف درهم، دون الحديث عن المصاريف الجانبية والمتابعة، ودون استحضار مصاريف التدخل الجراحي الأول، لتبق بذلك ورغم العجز والألم متسلحة بالأمل في أن تجد صرختها آذانا صاغية وقلوبا رحيمة تتدخل لإعادة البسمة إلى محياها والفرحة إلى قلبها وذويها، علّها تستطيع الوقوف والمشي مرة أخرى، وأن تصاحب ابنها للمدرسة وتقف إلى جانبه شكلا ومضمونا.