بايتاس يتحدث عن زيادة عامة في الأجور "مطروحة للنقاش مع النقابات" في الحوار الاجتماعي    عدد زبناء مجموعة (اتصالات المغرب) تجاوز 77 مليون زبون عند متم مارس 2024    بورصة الدار البيضاء تستهل التداولات بأداء إيجابي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    أبيدجان.. أخرباش تشيد بوجاهة واشتمالية قرار الأمم المتحدة بشأن الذكاء الاصطناعي    أرباح اتصالات المغرب ترتفع إلى 1.52 مليار درهم (+0.5%) بنهاية الربع الأول 2024    من بينها رحلات للمغرب.. إلغاء آلاف الرحلات في فرنسا بسبب إضراب للمراقبين الجويين    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    رسميا.. الجزائر تنسحب من منافسات بطولة اليد العربية    لابورتا: تشافي باقي مدرب للبارصا وما غاديش بحالو    الحكومة الإسبانية تعلن وضع اتحاد كرة القدم تحت الوصاية    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    توقعات أحوال الطقس غدا الجمعة        استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    مدريد جاهزة لفتح المعابر الجمركية بانتظار موافقة المغرب    الرباط.. ندوة علمية تناقش النهوض بحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة (صور)    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    تتويج المغربي إلياس حجري بلقب القارىء العالمي لتلاوة القرآن الكريم    المالية العمومية: النشرة الشهرية للخزينة العامة للمملكة في خمس نقاط رئيسية    مكناس .. تتويج 12 زيت زيتون من أربع جهات برسم النسخة 14 للمباراة الوطنية    بحر طنجة يلفظ جثة شاب غرق خلال محاولته التسلل إلى عبارة مسافرين نحو أوروبا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    سيمو السدراتي يعلن الاعتزال    المعرض المحلي للكتاب يجذب جمهور العرائش    تظاهرات تدعم غزة تغزو جامعات أمريكية    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    تحويل الرأسمالية بالاقتصاد اليساري الجديد    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    بوغطاط المغربي | محمد حاجب يهدد بالعودة إلى درب الإرهاب ويتوّعد بتفجير رأس كل من "يهاجمه".. وما السر وراء تحالفه مع "البوليساريو"؟؟    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المخرج هشام العسري ل «الاتحاد السينمائي» شخصيات فيلم «البحر من ورائكم» غريقة ولا قدرةلها على الكلام

منذ فيلمه الأول، «النهاية»، الذي تم عرضه في مهرجان الفيلم الوطني في طنجة 2011، بل منذ أفلامه القصيرة، لفت السيناريست والمخرج والروائي، هشام العسري، الانتباه إليه كواحد من المخرجين الذين يشتغلون على لغة سينمائية غير مستهلكة، وأحيانا مزعجة. لكنها لغة مفكر فيها، يمزج فيها بين العديد من المكونات: كاميرا ذاتية مشوشة، حركة تصعيدية، لقطات خاطفة، تكرار، إبطاء لإيقاع الصورة، كادرات عوجاء، لقطات مشهدية تخترقها موسيقى تصويرية طريفة (الهيب هوب على سبيل المثال)، أصوات حادة وشخوص منكسرة كأنها تتحرك في مسرح مفتوح.
هشام العسري مخرج أثبت أنه لا يضيع الوقت. يعمل بسرعة، وقد أخرج إلى حدود الآن ستة أفلام هي على التوالي: «النهاية»، «هُم الكلاب»، «جوع كلبك»، «البحر من ورائكم»، «الجاهلية»، و «الأقزام». لقد أدرك أن الأفلام لا تصنع بالإنتاج الضخم، وأنه بالإمكان صنع أفلام جيدة بإمكانات محدودة وزمن قياسي.
في ما يلي هذا الحوار الذي أجراه معه «الاتحاد السينمائي» على هامش عرض فيلمه «البحر من ورائكم» بالمعهد الثقافي الفرنسي بالدار البيضاء:
n تندرج أعمالك ضمن ما يسمى ب»السينما البديلة»، أي تلك السينما التي تراهن على أدوات تعبيرية خاصة، من قبيل فن الفيديو بأسانيده الثلاثة (المنجزة، التنصيبة، العرض) والميتا سينما؛ وما يعزز هذا الطرح أن أفلامك تعرض، ليس فقط في قاعات العرض، بل في المعاهد الثقافية الدولية، وأيضا في المتاحف، مثل متحف الفن المعاصر (لاموما) بنيويورك.. هل معنى ذلك أنك تراهن على نوع خاص من المتلقين؟
p أظن أنه لا ينبغي علينا أن نستمر في التعامل مع السينما من زاوية واحدة ظلت طاغية، أي باعتبارها صيغة حكائية؛ فنحن نظلمها كثيرا عندما نختزلها في القصة والسيناريو. فأنا سيناريست، وأعرف ما معنى ديكتاتورية السيناريو الذي هو، في نهاية الأمر، مجرد وسيلة لبداية المشروع السينمائي؛ السيناريو ذريعة أو مخطط، وليس هو السينما؛ هو أدب. في حين أن السينما هي تقريبا مضادة للأدب، أي كيف نجعل المشاهدين يشعرون بأشياء دون أن نقولها لهم. وهذا ما تفطن إليه هيتشكوك الذي قال: إن «الكلام في الفيلم شيء زائد». الكلام مجرد ضجيج. وهنا يطرح السؤال: هل هو تعبير عدم كفاءة؟ هل هو عجز في الوصول إلى السينما. ولهذا أنا أعتبر بأن السينما الحقيقية هي السينما غير الناطقة، أي تلك القدرة على خلق البرد والحر والفرح والسعادة، وتحويلها إلى أشياء فيزيائة نشعر بها. هكذا أفهم السينما التي ليست هي الفهم، أي أن أميز بين الطيب والشرير..
n هل معنى ذلك أن تراهن على جعل الصورة شيئا محسوسا..؟
p لا. بالنسبة لي، الأكثر أهمية هو الصوت، وهذا ما أشتغل عيها في أفلامي. فنحن نسمع أكثر مما نشاهد، ونشعر بالعالم بالسمع أكثر، وهذا ما يجعل منه وعاء للأصوات التي تخترقنا وتؤثر فينا. ومن ثمة، يمكننا نقول إننا نعيش العالم كحقل وكخارج حقل..
n نريد أن نعرف، إنطلاقا من هذا الفهم، هل تسعى إلى تقديم السينما/ الإنجاز كنوع تعبيري؟
p سآتي على ذكر ذلك. لكن علينا في البداية أن نوضح طريقة التعامل مع السينما بعد قرن من ظهورها، وكيف نضخ فيها نفسا جديدا. فالمهم أن نحاول بناء نماذج، وأن يكون كل فيلم حاملا لحمضه النووي أو بصمته التي ينبغي أن تموت معه. ولهذا، فالذي يشغلني هو البعد البحثي، على المستوى السينمائي والحكائي، وخاصة توظيف الأدب والسينما والمسرح والتشكيل والموسيقى، في كل ما يتعلق بالإحساس وليس الفهم. هذا ما اشتغلت عليه طويلا، وووجت بالرفض وعدم التقبل في البداية؛ فقالوا عني إن أمارس التشكيل، لأنه كان من السهل عليهم وضع ما أقوم به في قالب معين. غير أنني كنت أجد أنه من المهم أن نمزج بين الإنجاز والتشكيل والمسرح. فأنا أشتغل كثيرا على المسرح في كتابتي السينمائية، وحتى في طريقة التصوير. وبالتالي فنحن نكون في المسرح دون أن نكون فيه. فمثلا، تجد في أفلامي على مستوى الإخراج: الإطارات الثابتة، اللقطات المشهدية، الاستمرارية الفضائية والزمنية. وهذا ما يجعلني، ربما، أتفاعل مع الجمهور بشكل أكبر. خاصة أن السينما لا تتيح إمكانية التفاعل المباشر مع الممثلين. وبالنسبة إلي، فليس هناك أي فرق بين الكتابة بالكاميرا والكتابة بالقلم. وبالتالي يصبح السؤال هو: هل يمكن التحكم، بشكل كامل، في القلم لكتابة الشعر؟ وهل يمكن أيضا التحكم في الكاميرا لنكتب الشعر أيضا؟
هذا هو انشغالي الحقيقي. وبعد ذلك، كل الوسائل ممكنة. وأعتقد أن أهم شيء في عملي هو الفضاء، أي هل أظهره أم أحجبه. أما الممثلون، فأنا أتعامل معهم كجزء من هذا الفضاء. فأنا لا أقوم بتصوير الممثل لأن لديه حوارا ينبغي أن يؤديه. لا أصور الحوار على وجه الإطلاق، وأحيانا يمكنك أن تلاحظ أنني أقوم بقطع اللقطة وسط الحوار.
n عنوان الفيلم الذي نحن بصدد الحوار معك بشأنه هو: «البحر من ورائكم»، هل هو استدعاء ساخر (باروديا) لشخصية طارق بن زيد، القائد الحربي الأمازيغي، خاصة أن ما يطغى على الفيلم هو التكسار (شخصيات مهزومة وبهويات مهزوزة وغير واضحة، وغير قادرة على الحركة خارج الذات..
p لا أعتقد أن في الأمر سخرية بقدر ما هناك نوع من التهكم. فمثلا، في بداية الفيلم، وعندما يظهر العنوان (البحر من ورائكم)، نشاهد ظهر شخص (مالك أخميس) يولي وجهه إلى البحر، فنصبح نحن المشاهدين هم البحر.. هم الخلاء الذي لا يجد فيه ذاته. هذا هو السبب الذي جعلني أستدعي شخصية طارق بن زياد، الحقيقية والمتخيلة في الوقت نفسه (التي منحناها قيمة جعلت منها شخصية أسطورية)؛ فنحن لا نتحدث عن محارب ربح معركة وخسر معركة، بل كنا نحتاج إلى قدوة وشخصية لها أهمية كبرى في تاريخنا. شخصية تحيط بها هالة، وتتوجه إلى العرب والأمازيغ، وأيضا إلى الخارج، لأنها قامت بشيء غير متوقع أثناء غزو الأندلس. فلو كنت، مثلا، خارج المغرب لكنت سأستدعي شخصية «سوبرمان» أو «كاليغولا».. إلخ. إن الذي كان يهمني هو أن أستدعي شخصية من هذه الطينة، لكن أن تكون حاملة للأطروحة ونقيضها. فشخصية طارق التي لعب دورها مالك أخميس هي البطل السلبي (أو المضاد للبطل/طارق بن زياد). وقد حاولت أن أخلق مواجهة بينهما في أحد المشاهد، وهو اللقاء الذي تم في الصندوق الخلفي لسيارة. وهو مشهد مليء بالتهكم، فرمز المجد التاريخي يلتقي مع رمز الحقارة في وقتنا الحاضر كقطبين متعاكسين. وأظن أن اللقطة التي أعجبتي كثيرا وأدركت أثناء كتابتها أنها لن تكون سهلة على مستوى الكتابة والتصوير والتقبل، هي اللقطة التي كان طارق التاريخي يمنح لمالك أخميس أدوات، من قبيل الكلامونيت، علبة بنزين، كماشة، مفك البراغي.. إلخ.
كان يقدم إليه، إذن، في جو من الفكاهة أنواعا غير عادية من السلاح. وهذا معناه أنه ليس محتاجا إلى السلاح كي يحارب، وهذا هو المغزى، لأن الأساسي هو التوفر على مبدأ في الحياة والسير عليه، وان تخاطر بنفسك.. لأن طارق بن زياد حول خوفه إلى إقدام، وهو ما سمح له بتجاوز وضعيته من محارب إلى شخصية تاريخية مهمة. وهذا جيد، إذ عندما نتحدث عن شخصياتنا التاريخية نادرا ما نعثر على أشياء جميلة لديها. فمثلا في فيلمي الأخير «الأقزام» نتحدث عن مرحلة 1986 وكأس العالم. وهكذا، عندما نلتفت إلى التاريخ، قليلا ما نعثر فيه على لحظات مشرقة، وغالبا غير مرتبطة بالسياسة. صحيح، يمكن أن نتحدث عن المسيرة الخضراء وحرب التحرير ولحظة الاستقلال.. إلخ، لكن حينما نتحدث عن سعيد عويطة، التيمومي ونوال المتوكل.. فهذا تاريخ يقع خارج نطاق السياسة.. فهؤلاء أناس عاديون أنجزوا أعمالا ادخلت الفرحة على قلوب المغاربة جميعهم، في لحظة كانوا محتاجين إلى الفرح. وهذه اللحظة هي المهمة بالنسبة إلي.. أي كيف يمكن توظيفها في قصة، وكيف يمكن عبرها أن نفتح نافذة كبيرة للأمل. أما بالنسبة لاستدعائي لطارق بن زياد، فكان هدفي هو إبراز المتناقضات..
n لكن دعني أشير إلى ملاحظة أنك لم تخف ارتيابك في خطبة طارق بن زياد، إذ تساءلت، في نقاش مع جمهور المعهد الثقافي الفرنسي بالدار البيضاء، كيف يمكن لمحارب أمازيغي حديث عهد باللغة العربية أن يأتي بكل تلك الفصاحة؟
p بالتأكيد هناك ارتياب، وأذكر أن هذا ورد بوضوح في إحدى أغاني «هوبا هوبا سبريت». وأظن أنه ينبغي أن نكون فطنين، فأحيانا نحن نقدس ونؤله أي شيء، ونصنع له قالبا معينا. والحال أن طارق بن زياد، مثله مثل أي شخصية تاريخية لها أيضا نواقصها. فنابوليون كان جينرالا، لكن يخبرنا التاريخ أن له ما له وعليه ما عليه. هذه هي الفكرة التي أطرت نظرتي إلى طارق، أي إذا أبعدناه كثيرا خارج الواقع، فلا يمكن أن نجعل منه قدوة، بل حاولنا أن نقول إنه شخص مثله مثل جميع الشخصيات، قام بأشياء لأنه كان يؤمن بها، وله روح قتالية قوية وهدف. أما بالنسبة لتطرقي للقضية الأمازيغية، فهي موجودة في الفيلم، وأظن أننا نحاول أن نستعرض المغرب من كل شقوقه، ولو من خلال عالم قريب من الخيال العلمي أو قريب من الفانطازيا، أي من خلال عالم غير واقعي، علما أنه من الصعب أن تحول عالم الخيال العلمي إلى شيء واقعي.. طبعا هناك تشكيك، وإذا كان هناك من دور للسينما التي أحاول أن أقدمها فهو التشكيك في ما يمنحوننا إياه. فمثلا في فيلم «هم الكلاب»، هناك تشكيك في ما تقدمه لنا الصحافة والتلفزة.. والرسالة هي أننا لسنا هنا لنثق في كل ما يقدمونه لنا. فمثلا، في مرحلة الثمانينات، نلاحظ أننا كنا نثق في كل ما تقوله التلفزة، لأن المواطن المغربي لم يكن يتوفر على خيارات متعددة. الآن، نحن أمام العكس. هناك العديد من القنوات، وهي مختلفة. هناك الجزيرة، فرانس 24، السي إن إن.. إلخ. وهنا، أحيانا نكون على اطلاع على أخبار كثيرة، ولكن ليس لنا رأي، أو لا نريد أن يكون لنا رأي، وأن نكتفي فقط بمشاهدة لالة العروسة.. ومتابعة البرامج المرتبطة بالترفيه.
n أول لقطة في الفيلم هي لقطة اليد المقيدة بالأصفاد إلى القضبان.. مع صوت خارجي يستنطق الشخصية.. يليه مباشرة مشهد طارق (المخنث) وهو يتعرض إلى اعتداء في الفضاء العام من طرف مجهولين.. هل «البحر من ورائكم» فيلم عن المثلية في المغرب؟ وماذا تعني لك أنت هذه الالتفاتة إلى هذه الفئة المهمشة؟ وهل يمكن القول إن هشام العسري مخرج منشغل بالهامش؟
p نعم، جميع الشخوص التي اشتغلت عليها في أفلامي كلها منذ فيلم «النهاية» هي شخوض تقع على الهامش، لأن ليس لها مكان في المجتمع. فبالتأكيد، نحن نتحدث عن مجتمع تقليدي ويحتاج إلى نوع من التعامل. غير أن الشخوص التي تلهمني هي الشخوص المرفوضة والتي ليس لها مكان. وعندما نتأمل الواقع بدقة، نجد أن العديد من الناس يعيشون في الهامش، وهم ليسوا أقلية. مثلا: سكان دور الصفيح، الناس الذين لا يتوفرون على إمكانيات التمدرس، الذين يسكنون في المناطق الجبلية.. إلخ. كل هؤلاء مهمشون. أما جوابا على سؤال إن كان هذا الفيلم عن المثلية، فهو كذلك بكل تأكيد. وقد قال لي أحد المشاهدين أن لقطة الاعتداء على طارق تشبه حادثة الاعتداء على المثلي الذي وقعت في مدينة فاس. نعم هناك بالفعل شبه، لكن فيلمي تم تصويره قبل الحادثة. وأجد هذا مهما، لأننا وصلنا إلى طرح الإشكالية في المغرب: هل نقبل المثلية أم نرفضها؟ وهل نتظاهر بأنها غير موجودة، أم نحاول أن نطرحها للنقاش كي نفهمها؟..
الحقيقة أن النفاق الاجتماعي هو الذي يؤطر علاقتنا مع مثل هذه الظواهر، وهو ما يجعل المجتمع متماسكا. فمثلا، لنتأمل في ما وقع لنبيل عيوش.. فلا أحد يمكنه أن يدعي أن الدعارة غير موجودة، ولكن الإشكال في الزوبعة التي أثيرت حول الفيلم هو أن البعض يقول بأنه لم يكن ينبغي له أن يظهر ذلك، وهناك من يقول بأنه بالغ في تناول الظاهرة، وهناك من ينكر وجودها أصلا. وهنا نستنتج بأن ليس هناك اتفاقا حول لماذا ساءهم الفيلم. كما أن الرفض، في التحليل النفسي، معناه الدخول في أولى مراحل العلاج. وأعتقد أن رؤية أشياء تضرنا مسألة صحية لأن هذا هو طريق العلاج. بل الأدهى من ذلك أنه بات بإمكاننا، الآن، الحديث - ويجب أن نقول ذلك بوضوح- عن صناعة الدعارة، وعن عائلات تعيش من هذا القطاع. كما يمكننا الحديث عن قضايا أخرى، مثل التهريب.. هناك أشياء لا يقبلها المجتمع، ولا يقبلها القانون، لكنها موجودة..
n الفيلم يقدم لنا طارق ليس كمثلي بل كمتحول جنسيا (على مستوى اللباس والممارسة المهنية). ونحن نعلم جميعا كمغاربة أن هذه المهنة في السبعينيات، وحتى الثمانينات، كانت مقبولة اجتماعيا. أما الآن، ومع التحول الذي وقع، انقرضت هذه المهنة، وأصبح ينظر لممتهنيها كمثليين.. وهذا الأمر أشبه بنوع من التراجع الذي أصاب المجتمع، من مجتمع متحرر ومتسامح إلى مجتمع أصولي ومنغلق..
p فكرة الفيلم جاءتني من ملاحظة بسيطة. ففي طفولتي، كنا نرافق «الهدية « بفرح، وكان بإمكانك أن تلاحظ أن شخصا بشاربه يصفق، وكان الأمر عاديا جدا، ولم يكن هناك أي مشكل في رجل يضع الماكياج ويرقص على «الكارو» مرتديا ملابس نسائية. لكن مع الوقت، لاحظنا أن هذا الأمر أصبح معيبا، وينظر إليه كشيء غير عاد وغير مقبول. بالفعل نحن الآن أمام أزمة هوية، فلا نعلم هل نريد أن نكون مغاربة أو أفارقة أو مسلمين متطرفين. والأهم، أنه في السابق كان الناس يتميزون بالعفة، أي يتعففون من الانتماء لأي مناخ فاشي يجعل من صاحب الصوت المرتفع هو الأصلح. أما حاليا، فالناس يفضلون التحيز لصاحب الصوت المرتفع لأنهم لا يريدون التفكير في أي شيء، ويكتفون بالمصادقة على كلامه، وعلى أن مجتمعنا نقي، وليس به رجال يرقصون، ولا دعارة، ولا متسولون.. وبالفعل، فنحن نعيش هوة كبيرة بين ما نحن عليه في الواقع وبين الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا، وكيف نتخيل ما نحن عليه.. وهي مسألة قناعات وانكفاء على الذات. وأظن أنني لم أحاول أن اتطرق إلى هذه الفكرة بطريقة واقعية، لأنني لا أريد أن أقع في الخطاب أو أن أستعرض أفكارا، لأن هناك إمكانية أن لا يفهم بعض الناس ذلك..
n اخترت في هذا الفيلم اللونين، الأبيض والأسود، مع استحضار الألوان ثلاث مرات فقط، هل هذا اختيار جمالي فرضه الموضوع، أم نوع من إبراز العضلات يضعك دائما إلى جانب الاختيار الصعب الذي يستفز المتلقي، أفقيا وعموديا.. أم ببساطة لأنك اخترت أن تعبر عن اللاوعي بالأبيض والأسود، وبالألوان عن لحظة الوعي بالذات؟
p أظن أن أهمية الأبيض والأسود تقع في مستويين اثنين. الأول هو أنني أحكي قصة تتم في عالم غير واقعي، أي فانطازيا تتحدث عن الماء والحيوان والناس القذرين. وثانيا أنا أتحدث عن الحياة الداخلية للشخوص، عن أحاسيسهم، ولا أريد أن أقع في الخطاب النظري عن المثلية والتحول الجنسي وطارق بن زياد والعلاقة مع السلطة. البيديهيات لا تشغلني. ما كان يشغلني هو أن المجتمع المغربي يتراجع ويعيش لحظة يمكن أن نسميها «الجليد العاطفي»، وأنا حاولت أن أحكي هذه القصة في مجتمع ليس هو المجتمع النمساوي أو الفيلندي أو الدانماركي الذي تتهاطل فيه الثلوج باستمرار. نحن مجتمع متوسطي، تشرق فيه الشمس، وفيه أشياء جميلة، لكن الناس لا يتوفرون على الوقت الكافي، ولا الإمكانيات، ليروها. استعملت اللونين الأبيض والأسود لأركز على تجريدية الشخوص والفضاء، وحاولت أن أضفي عليها قيمة «حكاية خرافية» fable ، أي أن أحداث الفيلم تجري في عالم آخر ليس هو عالمنا، هي تقريبا قصة مرموزة (أليغوريا)، قريبة من الشعر، ومن كل ما هو منفلت ولا يمكن القبض عليه.
أما الفكرة الثانية التي قادتني نحو التفكير في اللونين الأبيض والأسود، فهي: كيف يمكن التعبير بطريقة دراماتورجية، أي على مستوى الكتابة، عن شخوص تخضع لظروف قاسية ثم يقع التحول. فبشكل من الأشكال، فإن فكرة كل فيلم هي «رحلة التحول». وهنا، وفي هذا المستوى، لاحت لي فكرة بسيطة، هي فكرة الألوان، انطلاقا من التساؤل التالي: كيف يمكن التعبير عن «الإحساس» لدى شخوص أهم ما يميزها هو انعدام الإحساس. وهكذا، ظهرت الألوان ثلاث مرات. الأولى في اللحظة التي وجه شخص لكمة إلى شخص آخر، وصورتها بالألوان عل شكل انفجار، كما يحدث في أفلام الكارتون (طوم ودجيري). وهذا تعبير عن نوع من التهكم العاطفي، كما أنه تعبير عن الألم كعاطفة. هي شخوص تتعذب في المجتمع الذي تعيش فيه، أما اللون فهو تعبير عن لذة الضارب وألم المضروب. بينما حضر اللون في المرة الثانية عندنا رأى طارق زوجته بعد مدة من الغياب، وهو تعبير عن أن هناك شيئا عاطفيا انبعث فيه من جديد، من قبيل الذكريات التي عاشها معها، وذكرى أولادهما، واللحظات الجميلة التي قضياها معا. والمرة الثالثة والأخيرة، تظهر الألوان، حين تنتهي كل المشاكل تقريبا: فعندما قام طارق بالحداد على أبنائه، ظهر له البحر بالألوان، قذرا شيئا ما ويميل نحو الصفرة.
n ألا يمكن أن نعتبر بأن اللحظات الثلاث التي استعملت فيها الألوان هي لحظات تطهير؟
p طبعا هي كذلك، لأنها تصور لحظات الهزات، أي تلك اللحظات التي تستعيد فيها الشخصيات إنسانيتها. فمثلا، في الفيلم نرى إنسانية رجل نحو حصان، في حين أنها منعدمة نحو ابنه.. إنسانية شرطي نحو ضحيته.. إنسانية مثلي جنسيا نحو معشوقه الذي لا يحبه. إنه نوع من الحب الضائع في عالم عقيم ليس فيه أحاسيس، وليس فيه تعاطف بين الناس، وليس هناك لطف، ولا أي تواصل حقيقي. بل هناك دائما سوء التفاهم. وهذا ما نجده في الواقع أيضا..
n وفي النهاية، الفيلم يقدم حكاية بسيطة، لكن طريقة المعالجة هي التي أملت هذا الاختيار ومنحتنا فيلما على هذه الشاكلة.
حوارات مقتضبة، تكرار مجموعة من الجمل المسكوكة، الإيقاع البطيء، اللقطة المشهدية، اللازمان واللامكان.. هل أنت مخرج فكيكي؟ وما هي درجة قرابتك إلى جاك دريدا؟
p أظن أن هذا الفيلم هو «فيلم قطيعة»، أي تولد عن أفكار لا أريد معالجتها سينمائيا كاملة. لم أكن مهتما بالوصول إلى الجملة المفيدة. فالعالم الداخلي الذي كانت تتحرك شخصيات الفيلم هو عالم قطيعة وانفصال، وأيضا عالم عنف، وأردت أن أنقل الضغط الممارس على مشاعرها. أنا أدرك بأنني أقدم سينما تزعج، وأنني مهتم بالجانب القذر في المجتمع، حيث العنف والدم والمني والبصاق والخمر المسفوك على الأرض.. أي ذلك العالم العضوي وهو في حالة تفكك.. نرى في الفيلم مخلفات الحيوانات، الكبش الذي يذبح، الدم الذي يتدفق نحو البالوعة.. وأنا أحاول أن أوجد سينمائيا في هذا العالم.. وأن أحكي قطائع العالم عبر هذه العلامات.. والسفر في لاوعي الشخصيات عبر القلق الذي يعبرون عنه ويعيشونه. وفي الواقع، ليس هناك أي تركيب متسلسل في هذا الفيلم. بل إنني أعتقد لأنني قمت بإخراج فيلم فيه ثرثرة، لكنها ثرثرة يتحدث من خلالها الجميع في وقت واحد. ليس هناك أي حوار، بل هناك سيادة للتنافر وعدم التناغم. فشخصيات فيلم «البحر من ورائكم» تبحر تحت الماء، شخصيات غريقة، ولا قدرة لها على الكلام.. أما استعمال المسكوكات المكررة مثل «علاش الكلاب كيتشامو» فهذا تعبير عن الفضاءات التي تتكرر وتتكاثر في المكان نفسه، فنحن بشكل أو بآخر في الفضاء نفسه، لكننا نتحرك بشكل دائري ونعود. وهناك لقطة أحبها كثيرا لأنها بالفعل تحمل طاقة الفيلم، وهي حين يمشي طارق على قواقع الحلزون ثم يبتعد. إنها لقطة قصيرة تشتغل داخل الفيلم، ليس لأنها جميلة، بل لأنها منسجمة مع القصة. فأنا غير مهتم بإخراج لقطات جميلة، أو فيلم يتكون من لقطات جميلة. فأي لقطة إما أن تكون موظفة بشكل يدعم بناء الفيلم وموضوعه وفكرته، وإما فإنها لقطة مقحمة.
وبطبيعة الحال، من الصعب محاولة خلخلة وتغيير خطاطة الكتابة السينمائية القائمة والمكرسة التي تعلمنا كيف نصنع فيلما. لكن السؤال هو: كيف تفعل أنت ذلك مع كل الشك المحيط بهذا الفعل؟ فالفيلم يُصنع، في نظري، بالشك أكثر منه بالاقتناع. وأنا قررت أن أخاطر من أجل ذلك. ولهذا فأنا لا أصور أبدا لقطة واحدة بأربع طرق، بل هي طريقة واحدة. وأنا عموما أشتغل على اللقطة المشهدية، لأنها في رأيي الأكثر تعقيدا والأكثر أهمية، وبواسطتها فنحن نستثمر الفضاء. فالكاميرا موجودة ليس من أجل التصوير، بل لاستثمار الفضاء. فأنا لا أصور الممثلين، بل الفضاء الذين يتحركون فيه. الممثلون جزء من الفضاء..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.