عندما يستنكف الضمير العالميعن تسمية الإبادة باسمها يكون قد اختار، بوعي شقي، أن يتنكر لإنسانيته، وذلك ما يبدو جليّاً في ما تعرفه غزّة من إبادة معلنة، فبالرغم من حالة الاستعجال الدائمة نلاحظ، بأسى كبير، أن تردّد الضمير العالمي في تسمية الإبادة إبادة ما زال طابعه يُرخي بظلاله على المناخ الدولي، كما أنه يعطّل القرار الدولي النافذ بهذا الخصوص. ومع ذلك، ومن حسن الحظ، أن القضية بدأت تضع نفسها ضمن حالات الاستعجال الكونية راهناً، على مستوى الضمير، وإِنْ كانت دائرة تأثيره دون المطلوب، وما يجب أنينجم عنه من قرارات ومواقف، إزاء وقف الحرب، في موازاة تحرّك دولي متصاعد بشأن ما يجب فعله لإقامة»دولة فلسطين» الحرّة، التي تنتظر منذ قرار التقسيم (7491). وهما مساران قد يبدوان متكاملين بالنسبة للمتفائلين وعشّاق التاريخ السياسي للحروب التحرّرية، لكنهما يبدوان متعاكسين، يلغي الواحد منهما الآخر، منظوراً إليهما من زاوية الاستعجال الكارثي، كما قد يلخّصها السؤال: هل يكون العمل على ميلاد الدولة، في الوقت الراهن، طريقة للهروب من استعجالية وقف الحرب وملازمتها (الإبادة) وفتح الطريق نحو وصول الخبز إلى المحتضرين؟ وعلى كلٍّ، هناك دينامية فلسطينية في وعي العالم ومن أهم ما يحدث فيها، واقعيا، هي التحوّلات التي تمس جوهر الموقف العالمي: ونتابع مواقف دول تتنقل من دعم لامشروط لحكومة نتنياهو وجيشه إلى حاملة للراية الفلسطينية، كما فرنسا وجزء مهم من أوروبا، والتحاق دولة الوعد البلفوري المملكة المتحدة، بقوة هذا الدعم، ورأيعام أكثر حماسا في مواجهة وحشية الاحتلال الإسرائيلي، ويسار داخل معسكر السلام الإسرائيلي بدأ في النهوض، بعد أن كانت قوته قد ابتلعتها الموجة الدينية التلمودية داخل المجتمع وأبعدته كليّاً، من خلال جمعيات شجاعة ومؤرّخين لهم تاريخ خاص فيدراسة المحرقة، من قبيلعمير بارتوف وعاموسغولدبرغ وجمعية بتسليم. وهناك الأصوات العادلة، ومنها صوت فيليب دوفيلبان الذي يبدو أنه يحمل القضية عنواناً لضميره، ومشروعاً سياسياً لتحرير أوروبا من المشروع الأمريكي العسكري التلمودي… وهو يبدو في معاركه الإعلامية داخل الوسط الفرنسي مثل سيزيف «يحمل شمسا متعبة فوق ظهره». وهو من المدافعين عن إعادة تسمية الأشياء بطريقة صحيحة، ولعلها طريقة في رفع بؤس العالم الذي أبعدته مفاهيم الإعلام البديلعن الحقيقة… والسردية الجديدة المتفرّعة عن موازين القوة والتجديد المستمر لعقدة الذنب الأوروبية أو الأورو أمريكية إزاء إسرائيل الموروثة عن … النازية! وهاته المفارقة وحدها صارت تتطلّب التفكير العميق في مصير الوعي العالمي، وتستحقّ أن يتحدّث فيها كتّاب الوعي والفلسفة وحرّاس الضمير الكوني، ويتساءلوا عنها: كيف تصبح دول الغرب الجديد، المنبثقة عن فكرة مقاومة النازية الرهيبة ومحاربة الإبادات، رهينة عقدة الذنب إزاء الممارسات نفسها، وعاجزة عن النظر مجدّداً في الهاوية التي سبق أن هزّت كيانها ووجودها الإنساني برمته في منتصف القرن الماضي؟ ووسط هذا التنكّر لهوية الإنسان الحر، الوارث للمقاومة في وجه الإبادات، ارتفعت أصوات الاستنكار، وسعت إلى استعادة صوتها بعد الصمت المشبوه، كما وصفته الحاخام الفرنسية ديلفينهورفييورالتي نشرت نداء بيانا في ماي الماضي، تعيب فيه على نفسها بأنها سكتت، «ثم قرّرت أخذ الكلمة مجدّداً أمام حلم نتنياهو بإعدام شعب آخر فيغزّة». لا أحد يشك بأن كثيرين ممن يقاومون النزوع النازي يكون «حبّهم» لإسرائيل الدافع والمحفّز بشكل كبير، ومن زاوية الخوف، ما يؤدي إليه»الإفلاس الأخلاقي» الذي تعيشه والانزلاق السياسي الذي تتدحرج فيه. جاء متأخّراً جدّاً، كما هو الموقف من الدولة الفلسطينية مع وجود الفارق! وقد انتظر الفلسطينيون طويلاً، وفي طوابير من الشهداء، أمام الأممالمتحدة ميلاد دولتهم. كما تألمنا كثيراً لكون الضمير العالمي يبيت سهرانا طويلا أمام شاشات التقتيل، ويستيقظ متأخّراً فيالوعي الموالي! ولا أحد منا يشك بأن حالة الاستعجال هي وقف الحرب، وقف الإبادة ووقف المجاعة والتقتيل، ثم الذهاب إلى دولة الحل الأسمى. ومع ذلك، أينما يستيقظ الضمير الحي تستيقظ معه البداهة التراجيدية، التي بمقتضاها صارت غزّة أقسى ما كتب الله في رثاء الأرض! لا يمكن أن نسقط فيالسجال القطعي، لاسيّما وأننا في معركة الوعي العالمي نتابع تبلور تيار داخل إسرائيل، بعيداً بهذا القدر أو ذاك عن أسر المحتجزين التي تدور معركتها حول إطلاق أبنائها، ومنهم من ذكره رئيس الوزراء الفرنسي السابق، فيليب دوفيلبان، في مقالة له، متحدّثاً عن أشخاص لهم الشجاعة الكافية ليكونوا ضد التيار، ومنهم الأمريكي الإسرائيلي عمير بارتوف الذي يعدّ أحد المؤرّخين المعروفين دولياً في دراسة تاريخ الإبادة. يوجد في تقاطع الدرعين العسكريين أمريكا وإسرائيل، تعتبر المحرقة تخصّصه ومجال شهرته، سبق له أن شارك في حرب1973. ولهذا يملك براءة الشهادة ضد العماء السياسي، ويعبّر عن رعبه مما شاهده فيغزّة.. ولم يكتف بالحديث عنجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وأفعال الإبادة الممنهجة. وقف هو نفسه ضد محاولة تلبيس الحقّ فياتهام كل من يهاجم إسرائيل في هاته الحرب أنه موسوم بمعاداة السامية! ومن قوة المحاججة به أنه تعرّض في كتابه»الجبهة الغربية» للشحن الأيديولوجي للجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية، ويقارن ذلك مع ما يحدث في إسرائيل اليوم. وهو شخصية علمية جامعية كان قد وقف في وجه الدعوة إلى «تكسير العظام»التي أمر بها وزير الحرب، إسحاق رابين، ضد أطفال الانتفاضة الأولى في نهاية 1987، وكان وقتها أستاذاً فيجامعة تل أبيب، وراسل الوزير رابين، ليحذّره مما رأى في دعوته، وما «يذكّره بالشحن الأيديولوجي النازي في بدايته»، واستعرض كذلك فكرة «المجال الحيوي» التي اعتمدها الجيش الألماني في «تحديد الشعوب التي يجب أن تنقرض»! وكان ردّ رابين على «مشابهة الجيش الإسرائيلي بالجيش النازي». ويرى هذا المؤرّخ أن الحرب أصبحت غاية في حد ذاتها: ولا وجود لهدف سياسي يمنع تحوّل النزاع الحربي إلى «تدمير بلا حدود»، إضافة إلى انتقاد «أغلبية الإسرائيليين الذين لا يريدون الحديث عنغزّة، بل لا يودّون حتى معرفة ما يجري فيها»، وأن أي حديثٍ عنالضحايا ما هو إلا دعاية من العدو أو من وسائل الضغط الدولي. وهو عكس ما تم مثلاً بعد حرب بيروت ومجزرة صبرا وشاتيلا في صيف 1982. وقوة الصوت الطالع من «تاريخ المحرقة»، والذي يمثله المؤرخ عمير بارتوف وزميله عموس غولدبيرغ هي هذا التقابل الذي يقيمه بين «شباب إسرائيل اليوم وشباب ألمانيا النازية البارحة في تبرير الإبادة وإعطائها الشرعية». وفيالتشابه الذي تكشفه صورة النازي عن نفسه، صورة الجندي الإسرائيليعن نفسه أيضاً، حيث يقول صاحبنا إن هذه الصورة ترسم صورة الآخر، الفلسطيني هنا، باعتباره فصيلة «تحت إنسانية». ويورد المؤرخ مثال المنشورات ضد الروس التي كان النازيون يوزعونها، واعتبرت وصف الروس بالحيوانات إساءة.. للحيوانات (!). ولا يكتفي أهل الرأي الذين ذكرناهم، فيالغرب أو في قلب إسرائيل، بالكتابات المبدئية من بعيد، بل امتلكوا الشجاعة فيالذهاب إلى الجامعات (مثل جامعة بيرشيبا)، ومواجهة الطلبة الغاضبين ومناصري نتنياهو ومواجهة «التوافقالأيديولوجي» أو التسوية الأيديولوجية التي يُحتضن بها جيش إسرائيل في حربه على غزّة. كما فيها مواجهة ونقد ذاتي حقيقيان، يتراجع بواسطتها عمَّا كتبه هو شخصيا فينوفمبر 2023 في «نيويورك تايمز»، عندما قال إنه «لا يملك أي دليلعلى وجود إبادة فيغزّة»، كأنه صار مقتنعا بأن الإبادة قائمة كما عرَّفتها الأممالمتحدة سنة 1948،أي وجود «نية التدمير الشامل أو الجزئي للسكان أو التسبّب في خسائر كبرى»، وفي ظروف وجود تؤدّي إلى تدميرغزّة. لعلنا هنا نستحضر إدوارد سعيد، وإصراره على ضرورة مخاطبة الضمير العالمي، والشارع في الغرب الأورو أمريكي أساسا، وعموم المعمورة، من أجل نصرة القضية الفلسطينية.