فتاح تقدم الخطوط العريضة لمشروع قانون المالية لسنة 2026    مؤسسة الدوحة للأفلام تعلن عن مجلس الأمناء الجديد    الملك محمد السادس يفتح مرحلة جديدة من التحول: استثمار تاريخي في الإنسان والطاقة والدفاع    بضغط أمريكي.. الجزائر تتهيأ للتخلي عن "البوليساريو" والبدء في مسار سلام مع المغرب    الخطوط الملكية المغربية و"تشاينا ايسترن" يوقعان شراكة استراتيجية لتعزيز الربط بين الصين وافريقيا    "ماركا" الإسبانية: عثمان معما يجسد الروح القتالية ل"أشبال الأطلس"    الإنجازات التي تحققها كرة القدم المغربية هي ثمرة الرؤية الاستراتيجية والشاملة لجلالة الملك (فوزي لقجع)    ميزانية القصر الملكي ترتفع بنسبة 2.5% في مشروع مالية 2026    إلى ذلك الزعيم    الذهب يرتفع قليلا بعد تراجعه من أعلى مستوياته القياسية    المغرب يتوقع نموا ب4.6% وعجزا في الميزانية عند 3% سنة 2026    الخطوط الملكية المغربية وChina Eastern Airlines توقعان على اتفاق شراكة إستراتيجية لربط الصين بالقارة الإفريقية    من وحي المؤتمر الوطني الثاني عشر .. رسالة التجديد والثقة والإصلاح من أجل مغرب العدالة الاجتماعية    مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون مالية 2026 والنصوص المرتبطة به    تشديد أمني في مطار بفلوريدا بعد رصد برج مشبوه قرب طائرة ترامب    مبعوث ترامب: واشنطن تعمل على اتفاق سلام بين المغرب والجزائر خلال 60 يوما    جلسة عمومية لمجلسي البرلمان اليوم الاثنين لتقديم مشروع قانون المالية    الملك محمد السادس يهنئ منتخب المغرب للشباب بعد تتويجه التاريخي بكأس العالم    في إنجاز غير مسبوق .. أشبال الأطلس يكتبون التاريخ بالشيلي ويصعدون إلى قمة العالم    أخبار نهائيات كأس العالم لكرة القدم (الشيلي 2025)    ليلة لا تُنسى في مدن المغرب .. الجماهير تخرج إلى الشوارع والساحات احتفالا بإنجاز أشبال الأطلس    خيارات اتحادية وفقط    توقيع مؤلفات جديدة في فعاليات ملتقى سينما المجتمع التاسع ببئر مزوي    هاجسُ التحديثِ في الأدب: دراسةٌ في النُّصوصِ الأدبيَّة لعبد الله العروي    التشكيلي المنصوري الإدريسي يمسك ب «الزمن المنفلت»    في موسم التحالفات الكبرى    علاج رقمي أم عزلة جديدة؟    "مالية 2026" تكشف رؤية استراتيجية لترسيخ السيادة الدفاعية والرقمية    "مشروع المالية" يخطط لإحداث قرابة 37 ألف منصب شغل في الإدارات    بورصة البيضاء تغلق بحصيلة إيجابية    صندوق جديد بمقاربة مندمجة .. الحكومة تخطط لإعادة هيكلة التنمية المجالية    اليوم الثالث من فعاليات المهرجان الوطني للفيلم يتميز بالمرأة والحرية والخيال    أونسا: استعمال "مضافات الجبن" سليم    وفاة أم وابنها وإصابة آخرين في حادثة سير خطيرة ضواحي الجديدة    مرتيل.. مصرع طالبة واختناق أخرى بسبب تسرب غاز البوتان    وزارة الصحة تطلق الحملة الوطنية لتشجيع الرضاعة الطبيعية    من سانتياغو إلى الرباط... المغرب يغني للنصر ويرقص على إيقاع المجد    فرنسا..استمرار إغلاق متحف اللوفر عقب عملية سطو    لقاء حصري مع عبد الرحمان الصروخ يكشف تفاصيل صادمة حول نزاع عائلي دموي بدوار الرملة ببني جرفط    خامنئي: اعتقاد ترامب أنه دمّر المنشآت النووية الإيرانية "وهم"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    الكاف يشيد بالتتويج المستحق للمغرب بكأس العالم تحت 20 سنة    سرقة في اللوفر.. نحو 60 محققا يلاحقون اللصوص والمتحف يمدد إغلاق أبوابه    وزارة الانتقال الطاقي تكشف عن مشاريع لتأهيل وتدبير النفايات المنزلية بإقليم الجديدة    المنتخب المغربي لأقل من 20 سنة يحقق المجد العالمي.. تصريحات مؤثرة للاعبين بعد التتويج التاريخي بكأس العالم في الشيلي    احتجاجات "لا ملوك" في مدن أمريكا تستقطب حشودا كبيرة للتنديد بترامب    لا شرقية ولا غربية... وإنما وسطية    المهرجان الوطني للفيلم بطنجة.. التاريخ في مرآة السينما ووجع المجتمع    ساعة أمام الشاشة يوميًا تخفض فرص التفوق الدراسي بنسبة 10 بالمائة    حسن واكريم.. الفنان المغربي الذي دمج أحواش والجاز في نيويورك    مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    دراسة: مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    "الصحة العالمية": الاضطرابات العصبية تتسبب في 11 مليون وفاة سنويا حول العالم    العِبرة من مِحن خير أمة..    حفظ الله غزة وأهلها    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أولاً: المسؤولية المجتمعية أفق جديد للتضامن الاجتماعي في عالم متغير .. 3

لا جدال في جدة مفهوم المسؤولية المجتمعية في أدبيات النظم الاقتصادية والإدارية، وفي أدبيات المقاولات والمؤسسات الإنتاجية، حيث يرتبط المفهوم بجملة من السياقات والأطر النظرية، التي لا يمكن فصلها عن مباحث ونظريات المقاربات ذات الصلة بسجلاَّت البحث في العلوم الاجتماعية.
نتابع في حلقات هذا العمل، السياقات التي أنتجت مفهوم المسؤولية المجتمعية في عالم جديد. ونبحث في صوَّر وكيفيات تلقِّي الثقافة الاجتماعية في مجتمعنا لهذا المفهوم، حيث نبحث في الشروط والمداخل المجتمعية والسياسية والثقافية، التي تساعد في عملية التهييء لولوج دروب المسؤولية المجتمعية وما يتصل بها من قيم.
نعتقد أن مفهوم المسؤولية المجتمعية في دلالاته العامة، ليس مفهوماً حديث الابتكار، إن تداوله بالدلالات الجديدة التي مُنحت له في منتصف القرن الماضي، يرتبط بسياقات ومآزق محدَّدة، تندرج ضمن نظام اقتصادي معيَّن. كما أنه ليس هناك اتفاق حول المفهوم في مختلف جوانبه وأبعاده، الأمر الذي يكشف أننا أمام مفهوم في طور التشكُّل والبناء. وسنتبيَّن في صفحات ومحاور هذا العمل، جوانب عديدة من دلالاته الجديدة في علاقتها بأنماط الإدارة والاقتصاد في العالم المعاصر، أو في كيفيات مواجهة الإجراءات التي يكفلها وتُسْتَنْبَط منه، لحظة مجابهة التحديات الجديدة وتحولات القيم في عالم جديد.
نتبيَّن بعضَ ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة في التعريفات التي تقدم للمفهوم، سواء منها المنسوبة إلى الباحثين أو التي تتداولها المؤسسات والمراكز البحثية، التي تُعْنَى بحقول المسؤولية المجتمعية ومكوِّناتها، وسُبُل الارتقاء القانوني والمؤسسي بأدوارها، لضمان تحقيق الأهداف التنموية المتوخاة منها. ولأننا نتصوَّر أنه لم يحصل بعد تشبُّع نظري في المفهوم، فإن المشتغلين به يضطرون في الأغلب الأعم، اللجوء إلى تحديدات إجرائية مَرِنَة، تمنحهم إمكانية توسيع أو تضييق الدلالة التي يحملها، وذلك حسب سياقات ومجالات تداوُله، الأمر الذي يجعلنا نُعايِن في الخطابات المتداولة عنه جوانب من كيفيات تطوُّر عمليات استوائه النظري.
يحصل التشبُّع النظري في المفاهيم المستخدمة في العلوم الاجتماعية في سياق تطوُّرها، حيث يمكِّن تَداوله من ضبط مُختلف طبقات الدلالة، التي تحصل داخل فضاءات بحثية متعددة. وتستقر الدلالة في اتصال وانفصال عن المواد والمعطيات التي سمحت بحصولها، الأمر الذي يمهد في سياق أعلى من التطور ببناء نظرية في الموضوع. ونتصور أنه لن يتم صقل المفهوم وضبط العناصر المكوِّنة له، إلا بالتطوير الذي سينتج عن أشكال استعماله وتوظيفه، بالصورة التي تمنحه استقبالاً البساطة والاتساق، وهما السمتان اللتان تصاحبان المفاهيم عندما تستقر دلالتها نسبياً داخل نسق نظري محدَّد، حيث تصبح صوَّر استعماله والاستفادة منه لاحقاً أكثر مردودية.
نجد الإرهاصات الأولى للمفهوم فيما كتبه الجامعي الأمريكي بوان Bowen (H.R.) سنة 1953، أي منذ ما يزيد عن ستة عقود، محاولاً تحسيس رجال الأعمال بالقيم المرغوب فيها داخل المجتمع الأمريكي، ومُنْتَقِداً بعض رجال الأعمال الذين يعتبرون أن المجال الاقتصادي لا علاقة له بالأخلاق والقيم. وهناك من يعتبر Bowen (H.R.) بوان أب لمختلف التصوُّرات التي منحت لمفهوم المسؤولية المجتمعية للمقاولة، وخاصة في أبعادها المركزية المتعلقة بأخلاقية المقاولة والنجاح في خيار التنمية المستدامة. وسيظل البعد الأخلاقي حاضراً بصور عديدة في مفردة المسؤولية المجتمعية، حيث تمارس كلمة المسؤولية بحمولتها الأخلاقية ما منح ويمنح المفهوم الطابع الذي أشرنا إليه، إلا أن تتميمه بمفردة مجتمعية يُقَلِّص في نظرنا من بعض معانيه المتصلة بالفرد، لتضعه وتضع المراد منه في قلب المجتمع، فيصبح في السياق الذي نحن فيه مكافئاً للتضامن والتآزر، والمشاركة في مواجهة القضايا المرتبطة بإشكالات التنمية في أبعادها الشاملة.
تتضح ملامح ما نحن بصدده في التعريف الثلاثي، الذي يُحَدِّد المسؤولية المجتمعية بكونها التزام اجتماعي يَشْرِطُه تَفَاعُل واستجابة بين مختلف مكوِّنات المجتمع، حيث تشير كلمتي التفاعل والاستجابة إلى مواقف إيجابية تَقْرِنُه بأخلاقيات العمل، المرتبطة بالقوانين والقيم المشتركة. ولا شك في كون المعطيات المشار إليها بكثير من التكثيف في العبارات السابقة، تبرز الطابع المركَّب والمعقَّد للمفهوم.
ففي نظر كثير من الاقتصاديين، تَحْتَرِمُ المقاولات كامل مسؤولياتها عندما تستجيب لطموحات أصحاب أسهمها وتُراكم ثرواتهم، وإذ ذاك يمكنها أن تقوم بدور آخر يجعلها طرفاً فاعلاً ومساهماً في التنمية المجتمعية، كما يمكنها أن تتفاعل مع مقتضيات المنزع البيئي ومتطلَّبات حقوق الإنسان، فتصبح بفضل كل ما سبق، أي بفضل مبادراتها التطوُّعية في الشؤون العامة فاعلاً مساعداً في تحقيق برامج التنمية المستدامة.
يترتَّب عن التوضيحات السابقة، أن مفهوم المسؤولية المجتمعية ارتبط بتوجُّه يتوخى إيجاد صيغ تسمح للمؤسسات الإنتاجية داخل المجتمع بالمشاركة والمساهمة في خدمة الصالح العام، أي مواجهة مختلف تحدِّيات الاقتصاد والتنمية في أبعادها المتنوِّعة (البيئة – الثقافة – التعليم – الصحة). ولم يكن الأمر يتعلق في كل هذا، بتقديم المساعدات الخيرية أو المساعدات المرتبطة بمناسبات في الإحسان محدَّدة، بل إن الأمر يندرج في إطار تصوُّرات ومفاهيم جديدة، تضمن فعالية اجتماعية واقتصادية مقنَّنة، بهدف إنجاح مخطَّطات وبرامج التنمية داخل المجتمع.
إن ما يُبعد هذا التصوُّر عن المنظورات الأخلاقية ذات الطابع الخيري والإحساني، هو اعتماد المسؤولية المجتمعية على مجموعة من القيم الجديدة المرتبطة بالمؤسسات الإنتاجية الحديثة وقيمها، يتعلق الأمر بالشفافية والنّزاهة كما يتعلق بالمبادرة والانضباط الهادفين إلى إيلاء المجتمع حقه من الاهتمام والعمل الجماعي، ويترتب عن ذلك في النهاية نزوع يتوخَّى تحقيق العدالة.
لا ينبغي أن يُفهم من كلامنا هنا، أننا ننتقد أعمال الإحسان في ذاتها، فأدوارها المعروفة والمقدَّرة لا علاقة لها بعملنا، إن نقدنا موجَّه لمسألة عدم تمييز بعض الباحثين بين الروح الأخلاقية في المقاولة وبين أعمال الخير والإحسان. صحيح أن بعض دارسي المفهوم في سياقات تبلوره الأولى، ربطوا بينه وبين ما أطلقوا عليه التأثيرات البروتستانية، إلا أن المنزع الأخلاقي في المسؤولية المجتمعية اتخذ أبعاداً أخرى ساهمت بدورها في بلورة ما يساهم في تطوير النظر في البعد الأخلاقي وأجرأته داخل المقاولات. وما عزَّز هذا البعد هو التأويلات الأخلاقية والتأويلات ذات المنزع الاشتراكي، وقد حاولا معاً البحث عن مبادئهما العامة وتقريبها من بعض جوانب المفهوم وما يرتبط به من أهداف.
لقد تَمَّ ابتكار المفهوم ليمارس عمليات تعزيز وتدعيم قيم التعاضد والتضامن، حيث يتيح دعم الأنشطة الثقافية والبيئية من طرف المقاولات داخل المجتمع، ما يمكِّن من الإسهام كما بيَّنَّا في تحقيق بعض مطالب التنمية. وتزداد أهمية المفهوم وما يرتبط به من قيم، عندما نعرف أن الإجراءات المتعلقة بتدبيره، تتم اليوم في إطار احترام الأنظمة والقوانين المؤطرة لنظام المجتمع.
ولا شك في كون المكوِّنات المحدّدة لجوانب من بنية المسؤولية المجتمعية، تضعنا أمام البعد الاجتماعي، ولا يصبح هذا البعد واضحاً إلا عندما نربطه بالمكوِّن الثقافي، الذي يَبْرُز في التزام المؤسسات التي تأخذ بمبدأ المسؤولية المجتمعية في القيام بدعم البعد الثقافي والفضاءات الثقافية والفنية، حيث يحضر التواصل والتلاحم، ويتم ذلك في إطار البرتكولات المرتبطة بمفهوم المسؤولية المجتمعية.
نعثر في المقاربات الرامية إلى ضبط وتعيين مجالات تَشَكُّل المفهوم، على جملة من القضايا المرتبطة بالمجال الثقافي، ومجال الاقتصاد والمجتمع والبيئة، مع رابط مشترك يحضر عندما تتم عملية استحضاره، كما يحضر ضمنياً بغيابه، بحكم أن موضوع المسؤولية المجتمعية يتوخَّى تعزيز سبل العدالة والتنمية داخل المجتمع.
نستنتج من تحديدنا لمكوِّنات ومجالات المسؤولية المجتمعية، أن الروح المتوخاة من استعماله داخل مؤسسات الثروة والإنتاج، تكشف أننا أمام منظور يروم ابتكار خيار ومجموعة من الإجراءات بهدف التفاعل الإيجابي مع مآزق المجتمع وقضاياه. إضافة إلى أنه يلعب دور المحفز لجعل الفاعلية الإنتاجية، تنخرط في مجابهة قضايا الشأن العام، الأمر الذي يساهم في النهاية، في توسيع دوائر المعنيين بهذا الشأن. فلا يعود الأمر مقتصراً على الدولة وحدها، بل يضاف إليها المجتمع ممثلاً في فئة رجال الأعمال، وممثلاً أيضاً في مؤسساتهم المنتجة للثروة، وعلى رأسها المقاولات العابرة للدول والقارات، والمقاولات الكبرى التي تتيح لها آليات السوق المفتوح، الإنتاج المتصاعد لعالم ترتفع وتائر الاستهلاك فيه، بصور لا عهد للأزمنة السابقة بها. ويترتَّب عن ذلك ارتفاع معدلات الثروة بشكل يتجاوز ميزانيات الدول، الأمر الذي يفضي إلى التفكير في ضرورة إشراكها في تدبير مآزق وأزمات التنمية، في مجتمعات تزداد الفوارق داخلها وفيما بينها، بأشكال تدعو إلى النظر في كيفية تحقيق التوازن والعدالة. وضمن هذا السياق نشير إلى كون بعض الدارسين يدرجون مفهوم المسؤولية المجتمعية ضمن مبتكرات الاقتصاد النيوليبرالي، حيث يعمل بعض رجالاته على ابتكار خيارات جديدة للإنقاذ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.